في العالم بأسره، يهتم الناس كثيرا بحياة الملوك، ويزيد اهتمامهم كثيرا عندما يتعلق الأمر بصحة الجالس على العرش. فرغم أن الملك في نهاية المطاف إنسان يمرض كما يمرض باقي بني البشر، غير أنه في مخيلة الكثيرين شخص غير عادي، وتحيط به الكثير من الهالة والرهبة. في ال 14 من شهر يونيو الجاري، أعلن القصر الملكي أن محمد السادس أجرى عملية جراحية على مستوى القلب كللت بالنجاح، وهي نفس العملية التي أجريت له يوم 26 فبراير 2018 بإحدى المصحات الباريسية والتي كان الهدف منها "إزالة الاضطراب الحاصل على مستوى عدم انتظام دقات القلب". وإذا كنا في "الأيام" قد خصصنا في أكثر من مرة ملفات وأغلفة للحديث عن مرض الجالس على العرش، والذي لم يعد طابوها بالشكل الذي كان عليه في وقت سابق، فإننا في هذا العدد اخترنا زاوية أخرى لنتناول فيها البلاغ الأخير الذي يتحدث عن صحة الملك، ولذلك حاولنا أن نخترق افتراضيا أسوار مصحة القصر الملكي، التي أجرى بها محمد السادس العملية الجراحية، لنعرف تاريخها وأسرارها. متى أنشئت؟ ومتى تستعمل؟ ومن له الحق في الاستفادة من خدماتها؟ ومن هو الطبيب الذي يشرف عليها؟ وكيف تطورت ما بين حكم محمد الخامس ثم الحسن الثاني فمحمد السادس؟ أسرار المصحة الملكية بالمشور السعيد بالعودة كثيرا إلى الوراء، نعرف أن القصر الملكي بالرباط شيد في أواخر القرن الثامن عشر، وحينها كانت مدينة فاس هي مركز بلاد المغرب الأقصى وعاصمة المملكة، أما الرباط فلم يكن قصرها ذا أهمية كبيرة، كما أن المدينة نفسهما لم تكن كما هي اليوم المدينة المحورية على المستوى الإداري والسياسي في البلاد، فجارتها الشمالية سلا كانت أكثر أهمية، دون أن ننسى أن السلاطين العلويين لم يكونوا يترددون كثيرا على قصر الرباط ويفضلون قضاء أغلب أوقاتهم خارج فاس بترددهم على قصر مراكش. بداية من العام 1912، سيقفز قصر الرباط إلى الصدارة، مع توقيع السلطان مولاي عبد الحفيظ لمعاهدة الحماية مع فرنسا، ليتخلى لأخيه مولاي يوسف عن الحكم، وتنتقل العاصمة من فاس إلى الرباط، وتحافظ العاصمة القديمة على دوريها الديني والثقافي، وتظل وفية إلى اليوم لِلّقَب الذي أطلقه عليها المغاربة «العاصمة العلمية للمملكة». مع مرور السنوات أصبح قصر الرباط يلعب أدوارا كبرى، فقد غدا مركز الحكم في الدولة الحديثة التي وضعت أسسها فرنسا الإمبريالية، وأصبح هذا القصر في المخيلة الشعبية المغربية موصوما بالبذخ، ومليئا بالعبيد والجواري والمرافق، كما أنه محاط بالكثير من الأسرار، رغم أن البلاط في المغرب ظل يحجب أسراره وراء طقوس تقليدية عتيقة نسجت حولها أساطير وحكايات، ساهمت في إضفاء قدر كبير من الإبهار والهيبة على ساكنيها، إلا أن تظل الطابع العام لأحاديث عموم الناس حول ما يوجد وراء أسوار العجائب، وخاصة القصر الملكي العامر بالرباط، الذي يعتبر اليوم أشهر قصور الملك المتناثرة في مجموعة من مدن المملكة. يضم القصر الملكي بالرباط داخل أسواره مجموعة من المرافق، على غرار «ساحة المشور»، وهو المصطلح التاريخي الذي يستعمل لوصف الموقع الجامع للقصر الملكي الذي يضم قصر الضيافة وحدائق السلطان والحي السكني للمقربين من الجالس على العرش، كما يضم المدرسة المولوية، التي أسهها الملك الراحل محمد الخامس في العام 1942، والمتخصصة في تعليم الأمراء والأميرات من السلالة العلوية، كما يضم كذلك «الخزانة الملكية» وهي من أهم الخزانات بالمغرب على الاطلاق ومن أغنى المكتبات الخاصة في الغرب الإسلامي، حيث تتوفر على ذخيرة هامة من المخطوطات النفيسة والنادرة التي تقدر بما يفوق 14 ألف مخطوط أو مجلد، أي ما يناهز 30 ألف