يصعب الاطمئنان لصفة الثقافة التي أصبحت تعطى لكل شيء في عصرنا هذا، فبدأنا نسمع بثقافة المخزن، وما هي إلا سلوك ممعن في الانبطاح والوضاعة والذل، ومتى احتاج كل هذا الانهيار الإنساني إلى تعليم وتكوين وتأصيل حتى يستحق أن ينعت بالثقافة؟؟ فالانبطاح يشترط فقط غياب وانعدام العمود الفقري، والوضاعة هي أن يكون المرء آسنا كالبركة الراكدة يهتم به البعوض وما ومنْ دون ذلك، والذل هو أن يكون الرأس بدون رقبة، أي أن يكون فقط قابلا للانحناء، بمبرر وبدونه، وإن كنت أزعم أن لا مبرر للانحناء ولو أمام لوحة "الموناليزا" وشبيهاتها من صُويحبات يوسف، أوَ كُلُّ هذا اليباس الإنساني يستحق صفة الثقافة..!! أو كقولهم ثقافة الهزيمة، وثقافة الخيانة، وثقافة العفة وهلمَّ ثقافات ما أتى الله بها من سلطان ولا شيطان، فهذا التوزيع المائع للثقافة ما هو إلا محاولات يائسة وبائسة لتسفيه وتتفيه كل ما هو ثقافي حقا. ليس من شأننا أن نتكلم عن معاني الثقافة ومدلولاتها المتعددة والمتشعبة، فهو شأن أفاض فيه أصحاب "الأنتروبولوجيا" الثقافية، وأزعم أنهم لن يسمحوا بتمييع صفة الثقافي مهما بلغ تسامحهم الأكاديمي من سخاء معرفي..!! مرادنا أن نتكلم عن ثقافة الماء، وما ذكرني بثقافة الماء غير تصريحات والي منطقة "گلميم" لما كان يعدّد أسباب الكارثة المائية التي أودت بحياة كثير من الضحايا. الحاكم الأول في هذه المنطقة عزا وأرجع أسباب الكارثة إلى الريع الذي شغل المسيرين الجماعيين عن الاهتمام بالبنية التحتية، فقد انشغلوا ب "المشاريع" المدرَّة لدخلهم والمضرّة بالإقليم، فالمغرب، هذا البلد السعيد برغم كل أنواع الفيضانات، أصبح كل شيء فيه يقتل، الطريق تقتل المستشفيات تقتل، الأكلات الخفيفة والثقيلة تقتل، الدور القديمة تقتل، والدور الحديثة ستقتل، والمساجد التي انهارت كادت أن تقتل لولا رحمة ربّك، والقطارات تقتل العابرين الذين لا ينوون ولا يريدون انتحاراً، والسخانات المائية الصينية تقتل وكأنها خضعت لتفيش "نزيه"، فالماء في بلدي يقتل ساخنا وباردا، والماء الساخن والبارد يتكلف به الولي الصالح "مولاي يعقوب"، وها هو السيد الوالي يضيف أن الريع كذلك يقتل..!! أي شيء بعد هذا يحيي في هذا البلد..!! ولعلها أول مرة تتحول فيها "گلميم" من بوابة للصحراء إلى بوابة للريع، وليس أي ريع، إنه الريع القاتل، وأذكر أن مدينة "جدة" السعودية لما أغرقتها أمطار يصعب أن تكون قوية قال أحد المواطنين "والله ما أغرقنا الماء لكن أغرقنا زيت الذلّ الأسود" وكان يعني به البترول، الذي ما استطاعت أنهار ريعه أن تحمي المواطن من أنبوب مطر في زيارة خفيفة لبلد غير ذي زرع، وإذا كان الريع هناك يسمى بالذل الأسود، فماذا عسانا نسمي الريع هنا بالمغرب..؟؟ فمن كثرة المتكلمين عن الريع في هذا البلد ما عدنا نعرف المستفيد منه من غير المستفيد. ومن المشاهد الطريفة في نشرة الأخبار الرئيسية بالمغرب، والتي تحولت إلى نشرة فيضانات، تقول المذيعة: "تم إمداد المنكوبين بالماء الصالح للشرب"، هكذا إذن تواجه المياه الصالحة للقتل بالمياه الصالحة للشرب، وبعد هذا تأتي صور متلفزة عن فيضانات فرنسا وإسبانيا، ولسان حال الشاشة يقول: ها هي دول متقدمة لم تستطع إنقاذ ضحايا فيضاناتها فلا تلومونا، فهل نقول: لا قياس مع وجود الريع..!! ومن الطريف أن يقول أحدهم مستنكتا إن الفيضانات التي حلت بالمغرب مردها إلى صلاة الاستسقاء التي يبدو أنها كانت صادقة جدا، جعلت السماء تنزل ريعا طافحا بالماء، والأطرف أن يسأل أحد الناجين من الغرق بعدما فقد قريبا له، مستفتيا فقيها "هل يجوز غسل الغريق..؟؟"، كان جواب الفقيه البعيد "يُغسَّل الغريق ويُكفَّن ويحنَّطُ ويصنع به ما يصنع بغيره". شيء ذكرني بفتوى للشاعر "أبي نؤاس" وبالمناسبة فشاعرنا كان فقيها قبل أن يكون شاعرا، فقد سألوه مرة: "في الجنازة، أمن السنة أن نسير أمام النعش أم خلفه"، أجاب الشاعر الفقيه:"لا تكن في النعش وسر حيثما شئت"..!! ومن الأسباب التي عدّدها الحاكم الأول للإقليم، غياب ثقافة الماء، وهو غياب لا يلام عليه أهالي الصحراء، وكما يقول الباحثون في شأن ثقافة الماء، إنها المعمار المائي الحضري الذي عبرت عنه مجتمعات ثقافة الماء بالنافورات والسقايات والأحواض، والحمامات والحامات، ولذلك سموا ثقافة الماء بثقافة الترف، والترف والصحراء شيئان لا يجتمعان، اللهم إلا عند أصحاب الريع في الصحراء..!! صحيح أن كل الديانات السماوية قدست الماء، فتوراة اليهود تقول: "إن الله أرسل المطر أربعين يوما وليلة ليغسل الأرض من خطايا البشر"، ولا أدري لماذا أربعون يوما ما دامت أيام معدودات من المطر قد كشفت الأخطاء والخطايا، كما أن الديانة المسيحية تعتبر التعميد أساس الدخول إلى الدين الكنسي، والتعميد لا يكون إلا بالماء، وفي القرآن الكريم ذكر الماء في ثلاث وستين آية، منها "وجعلنا من الماء كل شيء حي، أفلا يؤمنون"، كما أن اليهود المغاربة خصَّصوا عيدا ارتبط بسقوط الأمطار يسمى "طاويشبّاط"، أي عيد الأشجار الجديدة، وهو عيد لا يحتفل به سوى اليهود المغاربة، لعل يهود المشرق تناغموا وتأقلموا مع البيئة القاحلة التي لابد لها من أربعين يوما وليلة من الأمطار..!! يقول الباحثون في ثقافة الماء إن الأندلسيين وحدهم الذين ملكوا هذه الثقافة وساهم الماء في تمدين مجالهم وتغنى به شعراؤهم، ونافورات المدن الأندلسية شاهدة على ذلك، كما أن "بلنسية" كانت تتوفر على "محكمة المياه" التي تبتُّ في كل الأمور المتعلقة بالتدبير القانوني والإداري للماء، وكما يقولون، فالماء كان له تأثير بالغ في المجتمعات والذهنيات في الأندلس، هذا في بلد أنهاره دائمة الجريان، أما في بلد أغلب أنهاره دائمة الجفاف، لا يمكن أن يجري فيه نهر إلا وانتقم لسنواته العجاف..!! فعن أي ثقافة ماء يتحدثون..؟؟ وأعذب الختام ما قاله شاعر عن تفاخر الماء والهواء: تفاخرَ الماءُ والهَوَاءُ **** وقدْ بدَا مِنْهُما ادِّعاءُ فابْتدأَ الماءُ بِافْتخارٍ **** إنِّي بيَ ارْتِواءُ وكَان عرْشُ الإلاَهِ قِدْماً **** عليَّ يبدُو لَهُ ارْتِقاءُ وَأَهْلكَ اللَّهُ قوْمَ نُوحٍ **** لمَّا طغَوا بِي لهم شَقاءُ يبقى فقط أن أترك جواب الهواء الشعري إلى حين الحديث عن ثقافة الهواء……!! وكل ماءٍ وأنتم…………!!