وقائع كثيرة ومعطيات متواترة تؤكد أن المغرب انتقل من ديبلوماسية المهادنة والدفاع إلى ديبوماسية الهجوم. لم تعد السلطات المغربية تتعامل مع الملفات المرتبطة بمصالحها الداخلية بقفاز ناعم، كما كانت تفعل في السابق. وإن كان هذا الخيار في العلاقات الدولية تكتنفه العديد من المخاطر، لأن نتائجه مرتبطة شديد الارتباط بميزان القوى السائد، فإنه بدا واضحا أن الرباط بدأت فعلا تجني ثمارا غير مسبوقة باعتمادها هذا النهج الواضح في تدبير علاقاتها الخارجية. والدلائل كثيرة ومتعددة في هذا الشأن. فما كان للحكومة الفرنسية أن تقبل بتعديل الاتفاقية القضائية التي تجمعها مع المغرب وبالصيغة التي اشترطتها الرباط لولا الموقف الحازم الذي اتخذته السلطات المغربية عقب الخطأ القضائي و القانوني والسياسي الذي اقترفته السلطات الأمنية الفرنسية في حق مسؤول أمني مغربي والذي وصل حد إلغاء التعاون القضائي مع فرنسا. وكانت هذه الأزمة مدخلا جديدا لتمتين العلاقات الثنائية ما بين البلدين التي انتقلت إلى مستويات غير مسبوقة. وما كان لحكومة السويد أن تتراجع عن موقفها حيث كانت قريبة جدا من إعلان الاعتراف الرسمي بجمهورية البوليساريو لولا الموقف الصارم الذي اتخذته الرباط ووظفت فيه العامل الاقتصادي، حيث وضعت حكومة السويد في موقف جد حرج أمام مراكز القرار الاقتصادي والمالي في السويد نفسها والذين أضحى من حقهم المشروع التخوف على مصير استثماراتهم في مختلف بقاع المعمور بسبب سياسة خارجية طائشة لحكومتهم. ورضخت حكومة السويد للأمر الواقع و اضطرت وزيرة خارجيتها للإقرار بأن السلطات المغربية تغلبت عليها بتوظيف العامل الاقتصادي في لحظة الأزمة. واليوم حينما تقرر السيدة فيديريكا موغيريني الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي التنقل على وجه السرعة إلى الرباط بعدما لم يجد نفعا تصريحها في وقت سابق في إخماد لهيب الغضب المغربي، فإنها تؤكد أن سياسة الحزم التي أضحت خيارا ثابتا في السياسة الخارجية المغربية تعتبر الأسلوب المناسب في التعاطي مع أطراف تضع المصالح المغربية في مرتبة جد متأخرة، ولا تنظر إلا إلى ما ستجنيه من أرباح من علاقتها مع المغرب. إن تردد العديد من الأقطار الأوربية في تفعيل استئناف القرار الصادر عن المحكمة الأوربية القاضي بإلغاء اتفاقية التبادل الفلاحي بين الاتحاد الأوروبي والمغرب يؤشر على تواطؤ بعض الجهات الأوربية في إصدار مثل هذا القرار الغريب والمثير فعلا في أن تبادر بعض حكومات الدول الأوربية إلى نقل شرارة مفعول هذا الحكم إلى قضايا أخرى لا علاقة لها بما قضت به المحكمة الأوربية، كما فعلت الحكومة الهولندية حينما سارعت إلى إلغاء اتفاقية التضامن الإجتماعي مع المغرب كأحسن صيغة للتهرب من مسؤوليتها المالية والاجتماعية تجاه مواطنين أفنوا زهرات أعمارهم في بناء وإعمار هولندة الحديثة. وتعمدت في سبيل ذلك إقحام عامل ترابي في قضية اجتماعية وهو ما لم يكن مسبوقا في يوم من الأيام. والأنكى من ذلك أن حكومات أوربية أخرى وشركات أوربية هرولت من جهتها إلى إتخاذ مواقف غريبة من قبيل الامتناع عن التعامل التجاري والاقتصادي مع منتوجات واردة من أقاليمنا الجنوبية. وكان من حق الرباط أن تتعامل بحزم وحسم مع هذا النفاق المريب، وأن تقفل الباب بقوة شديدة في وجه الاتحاد الأوربي. وفي ذلك تنبيه واضح بأن زمن الاختيار الوحيد في الشركاء الاقتصاديين قد ولى وانتهى وأن نعمة تعدد الأسواق و الشركاء تطرح بدائل كثيرة و أن التعاون مع الإتحاد الاوربي ليس قدرا محتوما على المغرب. ثم إن الجدية والمسؤولية التي تعاملت بهما سلطات الرباط مع الجولة التي يقوم بها الأمين العام للأمم المتحدة إلى المنطقة المعنية بالصراع المفتعل في الصحراء المغربية كان دالا ومعبرا، ذلك وإن تعلق الأمر بالمسؤول الأول في المنتظم الأممي فإن ذلك لا يفقد المغرب سيادته على قراراته وعلى اختياراته. ومهم أن نسجل أن بان كي مون وافق على الصيغة التي اقترحها المغرب لهذه الجولة. إن سياسة الحسم والحزم في المجال الديبلوماسي أثمرت بدورها نضجا مسؤولا في التعامل مع الأشقاء العرب، وهذا ما يفسر اتخاذ قرار جريء من قبيل الإعتذار على استضافة القمة العربية. وكانت السلطات المغربية محقة في هذا القرار. فالمغرب لن يسمح لنفسه بأن يكون المقبرة التي سيدفن فيها التعاون العربي بصفة نهائية ورسمية. والأكيد أن سياسة الحزم في المجال الديبلوماسي مكنت الرأي العام الوطني من أن يشعر ويلمس إعادة الإعتبار لكرامته على المستويين الإقليمي والدولي، وهذا ما كنا نفتقد إليه لزمن طويل جدا.