عنوان و40 ألف مطبوع في مختلف المعارف والعلوم وبمختلف اللغات، هذا إضافة إلى 150 ألف وثيقة موجودة الآن بمديرية الوثائق الملكية التي يشرف عليها عبد الحق المريني، مورخ المملكة. يضم القصر كذلك قاعة للعرش ومكتبا للملك ومكاتب أخرى خاصة بمستشاريه، إضافة إلى بناية خاصة بالحجابة الملكية يشرف عليها الحاجب الملكي، وأخرى تابعة لمحافظ القصر، وبناية ضخمة لرئاسة الحكومة، وأخرى لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ومسجدا كبيرا يعرفه المغاربة باسم مسجد «أهل فاس»، غير أن ما يهمنا في هذا الملف هو المصحة الملكية التي تعد واحدة من أهم مكونات القصر الملكي العامر، هذه المصحة التي قفز اسمها إلى الواجهة نهاية الأسبوع الماضي، بعدما أعلن بلاغ للقصر أن الملك محمد السادس أجرى بها عملية جراحية ل»إزالة اضطراب» على مستوى «الإيقاع الأذيني للقلب»، وقد كللت بالنجاح. من ماذا تتكون ومن يشرف عليها ومتى تستعمل؟ إذا كان بناء القصر الملكي في الرباط قد تم في أواخر القرن الثامن عشر، فباقي مرافق القصر كما هي معروفة اليوم لم يتم تشييدها إلا في مطلع العشرين، أما التحديث الشامل للقصر فلم يتم إلا في ما بعد العام 1927، أي مباشرة بعدما تولى السلطان محمد الخامس الحكم خلفا لوالده مولاي يوسف الذي لم يعمر كثيرا، وفي تلك الفترة تم بناء عيادة صغيرة تابعة للقصر أشرف عليها مجموعة من الأطباء أغلبهم فرنسيون، ومنهم كذلك أطباء مغاربة. وإذا قَلّبْنَا كتب التاريخ فلن نجد أي مصدر يتحدث بإسهاب عن مصحة القصر، إلا أن اسمها ذكر في العديد من المذكرات والمراجع بدون تفصيل في مكوناتها، كما أن محركات البحث على الأنترنت لا تقدم أي سطر يتحدث عن مصحة القصر، وبالتالي فمن المؤكد أن مصحة القصر في المخيلة الشعبية المغربية مرتبطة هي كذلك بالبذخ والفخامة وكثرة العاملين بها، وهو تفسير يمكن أن نجد له جوابا في علم النفس وفي طقوس الملكية الباذخة وفي البنايات الفخمة التي توجد خلف الأسوار العالية للقصور. غير أن واقع الحال بحسب مصادر ل»الأيام» يؤكد عكس ذلك، فالمصحة الملكية الموجودة بالقصر الملكي العامر بباب السفراء هي مجرد بناية صغيرة، تم تشييدها بشكل متواضع في عهد السطان محمد الخامس، أي ما بعد العام 1927، وقام الحسن الثاني بتطويرها. وحاليا يشرف عليها طبيب الملك، عبد العزيز الماعوني، الذي يتخذها كمكتب له داخل أسوار القصر، كما يتخذ المستشارون مكاتب بجوار مكتب الملك، ولو أن عبد العزيز الماعوني لا يتردد عليها كثيرا، بحكم أنه عادة ما يكون إلى جانب الملك في مختلف تنقلاته أينما حل وارتحل، حيث يلازمه كظله، علما أن الملك محمد السادس يكون دائم التنقل -خارج زمن الجائحة- سواء بين المدن المغربية أو خلال تواجده المستمر خارج أرض الوطن وخاصة في فرنسا، أكثر دولة يتردد عليها. مصدر ل «الأيام»، وهو الخبير بدهاليز وأسرار القصر، يلملم الكلمات بحذر للحديث عن تلك المصحة ويقول: «… من المعروف أن الملك محمد السادس يخضع بين الفينة والأخرى لبعض الكشوفات والتحليلات والاختبارات الطبية الروتينية، ولو أن بعضها يكون في فرنسا، التي سبق وأن أجرى بمستشفياتها عملية جراحية على القلب، ثم عملية جراحية على العين لإزالة القرنية، غير أنه يمكن كذلك أن يلجأ لخدمات المصحة الملكية، التي يجري بها بعض الفحوصات على غرار ما يقوم به أغلب المواطنين من يهتمون بسلامتهم الصحية». كما أن هذه المصحة الموجودة داخل أسوار القصر الملكي كانت شاهدة على مجموعة من الأحداث التاريخية، فبها ولد أغلب أمراء وأميرات العائلة الملكية، ومنهم الملك محمد السادس نفسه وشقيقه وأخواته، ونفس