من المؤكد أن اللجوء إلى خدمات جماعات الضغط أو "اللوبيينغ" أصبح من ضروريات السياسة عندما يتعلق الأمر بتسويق صورة البلد لدى صانعي القرار في واشنطن، فهناك تدار الأمور وتتخذ القرارات. ولا يكفي لدولة مثل المغرب أن تكون فقط صديقة لساكني البيت الأبيض حتى تحافظ على مصالحها، فجزء كبير من القرار السياسي الأمريكي تتم صناعته وإقراره في الكونغرس الأمريكي. ففي واشنطن تدور حرب طاحنة بين مجموعة من الدول ممن تتعارض مصالحها كما هو شأن المغرب والجزائر حيث تدور حروب طاحنة تقودها لوبيات الضغط السياسي باسم هذه الدولة أو تلك. في هذا الملف، ننشر وثائق قد يعتقد البعض أنها مودعة في مكاتب ورفوف، ومختومة بعبارة "سري للغاية"، لكنها في الواقع متاحة للعموم ومنشورة على الموقع الإلكتروني لوزارة العدل الأمريكية، التي تفرض على جماعات الضغط الإفصاح عن أنشطتها وأموالها، حيث تم مؤخرا نشر مختلف العقود المبرمة مع 26 دولة غالبيتها من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تخص الفترة الممتدة ما بين 2010 و2020.
وبالاستعانة بهذه الوثائق الأمريكية، سنكتشف حجم الأموال التي أنفقتها الرباط على جماعات الضغط في واشنطن للترويج لأطروحة المغرب والدفاع عن مصالحه، ومن هم كبار السيناتورات وأعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ ممن يخدمون مصالح المغرب هناك؟ وكيف تعمل هذه اللوبيات جاهدة من أجل الرد على استفزازات لوبيات الجزائر التي تشن حربا بلا هوادة ضد سيادة المغرب على صحرائه؟
وبما أن المناسبة شرط، فمناسبة تطرقنا إلى هذا الملف، هي الوثائق الأخيرة التي نشرتها قاعدة بيانات وزارة العدل الأمريكية على موقعها على شبكة الأنترنيت، التي كشفت عن آلاف الوثائق وعشرات العقود المبرمة بين 26 دولة من مختلف القارات وبين مجموعات للضغط في واشنطن، خلال الفترة الممتدة ما بين 2010 إلى 2020. علما أن هذه الوثائق يتم نشرها تبعا لقانون «تسجيل الوكلاء الأجانب»، الذي يلزم جماعات الضغط بالإفصاح عن أنشطتها ومصادر أموالها، ويمكن لأي كان أي يجد الوثائق التي سنستند عليها في ملفنا هذا متاحة للتصفح على الموقع الإلكتروني لوزارة العدل الأمريكية.
وهكذا، فعندما نقلب جيدا في هذه الوثائق، سنصادف عقودا لجماعات ضغط أمريكية أبرمتها مع جهات في المغرب، غالبيتها تتعلق بدعم مغربية الصحراء والترويج لمقترح الحكم الذاتي. غير أننا يمكن أن نصادف في مقابل ذلك عقودا مضادة تبرمها جماعات ضغط أخرى مع الجارة الشرقية الجزائر للترويج لأطروحة الانفصال، مما يعني أن توجه المغرب نحو خدمات جماعات الضغط في واشنطن له ما يبرره، بل أكثر من ذلك، فهو بات أمرا ضروريا لمواجهة التحرشات الجزائرية من خلال لوبياتها هناك، والتي تجند صحفيين وأعضاء في الكونغرس ونافذين في البيت الأبيض للترويج لأطروحة الانفصال بشكل مؤدى عنه، مما يعني أن معركة حامية الوطيس بين المغرب والجزائر تجري بعيدا عن رمال الصحراء الملتهبة، وبالضبط خلف أسوار البيت الأبيض والكونغرس، وعلى صفحات كبريات الجرائد الأمريكية المؤثرة.
يتوفر المغرب على لوبي ضخم في الولاياتالمتحدةالأمريكية، غالبيته من اليهود الأمريكيين، والذين ينحدر بعضهم من أصل مغربي، ومن المؤكد بحسب المعطيات التي سننشرها أن لوبي المغرب في واشنطن هو الأكبر على الإطلاق (في القارة الإفريقية)، كما أنه الأكثر نشاطا وتأثيرا، ولربما يتجاوز حجمه نشاط لوبي الجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا ومصر مجتمعة. وما يعزز ذلك أن أمريكا نفسها كانت تعتبر المغرب حليفها الاستراتيجي في منطقة شمال إفريقيا، كما أن أطروحة المغرب في نزاع الصحراء لها صدى أكبر في واشنطن أكبر من صدى أطروحة الانفصال التي باتت مقرونة بمفاهيم «الحرب الباردة» المتجاوزة.
ظلت أنشطة اللوبي المغربي بواشنطن ترتكز أساسا على قضية الصحراء المغربية. رغم أن الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تكن تخفي دعمها للمغرب منذ سبعينيات القرن الماضي، فواشنطن وفي عهد جميع الرؤساء المتعاقبين على البيت الأبيض، ورغم أن خطابهم الرسمي ظل يدعم ما يسمونه ب»الشرعية الدولية» و»دعم قرارات الأممالمتحدة»، غير أنهم كانوا في مقابل ذلك من كبار داعمي المغرب بالسلاح والأموال والمعلومة الاستخباراتية، إلى درجة أنه في الكثير من الأحيان تدخلت الولاياتالمتحدةالأمريكية لترجيح كفة المغرب عسكريا في حروب الصحراء التي امتدت من العام 1975 إلى العام 1991، تاريخ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، بمده بأسلحة متطورة تفوق تلك التي تحصل عليها الجزائر من الاتحاد السوفياتي وكوبا، علما أن أمريكا دعمت بشكل كبير مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب في العام 2007. وفي أكتوبر 2018 أدان مجلس النواب الأمريكي جبهة «البوليساريو» ووصفها ب»المنظمة الإرهابية التي تمولها إيران»، غير أن القرار لم يتم تنزيله على المستوى الرسمي، لكن في ال 10 من شهر دجنبر 2020 سيتخذ البيت الأبيض قرارا تاريخيا بالاعتراف رسميا بسيادة المغرب على صحرائه، وهو القرار الذي أحدث رجة كبيرة وخلخل جميع الموازين، علما أن البيت الأبيض لم يبتز المغرب في قضية الصحراء، اللهم إلا بعض المناوشات التي كانت في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما – بفعل تزايد نشاط اللوبي الجزائري – لكن سرعان ما تم تجاوزها.
كل هذه الأمور التي ذكرنا، لعب فيها «اللوبي» المغربي أدوارا كبيرة رغم الشراسة التي يواجهها من «اللوبي» الجزائري الذي يجند شخصيات نافذة على رأسها النائب جون بولتون، الذي سبق له أن شغل منصب مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، قبل أن تتم إقالته عام 2018.