أجد الكلمات أبرد من الجليد للحديث عما جرى في باريس ليلة الجمعة الأسود، أجدني معنيا بالخصوص لأن دوافع هذا العمل البربري الذي أودى بحياة مائتي بريء وأكثر من 400 جريح تمتح من إيديولوجية تدعي انتماءها للإسلام، وأنا المسلم متمزق بين عقيدتي وهؤلاء الذين ينتحلون صفة هذه العقيدة، أجدني معنيا حد التمزق وأنا أشترك مع هؤلاء القتلة في السحنة وربما اللكنة أو العرق. تجدني في قلب نقاش مجتمعي حول هويتهم هناك أفهم وأتفهم أن تدفعه براكين الحزن والغضب المشروعين إلى حدوده القصوى، تجدني في المصاحف التي تحرق، وتجد جزءا مني في المساجد التي سيضطر مؤذنها إلى أن يرفع الأذان بصوت خفيض، أو في مآقي الأطفال من أصل مغربي أو جزائري أو عربي الذين عليهم أن يتحملوا سهام النظرات المتوجسة أو الحانقة لزملائهم في المدرسة، تجدني باكيا على اغتيال بهجة باريس ولو إلى حين، وباكيا على ما آل إليه هذا الإسلام وهذه العروبة وهذه الهجرة من مآل، على الرغم من أنه لا مجال للتعميم، ولكن الجزء المجنون في ركن الدين مهما صغر فإن شظاياه تصيبنا جميعا، وتفجعنا جميعا نحن هنا في جنوب المتوسط وفي شرق المتوسط وفي الشمال حيث جنتنا في المخيال الجماعي وحيث جهنم اليوم بفعل شيء مركب مرعب اسمه "داعش" ويمكن أن نترجم أحرفه إلى "دمار العقل في الشرق". بأي بديل يعدوننا وهم يتكلمون باسم ديننا؟ أيعدوننا باستبدال باريس بالرقة واستبدال نهر السين بأنهار الدماء ما بين الرافدين، واستبدال متحف اللوفر بمعرض الرؤوس المقطوعة، واستبدال التعايش بين الأعراق والديانات بالإبادة الجماعية لسكان قرى كاملة ذنبهم الوحيد ليس أنهم غير مسلمين، ولكن فقط لأنهم ليسوا من الإسلام السيء، واستبدال النساء الكريمات المتساويات العاملات القائدات بنساء مسبيات يغتصبن كل صباح أو كل مساء باسم ما ملكت الأيمان واستبدال بهجة الشارع ووجوهه النضرة بكآبة المدن المدمّرة واللحى المخضبة بالدماء والبرقع اللعين؟!
أمن أجل هذا المشروع المجتمعي تريدوننا أن نبحث لكم عن تبرير أو عن عذر أو عن مسوِّغ؟ هل لابد أن تصبح روما شبيهة بصنعاء وباريس شبيهة ببغداد ولندن شبيهة بدمشق في زمن الجرح النازف في عواصمنا بعد الخريف العربي حتى نكون قد نصرنا الإسلام وانتصرنا على الظلم والعدوان؟ أليس العكس هو الصحيح الفصيح؟ ألا يجب أن تحلم تونس العاصمة بأن تصبح مثل فيينا والقاهرة مثل برشلونة وطرابلس مثل زيوريخ حتى تتحقق السعادة المشروعة في الأرض ما دامت الدنيا هي الشيء الوحيد الملموس الذي نعيشه في انتظار المنتظر؟ أهناك سعادة ممكنة بدون قيم رفيعة؟ وهل قيمنا في هذا الجنوب المؤلم أرفع من قيم الشمال رغم الدين والمآذن واللحى ومزاعم الأخلاق؟
ضربوا في الحمامات الجميلة وفي سيناء حيث أسقطوا طائرة كاملة بقنبلة راح ضحيتها أكثر من 200 من الأطفال والشيوخ والنساء والرجال، ذنبهم أنهم جاؤوا إلى شرم الشيخ للاستجمام.. للحياة، وفي أنقرة وفي بيروت وفي باريس، وقبلها ذبحوا الأبرياء أمام الكاميرات في مشاهد بربرية روعت الجبال قبل الإنسان، ولم يختلفوا إلا على شيء واحد، وهو هل يجوز شرعا جزّ الرؤوس بمنشار كهربائي أم أن هذا المنشار حرام لأنه من صنع الكفّار؟! أننتمي فعلا إلى هؤلاء أمة وعرقا ودينا؟! أنحمل معهم نفس الأسماء؟ أنأكل مثلهم نفس الطعام؟ سأقول صادقا إن هؤلاء لا دين لهم ولا عرق لهم ولا أمة لهم، ولكن كلما زادت همجيتهم إلا وثقلت عليّ هويتي، وهذا هو الواقع المرّ. غدا، لن ألوم ركاب طائرة إذا توجسوا من سحنتي، ولن ألوم مرتادي مقهى أو حانة إذا اخترقوني بنظرات الشك والخوف، لن ألوم كل قرارات فرانسوا هولاند التي سترجع إحدى أعرق الديموقراطيات إلى الحكم الأمني، لن ألوم الناس على حقهم في كراهية قاتلي أبنائهم وبناتهم وأمهاتهم وآبائهم وصاحباتهم وأصدقائهم وخلانهم، ولكن قلبي يقطر دماً على إخواننا المهاجرين الذين أصبحوا رهائن لما فعله الإرهابيون من أبناء جلدتهم وجلدتنا! وتلك الأيام العصيبة التي تنتظرهم هي بنفس قساوة الفعل الأصلي، وفي النهاية الجميع ضحية، كل نور مشع ضحية، مفهوم الدين أصلا ضحية، المهاجرون ضحية، الضحايا المباشرون في الصدارة، والقيم السامية ستكون لمدة يعلم الله كم ستدوم ضحية، وعلى رأسها التعايش وعلى صدرها الحق في الحياة.
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم! ماذا سيقول المتنبي لو كان حيّا اليوم: يا أمة بكت من بشاعتها الأمم! هو بكاء على البشاعة وبكاء على الهمجية، وكم من سنة ضوئية سنحتاج حتى نجز هذا الجزء الفاسد من خريطتنا وهويتنا؟!علينا أن نرمم ثقافتنا وأن ننخرط في القيم الكونية بدون استثناءات ولا خصوصيات، وألا نبقى بخصوص الدين نمسك بالعصا من الوسط باسم الوسطيّة - كما قال أحد الرائعين بعد تفجيرات باريس- ولكن ينبغي أن نسعى لدين متجدد منسجم مع العصر وأن نعتبر الحرية ديننا الثاني، وأن نقتل بيضة مشاريع الإرهابيين قبل أن تفقص بالانخراط في العصر وليس بالحرص على صلاة العصر وعدم الحرص مطلقا على النزاهة والعدل.
قلوبنا مع ضحايا باريس وقبلها بيروتوأنقرة وموسكو، أما عقولنا فهي طائرة من هول ما جرى.