الأمر ينطبق كذلك على أبناء عمه الأمير مولاي عبد الله وأبناء وبنات إخوته، وهو ما استمر إلى اليوم، حيث ولد بها ولي العهد الأمير مولاي الحسن والأميرة خديجة، ومعظم أمراء العائلة الملكية. وهذا لا يعني – بحسب مصدر الأيام – أن مصحة القصر الملكي تتوفر على جناح كامل لقسم الولادة، غير أنه يتم الاستعانة بأطباء تابعين على الخصوص للمستشفى العسكري أو المستشفى الجامعي ابن سينا ممن يشهد بكفاءتهم العلمية والمهنية الكبيرة، للإشراف على العمليات القيصرية أو عمليات الوضع للأميرات وزوجات أمراء القصر، ونفس الأمر ينطبق على عمليات أخرى مماثلة لا تتطلب التنقل لإجرائها خارج مصحة القصر. ويتابع المصدر ذاته: «… عيادة القصر ليست بتلك الصورة التي يتخيلها البعض وكأنها أشبه بمستشفى جامعي ضخم، بل هي في الواقع مجرد بناية صغيرة في حجم مصحة خاصة بمدينة كالدار البيضاء أو الرباط، ولذلك نجد أن أفراد العائلة الملكية، في الكثير من الحالات، يلتجئون إلى الاستشفاء بالمستشفى العسكري بالرباط أو مستشفى ابن سينا الجامعي، واللذين يضمان أجنحة ملكية يمكن أن يعالج فيها أفراد العائلة الملكية وأحيانا بعض مستشاري الملك أو بعض المقربين من الجالس على العرش، كما حدث في وقت سابق مع رئيس الحكومة الراحل عبد الرحمان اليوسفي في العام 1998، الذي خضع للعلاج في نفس الجناح الذي توفي فيه الحسن الثاني بعد أشهر من ذلك. ففي ذلك الجناح، يخضع أفراد العائلة الملكية للعمليات الجراحية أو إجراء بعض الفحوصات تحت إشراف أطباء مغاربة مرموقين، كما أن الحسن الثاني نفسه، حين تدهورت حالته الصحية في إحدى أيام شهر يوليوز الساخنة من العام 1999 بالقصر الملكي بالرباط، تم نقله للعلاج في الجناح الملكي التابع لمستشفى ابن سينا بالرباط وليس إلى مصحة القصر، كونها لا تتوفر على الأجهزة والمعدات الطبية اللازمة». نفس الأمر يحدث أيضا مع بعض أصدقاء الملك محمد السادس، الذين يعرض عليهم الجالس على العرش للقدوم إلى المغرب للاستشفاء، حيث يكلف أطباءه الخاصين بالتكفل بأصدقائه من الرؤساء، خاصة الأفارقة منهم، وهو ما حدث على سبيل المثال، خلال العام الماضي، مع الرئيس الغابوني علي بونغو، الذي أصيب بشلل نصفي وتدهورت حالته الصحية كثيرا وهو في زيارة للسعودية، قبل أن يتم نقله إلى المغرب لتلقي العلاج تحت إشراف أطباء الملك محمد السادس، وعلى رأسهم الدكتور عبد العزيز الماعوني، الذي أشرف على علاج صديق الملك بالمستشفى العسكري بالرباط وليس بمصحة القصر. خلاصة الكلام، يقول مصدرنا، أن مصحة القصر ليست بالصورة العجائبية التي يمكن أن يتصورها البعض، مليئة بالأطباء من مختلف التخصصات وبالمسعفين والأطر الطبية وتضم أحدث التجهيزات، ففي الكثير من الأحيان يتم اللجوء إلى أطباء المستشفى العسكري بالرباط أو أطباء المستشفى الجامعي ابن سينا أو بعض الأطباء من خارج المملكة، لإجراء عمليات جراحية لأفراد من العائلة الملكية، وهو بالضبط ما حدث مع الملك محمد السادس الذي أجرى يوم الأحد 14 يونيو الجاري عملية جراحية على القلب بمصحة القصر الملكي، غير أن الملاحظ أن الطاقم الطبي الذي تكلف بإجراء العملية، التي أشرف عليها طبيب الملك الشخصي عبد العزيز الماعوني، ضم أطباء فرنسيين مرموقين تمت الاستعانة بهم، وهما الطبيبان أوليفييه توماس، وأوليفييه دوبورغ، إلى جانب طبيبين مغربيين آخرين لا علاقة لهما بمصحة القصر، وهما البروفسور علي الشايب، وهو طبيب جراح مشهور يشتغل في المستشفى العسكري بالرباط، والبروفسور لحسن بليماني، الذي يشتغل في كلية الطب والصيدلة التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط.