نشرت بعض الصحف نبأ قرار الدولة الفرنسية باعتماد التغييرات الإملائية التي اقترحتها لجان تربوية. ليست هذه المرة الأولى التي تقتحم فيها حرمة اللغة بغية تغييرها وملاءمتها مع تطورات العصر. فغالبا ما يجتمع أعضاء الأكاديمية الفرنسية لإدماج بعض الكلمات التي فرضها الشارع وأصبحت متداولة بشكل. لذلك تقوم الجهات المختصة بتحيين القواميس بإدخال الكلمات الجديدة والتي كانت تقصى من التداول العالم فقط لأنها جاءت من الزنقة. هذا المد الزنقاوي في اللغة كما في الأدب كما في الفن (الفن التشكيلي، الموسيقى، الشعر) لاتقاومه المؤسسات العلمية والتربوية بل تحاول إدماجه في الحياة اليومية للناس لأنهم هم من صنعوه وطوروه وفقا لحياتهم وأحاسيسهم. إجتماع العلماء وفقهاء اللغة يمليه عليه همهم بتطور مجتمعهم ونظرتهم لهذا التطور الذي يعتبرون أنه يأتي من الشعب وليس بالضرورة ودائما وأبدا من نخبة محافظة. في المقابل يجتمع دهاقنة اللغة العربية للوقوف سدا منيعا أمام المد «الزنقاوي» الشعبي وللحفاظ على نقاوة وصفاء اللغة العربية. ويساعد هذا الجيش من المحافظين الساهرين على سلامة اللغة العربية من داء التغيير والدود عنها ضدا على كل من يريد بها سوءا جم غفير من المثقفين الذين يجتهدون في إبعاد كل الكلمات أو التعابير التي يشتمون فيها رائحة الجهوية أو الإقليمية أو التداخل اللغوي الذي يعتبره العالم إخصابا للغة ويعتبره علماء اللغة العربية الأجلاء هدما وهجوما ومؤامرة على اللغة من الداخل. لقد طوع المغاربة وعلى مدى قرون لغة عربية تتداول في الكتب والمصنفات والرسائل والأحكام الفقهية تختلف كثيرا عن اللغات العربية المشرقية أو الشرق أوسطية كما تسمى المنطقة اليوم. هذه اللغة تكونت في نظري من طبقات لسانية متعددة تدخل فيها لغات البلد الأصلية أي الأمازيغية مع لغات أخرى سكنت هذا البلد لفترات وظلت في طيات اللسان المغربي كما أنها لا زالت تعيش على شكل نغمات أو إيقاعات تسكن الجسد والروح قبل اللسان. انضافت إلى هذه اللغة العربية المغربية لغات أخرى عبرت مضيق جبل طارق أو وفدت على الموانئ أو عبرت الصحراء الكبرى لتستقر في اللسان والوجدان. هذه اللغات معجونة بالطابع المغربي الأمازيغي الإفريقي بقيت متداولة إلى حدود الهجوم القومي وبعده الوهابي عبر الكتب والجرائد أولا ثم عند حدوث الطامة الكبرى آفة الفضائيات العربية. في زمن قصير أصبحتُ (ومعي الكثيرون) لا أفهم بعض التعابير العربية التي تربيت عليها كما أنني أصبحت لا أستطيع قراءة بعض المقالات الصحفية باللغة العربية. أصبح الطلبة والأساتذة يستعملون بعض العبارات ويدعون أنها العربية السليمة. أصبحنا نحتكم إلى ما يقوله الصحفي العربي المشرقي أكثر من إنصاتنا لنبضات قلوبنا. هذا التطهير الممنهج وهذه العودة المحمومة إلى الوراء إلى الأصل الصافي الطاهر للغة يدخل في باب العودة الجارفة للتراث. وهي عودة تقديس اللغة على أساس أنها لغة الدين لا على أساس أنها لغة الإحساس. اللغة التي بها أحب وألاطف من أحب، بها أحلم وبها أكتب عن همومي أفراحي وأحزاني. عودة الشباب على الفايسبوك وخصوصا بعد الربيع الديموقراطي إلى اللغة «الزنقاوية» له أكثر من دلالة في هذا الباب. ألاحظ كيف يستعمل الشباب في الفايسبوك مثلا لغة هي مزيج من العربية الفصحى والفرنسية المعرّبة والدارجة المغربية القحة. المثير في الأمر أن استعمال هذه اللغة ارتبط بثورة الشباب في شوارع المدن العربية وفي انتفاضته على الأبوية الفكرية والسياسية والثقافية. هذه اللغة التي أعني هي التي يستعملها الشباب في الغناء وفي النكت، وفي الغزل وفي مناقشته السياسية، أي أن هذه اللغة تستعمل في الحياة والمتعة تاركة الفصحى العربية الأعرابية للإستعمال في ميدان السلطة المعرفية والسياسية والأمنية. تحولت اللغة إلى كيان يطردنا إلى خارج أجسادنا بينما من كان من المفروض أن يكون سكنا لنا نأوي إليه لنضحك ونبكي ونفرح ونحزن ونحلم ونحتفل بالحياة ونؤسس للمستقبل لا أن نسكن كالأشباح في الماضي.