اذا كان الاحتفال بعشوراء في الشرق الإسلامي – خاصة في إيران وفي العراق يطغى عليه "الطابع الحدادي" (طقوس الحزن والأسى وذكرى المأساة)، فان الطاغي عليه، في المغرب هو "الطابع الاحتفالي" (طقوس العبادة والتقديس ومناسبة الاحتفال ) ، وسواء انطلقنا مما كتب عن عاشوراء أو انطلقنا من التسميات المتداولة في مختلف المناطق التي يحتفل به فيها، فإن ما نلاحظه هو تعدد وتنوع تسميات الاحتفال ب عاشوراء. فمن الناحية المفهومية يطق اسم عشوراء أو العاشوراء (ويكتب أيضا العاشورا أوالعاشورى) والعاشور، وفي المناطق الأمازيغية نجد أمعشور و تامعشورت و ئمعشار و تاعشورت و بوكفّوس و ؤداين ن عاشور أو ؤداين ن تعشورت و أمغار قيبّو و بابا عيشور وفي الجزائر بوليفا وفي تونس الشّايب عاشوراء وفي السنغال تامخاريت ، وغيرها من التسميات، وكلها تسميات في حاجة إلى تدقيقات للتمييز بين ما يطلق على الاحتفال نفسه وما يطلق على الشهر الذي يقام فيه الاحتفال، وبين ما يطلق على الطقوس التي تمارس فيه وما يطلق على الشخوص المشاركين في العرض الاحتفالي، بل وما يطلق على احتفالات أو طقوس أخرى، تمارس في عاشوراء أو في غيره من المناسبات الاحتفالية الأخرى. من وجهة نظر دينية، يتم الاحتفال به في اليوم العاشر من شهر محرم، الشهر الأول من السنة الهجرية. فقد روى كل من ابن عباس والبخاري ومسلم وأبو داوود أن النبي حين قدم المدينة "رأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا : هذا يوم صالح، هذا يوم نجا الله فيه بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، قال: فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه". وفي حديث آخر عن ابن عباس رواه عنه أبو داوود ومسلم أن النبي "صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه. قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى. قال: إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع" وزاد ابن عباس: "فلم يأت العام المقبل حتى توفى رسول الله". والقصد من هذا - كما يذهب إلى ذلك الأستاذ عباس الجراري في كتابه عن عاشوراء - هو مخالفة اليهود والنصارى، وهذه المخالفة تقتضي صوم التاسع وحده أو صوم التاسع مع العاشر. ويضيف "وقد ذهب بعض العلماء في نطاق المخالفة إلى صوم العاشر وما بعده". أما من حيث الممارسة الشعبية، فإن الاحتفال يدوم أسبوعا أو أكثر(ويدوم لدى الشيعة في المشرق أربعين يوما ما يسمى بأربعينيات الحسين)، وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار الاستعدادات للمهرجانات التي تقام بمناسبته، حيت تصاحبه طقوس وعادات وتقاليد ومظاهر اجتماعية وممارسات اقتصادية واحتفالات شعبية، يرتبط بعضها بالمعتقدات الدينية وبعضها الآخر بعادات و تقاليد ضاربة في القدم والتاريخ المغاربي. فعاشوراء تعد طقسا احتفاليا متوارثا من السلف إلى الخلف، بحيث يلتقي فيها ماهو ديني واحتفالي واجتماعي وتجاري،تجتمع فيها كل المتضادات والمتقابلات، فهو إما يوم حزن مستمر أو فرح دائم وتزين واستمتاع وبهجة وإن كان ذلك هو الغالب وتمارس هذه العادات والطقوس والتقاليد ببراءة دون معرفة أصولها وجذورها. تتميز عاشوراء بعادات شعبية مثيرة للاهتمام، ومن بينها عادة التراشق بالماء وأيضا عادة إشعال النار مع ترديد الأهازيج الاحتفالية من طرف الأطفال والنساء، وترجع العديد من الدراسات الأنتربولوجية والتاريخية وجود عادات عاشوراء في الثقافة المغربية إلى فلول المذهب الشيعي المنتشر بالمغرب خلال ( القرن 11 ميلادي)، حين كانوا يحتفلون بيوم عاشوراء أو ذكرى مقتل الحسين بن علي في كربلاء، وصارت مناسبة للحزن والألم وربما البكاء والتحسر. إضافة إلى البعد الديني فإن الاحتفالات بعاشوراء يدخل فيها مجموعة من الطقوس منها ماهو أمازيغي و يهودي وماهو شيعي، وهكذا يتضمن"مهرجان عاشوراء" طقوسا مائية ونارية هي بالأساس طقوس وقائية وتطهيرية يدوم مفعولها سنة بكاملها.وفي هذا الإطار سنتحدث بداية عن طقسين احتفاليين أولهما "الشعالة"أما التاني فهو طقس" رش الماء" أو ما يسمى التزمزيمة. الشعالة أو النار: تقام ليلة تاسع محرم شعلة ضخمة يهئ لها الأطفال والبالغون الوقود اللازم لترتفع إلى عنان السماء، وعند ذلك يهيأ الأطفال للقفز عليها غير مبالين بالخطر، بل يعتبرونها مناسبة لإظهار شجاعتهم وفتوتهم، وقد يشوي بعضهم قديدة على هذه النار ثم يأكلها ويرددون الأهازيج التي تتكرر فيها لازمة بابا عاشور. وقد ساد في الذاكرة الشعبية أن اليهود هم الذين قتلوا الحسين بن علي، وقد أشعلوا النار وأخذوا يطوفون بها وهم يتقاذفون رأس الحسين المقطوع، كما اعتقد الناس أن أحد قتلة الحسين ليس قميصا من الشحم وأخذ يقفز على النار والقوم من حوله يتخاطفون الشحم ويأكلونه. ولكن ثمة تعليلات أنتربولوجية مترسبة في اللاشعور الجماعي مرتبطة بطقوس إشعال النار وسط هدوء الليل وسواده، وتمن دلالتها حرق مرحلة وبداية أخرى، وترتبط أيضا بالاحتفال بعد النصر أو النجاح أو إحياء ذكرى أو مجرد الحصول على صيد ثمين.. وتشير أيضا الى ترك فرصة للأطفال مشعلي النار لتجريب المخاطر والاستعداد لها عبر القفز على النار والمرور وسطها. وقد تعني إنارة قوية لمجال إنساني يعاني ظلمة وضيقا وحزنا دفينا، كما هو عليه حال الشيعة، وهم يحيون كل سنة مأساة قتل الحسين بن علي، حفيد الرسول (ص) ونجل فاطمة ابنته. وعندما نتطرق لطقس إشعال في عاشوراء لابد من الوقوف عند ما حدث لنبي الله موسى الذي رأى النار فترك أهله، وذهب إليها فنودي من قبل الله تعالى، وهذا ما تؤكده الآية الكريمة: « فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين» . - التزمزيمة: إن الماء ارتبط في كل الثقافات والحضارات العربية برمزية التطهير من الذنوب، ولم تكن رمزية الماء ترتبط بهذه الدلالة في الثقافة الإسلامية وحدها فحسب بل لها الدلالة في الثقافات الإنسانية الأخرى، فالدلالة الرمزية لرش ماء عاشوراء مثلا في الثقافة اليهودية والمسيحية يحتفى بالماء بشكل عميق وقوي، ففي العهد القديم يبتدئ الكتاب المقدس من سفر الرؤيا بكلمة الماء، وينهي بماء النهر الحي، وهي مياه الخلق، مياه الطوفان، مياه تطهير اليهود ، ويجسد التعميد بالماء في العهد الجديد أي في الثقافة المسيحية كما اليهودية تطهر وتوبة من الخطايا، كشرط لقبول يسوع المسيح، "معاناة المسيح" الذي سيعود في وقت لاحق من السماء في سحابة، وتقوم معظم الكنائس عادة بسكب أو رش ماء التعميد. وفي الثقافة الامازيغية تكمن القيمة الدلالية للماء في البعد التطهيري، إرضاء للآلهة، حيث يعتبر الامازيغيون أن الاغتسال والتطهير بعد الحرب ضروري، ذلك لأنهم يعتبرون الحرب جريمة لابد من غسل آثارها. أما الفينيقيون فيحتلفون بأدونيس إله الخصب بعد تساقط الأمطار والسيول معتقدين أن المياه الحمراء تمثل دم أدونيس، ورمز تجدد الطبيعة، بها تكتسي الأرض خضرة، وينتشر الدفء. أما في الثقافة الإسلامية فقد ارتبطت دلالة الماء بالحياة بل وبأساس وجودها، حيث قال الله تعالى في الآية الكريمة: « الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم» وقال أيضا «وجعلنا من الماء كل شي حي". ونجد الماء لدى الشيعة الذي يشي بتحوله إلى رمز على شكل دموع، ففي إيران تقرا