من حَملة انتخابية إلى أخرى، نسمع باستمرار من مواطنين كلاما يحمل "قناعات يقينية" ناقدة للأحزاب السياسية المغربية من قبيل "كلهم سواء"، "كلهم فاسدون"، "ليس ثمة أحزاب حقيقية في المغرب"، "إنهم لا يمثلون إلا مصالحهم الخاصة". ويمتد هذا السخط إلى مستوى البحث العلمي كذلك: فعدا استثناءات قليلة، تشكل الأحزاب السياسية "موضوعات علمية سيئة". ومع ذلك، فإن مراقبة الظاهرة الحزبية تسلط الضوء على الواقع الفريد في هذا البلد الذي يعرف منذ استقلاله – وهو الأمر النادر في المنطقة – تعددية حزبية، محدودة ربما لكن معقدة. إذا كانت الأحزاب السياسية بالمغرب تسترعي هذا الكم من البغض، فما الذي يميز الأشخاص الذي يلتزمون (يتنظمون) بداخلها؟ هل يشكلون نخبة متجانسة متباينة عن باقي المجتمع، أم هم زبائن مجزؤون يقودهم البحث عن الموارد الشحيحة، أم هم عالم صغير تتخلله الانقسامات التي تعتمل داخل المجتمع المغربي؟ هناك ثلاث مقاربات تحليلية أساسية تتنافس فيما بينها لتفسير انضواء الأفراد في أحزاب سياسية في سياق سلطوي. منها من تسلط الضوء على قطيعة عميقة بين المواطن "غير المسيس" وبين نخبة سياسية تطبعها خصائص متقاربة (التعليم والانتماء المديني، بل وحتى الأصل الجهوي المشترك). ومنها من تفسر طريقة اشتغال الأحزاب السياسية باستخدام النموذج الانقسامي(segmentaire). وهناك مقاربات تسعى لترجمة خطوط الانتماء الاجتماعي داخل النسق الحزبي وفق زاويتين تحديدا: أولها التعارضات الاجتماعية (المركز/ الهوامش، المديني/- القروي، العمال-/ المُلّاك، الكنيسة-/ الدولة)، والثانية هي زاوية تجدد الأجيال. على مستوى آخر، ومنذ صدور الدراسات المرجعية الأولى (ريمي لوفو و جون واتربوري)، فإن التحليلات المصاغة حول الحياة السياسية في المغرب تميل إلى تقليص اللعبة السياسية المؤسساتية إلى محض مواجهة بين القصر والنخبة السياسية، مما يترك هامشا صغيرا لإنتاج سوسيولوجيا تتناول العنصر البشري الحزبي، انطلاقا من منظورات مختلفة، حيث يصر الباحثان المذكوران على أهمية المؤسسة الملكية في هيكلة الحقل الحزبي المغربي في فجر الاستقلال. وفقا للمقاربة الانقسامية التي ينتهجها جون واتربوري، فإن السلوك السياسي للملك وللنخب يظل مطبوعا بتقاليد المخزن والقبلية بالرغم من الاختلالات الاجتماعية التي أحدثتها الحماية. السلطة التي تستعمل بشكل دفاعي لحفظ الثراث، تتم صيانتها (السلطة) على حساب تقسيم نخبة سياسية صغيرة أصلا. أما هوية الفاعلين فتبقى بالأحرى "ظرفية"، في حين تتوفر الأحزاب السياسية على شريحة "زبائن" غير مستقرة عوض أعضاء منتمين حزبيا، وهو ما يفسر هشاشة التحالفات، التي تزيد من حدة عدم الانسجام ما بين الأفعال والائتلافات وبين الإيديولوجيات المعلن عنها. من هذه الزاوية "فإن الحياة السياسية في المغرب تعتمد (…) في تراشق دائم ما بين الوحدات الساسية، في جو مأزوم ومتوتر يساهم في الحقيقة في الإبقاء على التوازن الاجتماعي، أو إعادة إرساء هذا التوازن في حال وجود اختلال ما". بالنسبة إلى ريمي لوفو، فإن الملكية والحركة الوطنية وبعد تحالفهما لإجلاء نظام الحماية دخلتا في منافسة سياسية بعد الاستقلال. عندها، صممت المؤسسة الملكية التعددية الحزبية والآليات الانتخابية كأدوات للتحكم ولتجزئة حقل سياسي متسم بالاستقطاب؛ من خلال تشجيع المؤسسة الملكية للانشقاقات ومواكبة ولادة "الأحزاب الإدارية". إن التحليلات الانتخابية التي أنجزها ريمي لوفو خلال سنوات الستينات، تُظهر "تكثلات ضخمة ذات اتجاهات متعارضة"، تعكس جليا الانقسامات الجغرافية، الاجتماعية والثقافية، كلها مهيكلة حول الخط المشترك الأساسي، وهو الخط الفاصل ما بين العالمين المديني والقروي. في هذا السياق، نجد أن الفضاء الحضري، والذي لا يضم إلى ربع الساكنة الإجمالية، يتأثر أكثر بخطاب المعارضة والمشكلة من مكوني الحركة الوطنية: حزب الاستقلال من ناحية وهو حزب " الحرس البرجواي القديم" والوطني، و الفئات المدينية ذات النشاط التجاري، وذات التكوين التقليدي غالبا، ومن ناحية أخرى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والمكون أساسا من الطبقة الوسطى، والذي يتضمن نخبة أكثر شبابا وأكثر مدينية، وتجمعا لمثقفين تلقوا تعليما عصريا. أما العالم القروي فتؤطره النخب المحلية، المشكلة من ملاك الأراضي، المتوجسين من أي تغيير لوضعية الملكية العقارية والطامحين إلى الحفاظ على وضعهم الاجتماعي والاقتصادي، وهنا وجدت الحركة الشعبية فرصتها، إذ نصبت نفسها ممثلة للنخب القروية والأمازيغية، والتي أبانت عن دعمها لسلطة تنفيذية وقوية، وعن معاندتها لهيمنة الحركة الوطنية. ولمواجهة المعارضة، تم خلق أول حزب إداري سنة 1963، وهو جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (الفديك) وهو الحزب الذي ضم تجمعا لأناس من الطبقة البرجوازية بالرباط وسلا ومراكش إضافة إلى عدد من العائلات المخزنية. يُتبع 1/4