كم قصّ علينا الله تعالى في القرآن المجيد من قصص الأوّلين كي يتعظ ويعتبر اللاحقون بالسابقين: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) [سورة يوسف: الآية 111]. فالقصص القرآني ليس للتّسلية وتلبية حاجات حبّ الاطلاع والفضول المعرفي في النفس الإنسانية، بل هو لغاية أعظم، وحكمة أسمى هي أخذ العبرة، وعدم الوقوع في الأخطاء التي وقعت فيها أمم صارت في خبر كان بعد أن تجبّرت في الأرض، وبغت وطغت. لكن يبدو أنّ الإنسان قلما يستفيد من دروس التاريخ، وقلما يعتبر بعبره، في حياته الخاصّة والعامّة. ظنَّ بعض أصحاب الإمبراطوريات الطّاغية الحديثة أنّهم لم يُسبقوا إلى قوّتهم ونفوذهم وطغيانهم وجبروتهم، بل ظنّوا علاوة على هذا أنّ لاأحد بمقدوره أن يضع حدّاً لاستضعافهم للأمم المقهورة، وينهي كبرياءهم وغطرستهم إلى الأبد. ولو رجعوا إلى قصص القرآن الكريم الذي هو القصص الحق كما قال الله سبحانه: (نحن نقصّ عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) [سورة يوسف: الآية 3 ] وتدبّروا عبره وآمنوا بمصدره الربّاني وبعدلِ الله تعالى وعظيم سطوته وانتقامه من الظالمين لما ظنوا ظنهم ذاك، ولما كانوا من المغرورين. لكن حقت كلمة الله عليهم، فتركهم في غيّهم يعمهون، واستدرجهم إلى مصيرهم الفظيع وهم لايشعرون، وما ذلك إلا لأنّهم أعرضوا عن الذكر إذ جاءهم واغتروا بقوتهم ونسوا أو تناسوا أن ماضي الإنسانية يعجّ بأباطرة وأكاسرة وقياصرة وفراعنة لم يبلغوا هم من تسلطهم وعتوّهم في الأرض إلا قليلا، ومع ذلك كانت نهايتهم أن حلّ بهم العذاب الإلهي في الدنيا قبل الآخرة، واستُؤصلوا من قصورهم إلى القبور، ومن لهوهم إلى العقاب، ومن ملذّاتهم إلى العذاب. فكأن لم يغنوا فيها، ولم يكن لهم ذكرٌ ولا وجود. قال الله عز وجل: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعونَ وملأه فاتبعوا أمر فرعون. وما أمرُ فرعون برشيد. يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار، وبيس الورد المورود. وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود. ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد. وما ظلمنا هم ولكن ظلموا أنفسهم. فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب. وكذلك أخذُ ربك إذا أخذ القُرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد . إنّ في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة، ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود، وما نؤخره إلا لأجل معدود) [سورة هود، 97 104]. وقال تعالى حاثاً عباده على دراسة التاريخ وأخذ العبرة منه: (قل سيرو في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين) [النمل: 71] وقال: (أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوّة وأثاروا الارض، وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبيّنات، فما كان الله ليظلمهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم كان عاقبة الذين أساءوا السّوء أن كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ) [سورة الروم: 8 9]، وقال : (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون. قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل. كان أكثرهم مشركين) [سورة الروم: 40 41] إنّ للاعتبار أجلاً، كما أنّ للتوبة أمداً. ومن لم يعتبر قبل حلولِ الأجل، ولم يتب قبل انتهاء الأمد، فإنّما يجني على نفسِه، ويضر بها ويوردها موارد الهلاك. فهل يعتبر أباطرة العالم اليوم بقصص القرآن الكريم، أو بدروس التاريخ الذي أنشأوا له مدارس وكليات في بلدانهم؟ وما جدوى معرفة ما جرى للسابقين إنْ لم تُفد الأمم الحاضرة في صيانة نفسها من الظلم والطغيان وارتكاب نفس أخطاء الأوّلين؟! ما جدوى دراسة التاريخ إنْ لم تقُد أصحاب القرار في العالم إلى نهج طريق الحق والعدل والرّحمة بدلاً من العدوان والاضطهاد والنقمة؟! ما جدوى التاريخ عنذئذ إلا أنْ يكون مجرد أوراق من الماضي تتلاعب بها رياح الأهواء؟!