جاء (انتخاب) أحمد أبو الغيط أميناً عاماً لجامعة الدول العربية، ليتجدد الحديث عن الواقع الراهن للنظام العربي، في ضوء الأزمات الطاحنة والكوارث المتفاقمة التي يمر بها العالم العربي، وفي ظل المتغيرات المتلاحقة التي تغيّر الثوابت، وتزعزع القواعد، وتجعل المبادئ في مهب الريح، وتضع الدول الأعضاء الإثنتين والعشرين أمام اختبار بالغ الصعوبة شديد التعقيد. فالأمين العام الجديد هو أحد رموز النظام الذي أسقطته ثورة الشعب المصري التي اندلعت في الخامس والعشرين من شهر يناير سنة 2011، والتي دامت ثمانية عشر يوماً، وانتهت بالإطاحة بالديكتاتور الفاسد الجنرال حسني مبارك، وقد جاء هذا الوافد الجديد بترشيح من النظام الحالي الذي يفترض أن يكون على النقيض من النظام الأسبق، حتى لا أقول النظام السابق الذي أطيح به في انقلاب عسكري كامل الأركان في الثالث من شهر يوليو سنة 2013. فكيف يعود وزير خارجية نظام حسني مبارك الفاسد إلى الواجهة، وينال الثقة من النظام الحالي، ويتم فرضه على جامعة الدول العربية، و(ينتخب) بالإجماع ما عدا تحفظ دولة قطر؟. فتكون تلك سابقة في الأعراف الديبلوماسية، تشكل (حالة عربية شاذة)، تضاف إلى الحالات الشاذة التي لا تفسير لها ولا معنى واقعياً تدل عليه، اللهم الشذوذ السياسي الذي بات يطبع العمل العربي المشترك، أو ما كان يصطلح عليه بالعمل العربي المشترك. فالأمين العام الجديد لجامعة الدول العربية، جاء من عهد وُصف بأنه ديكتاتوري، وقدم من نظام أُجمع على أنه استبدادي، وهو يحمل معه الفشل الذي كان يهيمن على ذلك العهد في كل شأن من شؤون الدولة داخلياً وخارجياً، ويرمز إلى خيبة الأمل التي سادت في تلك المرحلة حتى كاد أن يعم اليأس، ويسيطر الشعور بالانكسار والإحساس بالضياع. فهل هذا الظهور على مسرح الأحداث لوزير الخارجية المصري، الذي كان مخاصماً للشعب الفلسطيني، وتًَنَافَسَ مع إسرائيل في الكيد لهذا الشعب ومحاصرته وتوجيه الضربات إليه، هو أمرٌ مقصود لذاته، خصوصاً في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها القضية الفلسطينية التي كانت ذات يوم قضية مركزية للعرب أجمعين، والتي من أجلها تأسست جامعة الدول العربية في سنة 1945؟. ولكن السؤال الأكثر أهمية من هذا السؤال، هو : كيف قبلت الدول العربية، باستثناء دولة قطر، ترشيح دولة المقر لوزير خارجية حسني مبارك، لشغل منصب الأمين العام للجامعة؟. هناك أكثر من إجابة على هذا السؤال المحوري، أختار منها ما ينسجم وطبائع الأشياء، وهو أن أياًّ من الدول الأعضاء لم تتقدم بالمرشح البديل، لاعتقادها أن الأمر الواقع يفرض نفسه، ولا داعي لوضع الخشبة في العجلة، وأن العرف له منطقُه، ولابد أن يسود هذا المنطق ويغلب في نهاية المطاف. ولكنه عرف فاسد ليس له من القانون سند، إذ لا يوجد في ميثاق جامعة الدول العربية ما ينص على أن يكون منصب الأمين العام حقاً من حقوق دولة المقر، لأن الجامعة إنما هي جامعة للدول العربية، وليست جامعة لدولة عربية واحدة. فحسب المادة الثانية عشرة من ميثاق جامعة الدول العربية، يتم تعيين أمين عام للجامعة بموافقة ثلثي أعضائها. ولا ينص نظام الأمانة العامة الذي تمت الموافقة في مايو سنة 1953، على أن يكون الأمين العام للجامعة من مواطني دولة المقر. لقد دخل العمل العربي المشترك في المتاهات، منذ زمن الانقلابات العسكرية التي بدأت من سوريا في سنة 1949، قبل أن تصل إلى مصر فالعراق فالسودان وليبيا. وكان أكثرها هيمنة على جامعة الدول العربية، الانقلاب المصري الذي وقع في الثالث والعشرين من شهر يوليو سنة 1952، والذي مارس أدواراً شديدة التأثير، كان لها الطابع المهيمن على مجمل العمل العربي المشترك، لدرجة أن منصب الأمين العام صار محتكراً لمصر، وبدون اي منافس منذ أن تأسست الجامعة، وإلى مؤتمر القمة العربي الاستثنائي الذي عقد في بغداد في سنة 1979، والذي