قصة مقتل الحسين بنغم محزن فتهيج العواطف ويعلو النحيب ويطاف على الحضور بقطنة تمسح بها الدموع وتعصر في قارورة وتحفظ للاستشفاء من الأدواء، حيث لا ينفع داء. وهكذا كان الناس يصبحون في اليوم الثاني من عاشوراء على "يوم زمزم"، "زمزم" بئر في منطقة مكة، به ماء عذب زلال، وأكيد يحمل بدوره معنى روحيا لدى المسلمين واعتبارا دينيا كباقي الرموز والأماكن التي توجد في مكةوالمدينة بالحجاز وغيره... وقد تعودنا ونحن صغار أن تجلب بعض النسوة (خاصة الجدات) ماء "جديدا" من مصدر الماء المتوفر في الصباح الباكر، ويقمن برش أماكن في البيت برشات خفيفة، ويحرصن على تسليط قطرات على كل أفراد الأسرة حتى من لا يزال في فراشه (خاصة الأطفال)، فالماء هنا له معنى الإطفاء، إطفاء حريق نار عاشوراء، إطفاء الغضب والحزن، لكنه ليس كأي ماء، فهو يحمل اسم "زمزم"، لهذا لا يتضايق أحد من ذلك، بل يتقبله بصدر رحب، ويتضاحك الأفراد ويتسلون لبعض الوقت داخل بيوتهم وليس في الشوارع والأزقة كما أصبح يقع بعد ذلك...في يوم "زمزم" تطور الطقس وأصبح هذا اليوم يعني إغراق المارة بالمياه، إفراغ أصطل على الناس وهم يتمشون في الشوارع، لا يستثنى من ذلك أحد، أكان رجلا أو امرأة، طفلا أو شيخا أو مسنا أو مريضا أو معافى... خاصة في الأحياء الشعبية. وطقس "رش الماء" يرجعه بعض الباحثين أيضا لليهود الذين قطنوا المغرب قرونا قبل الإسلام حيت كانوا يقامون باحتفال خاص بهذا اليوم أيضا، حيت أن هناك علاقة بين طقس الرش بالماء واحتفال اليهود بالذكرى التي أنجى الله فيها موسى من فرعون وأغرق هذا الأخير، ومن تمة يمكن فهم أن ما يسميه المغاربة بيوم زمزم ليس سوى تعبيرا إسلاميا عن قصة ماء البحر الذي انشق لموسى، وأغرق فيه فرعون وجنوده. إن إيقاد النار ورش الماء يشكلان مظهرا احتفاليا عند المغاربة، لأنها تسمح بما لا يسمح به عادة وهو خروج النساء وانغمارهن في جو من المرح. كما أن عاشوراء لا تتخللها فقط هذه الطقوس الاحتفالية، بل تتعداها إلى تحضير "الكسكس" ببقايا لحم عيد الأضحى المقدد، بحيث تجتمع الأسر حول موائد الطعام، وتقدم أطباق الفواكه الجافة، وهذا يجسد نوعا من التلاحم والتآزر الإنساني. كذلك في عاشوراء آخر يمتد إلى اليوم الحادي عشرمن محرم، وهو "يوم الربا والهبا"، بحيث ينقطع التجار عن أي لون من النشاط التجاري، معتبرين أي ربح ربا وهو هباء لا بركة فيه، وهذا بعد أن تنشط التجارة في اليوم العاشر باعتبار المتاجرة فيه تأتي بالبركة، لا سيما شراء أشكال الحلوى والمكسرات وألعاب الأطفال وما شابه.أيضا في عاشوراء لا يمكن الوقوف فقط عندما هو مقدس بل هناك مجال للمدنس من خلال مظاهر السحروالشعودة التي تبرز بقوة في هذه المناسبة، خاصة في الليلة التاسعة إذ تعتقد بعض النساء أن في كون هذه الليلة هي مناسبة ذهبية للقيام بأعمال السحر، بحيث تستغل النساء فرصة إشعال النار ليرمين فيها صنائعهن. عاشوراء مناسبة تشكل يوم فرح وبهجة، ولا يهتم المغاربة بالخلفيات الوثنية واليهودية أو الشيعية...التي تتخلل هذه الاحتفالات، فالأهازيج التي تتردد في يوم عاشوراء يمتزج فيها ما هو أسطوري بالديني بالثقافي انها تعبر عن متخيل جماعي شعبي حاضر بقوة في ثقافتنا الشعبية المغربية، و يقدم لنا دليلا قاطعا عن هذا التنوع والتعدد في الطقوس العادات والتقاليد والمعتقدات الكامنة وراء هذا التعدد والتنوع. وإن دل على شيء، فإنما يدل على غنى وعمق وعراقة المجتمع المغربي وثقافته، وعلى قدرته على التكيف مع كل المستجدات، كما يدل أيضا على قوة الانفتاح على الغير إلى درجة تفضيله....وكل عاشوراء وأنتم بخير.