أخرج مصر من النظام العربي وعزلها، بتهديد مباشر من الديكتاتور صدام حسين، ونقل الجامعة إلى تونس، واختار الشاذلي القليبي من تونس أميناً عاماً للجامعة، قبل أن يعود المقر إلى القاهرة في سنة 1989، ويعود المنصب إلى مصر. ولقد كان من الآثار المدمرة للعقل العربي الناتجة عن فشوّ الانقلابات العسكرية، أن أصبحت الدول الأعضاء في الجامعة (أقطاراً) وليست (دولاً)، لأن الدولة هي (الدولة القومية) الموهومة الافتراضية المتخيلة. وصار مصطلح (الدولة القطرية) مرادفاً (للدولة الفاشلة) أو (للدولة غير الطبيعية). وبذلك شاع مقياس غريب مزق العمل العربي المشترك، هو (العمل القطري) و(العمل القومي). وكان هذا الفساد السياسي المدمر للعقل العربي، مما جاء به حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي كان يزاحم قومية جمال عبد الناصر التي كانت تختلف عن قومية البعث اختلافاًَ جذرياً، بحيث كانت القومية العربية التي جاء بها الرئيس جمال عبد الناصر وعملت أبواقه الإعلامية القوية النافذة على نشرها، من (وزن الريشة)، إن جاز لنا أن نستخدم هذه المعايير الرياضية، أما القومية العربية البعثية التي كانت تختصر في الشعار المرفوع (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة)، فهي من (الوزن الثقيل) الذي هو فوق الاحتمال. وقد دخلت هذه المفاهيم العمل العربي المشترك، بعد أن تسربت إلى جامعة الدول العربية فأصبحت تهيمن على أدبياتها. منذ تأسيس جامعة الدول العربية في سنة 1945، تَدَاوَلَ على شغل منصب الأمين العام سبعة أمناء من الجنسية المصرية، وباستثناء الأمين العام المؤسس عبد الرحمن عزام (1945-1952)، الذي كان شخصية وطنية مصرية عربية الانتماء، شارك في الحركات الاستقلالية، خصوصاً في الحرب الليبية الإيطالية ضمن الجيش العثماني، فإن الأمناء العامين الآخرين كانوا رموزاً للنظام المصري، والراعين لسياساته واختياراته. فبعد انقلاب يوليو 1952، وضع جمال عبد الناصر، الذي كان عهدئذ رئيساً للحكومة ووزيراً للداخلية، محمد عبد الخالق حسونة في منصب الأمين العام للجامعة، حيث واكب التحولات التي عرفتها مصر والمنطقة العربية طوال العهد الناصري، وبقي في منصبه عقدين كاملين من الزمن، إلى أن غادر المنصب في سنة 1972 حينما اختار الرئيس أنور السادات محمود رياض للأمانة العامة لجامعة الدول العربية الذي استمر إلى سنة 1979. وعلى مدى هذه السنوات كان القرار الذي تتخذه القمم العربية ومجلس الجامعة يعبر عن الموقف المصري بالدرجة الأولى. وبذلك أفرغت الجامعة من محتواها وصارت إدارة تابعة لدولة المقر لا أقل ولا أكثر. فهل يعود الزمن إلى الوراء، وتعيش الدول الأعضاء التجارب الصعبة، والمريرة أيضاً، التي عاشتها طوال العقود الماضية؟. هل ستنهض جامعة الدول العربية، ويتطور العمل العربي المشترك، ويسير في الاتجاه الصحيح، ويستقر النظام العربي في إطار الجامعة، على وضع سليم، وتكون الجامعة في خدمة المصالح الاستراتيجية للدول الأعضاء، ومستجيبة لمتطلبات المرحلة الحالية، وملبية لمطالب الشعوب العربية؟. عندما غادر عمرو موسى منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، رشحت مصر، أو بالأحرى رشح المجلس العسكري في مصر، مصطفى الفقي ليخلفه في منصبه. ولكن الدول العربية ذات التأثير النافذ، عارضت ذلك الترشيح، لأسباب كانت مفهومة وقتئذ. فبطل السحر، فاستبدل به نبيل العربي الذي لم يكن قد مضى عليه في منصب وزير الخارجية إلا فترة قصيرة جداً، فنال ثقة الدول الأعضاء. ولكنه فشل فشلاً ذريعاً، لأنه كان يمثل بلده في الجامعة مثله مثل أي مندوب، ولم يكن يمثل الأمانة العامة للجامعة التي تنفصل عن الدولة التي تنتمي إليها. فهل سيتكرر الأمر في عهد أحمد أبو الغيط؟. وهل ستدخل جامعة الدول العربية عهداً جديداً يتحرر فيه النظام العربي من الأوهام ويؤوب إلى الحقائق ويتكيف معها؟.