جعل الله من كلّ ما حولنا، وفي كل ما يحيط بنا من سماء وماء وهواء وصحراء وخضراء وأحياء، بيئةً طبيعيةً لنا نحن البشر، سخّرها لنا تسخيرا لنستفيد منها وبها في حياتنا بكل مجالاتها علماً وعملاً.. لقد خلقنا سبحانه، وخلق لنا كلّ شيء، في جوِّ الأرض، وعلى ظهرها، وفي بطنها، ليكون لنا عوناً على عمارة هذه الأرض وزينتها، بما يُصلحُها ولا يُفْسدُها، لأن الله تعالى طيّبٌ لا يقبل إلا طيّباً، ولا يحب الفساد في الأرض، ولا إهلاك الحرث والنسل.. لقد أحيانا جلّ وعلا في أرض طيبة، كأنها لنا أمٌّ رؤومٌ، ببرِّها وبحرها، خلقها لنا كلّها صلاحٌ، وإذا ظهر فيها الفسادُ ببرِّها وبحْرها، فبما كسبتْ أيدي الناس... وخصوصاً نوعاً من النّاس لا يروْن إلا الكسْب والربْح الماديّ في أبشع مظاهره، وهم بذلك لا يروْن أبعد من أنوفهم، فيستغلّون الناس، ويستغلون خيرات الأرض، ويُسمّمون منابع الخيرِ في بيئة الأرض الطيّبة من حولهم رغم أنهم من الناس فيُفسدون في الأرض ولا يُصلحون، من حيث يظهرُ لهم أنهم يعمّرون، وهم يخرّبون، ويهلكون الزّرع والضّرْعَ، من حيث يظهر أنهم يُطوِّرون ويُنمُّون هذا الزرع والضرع... وأكبرُ قلب، وأنبلُ فؤادٍ خفقَ بحُبِّ الأرض الطيّبة، ببرِّها وبحرها، وسمائها وهوائها، وجماداتها وأحيائها... هو قلبٌ رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم... فقد أحبَّ السماء بنجومها وكواكبها وسحابها وصفائها وزُرْقتها واتّساعها... فكان لا يفْتُر عن النّظر إليها، يتمتّعُ بجمالها في كلّ أحيانها وأحوالها، ينظر إليها ليتملاها بعيْن البصرِ والبصيرة، والفكر والتّفكرّ، والتدبير والتدّبر.... ليرى في السّماء ذلك السّقف المحفوظ، في ارتفاعها العالي البعيد الذي تعرٌجُ إليه الملائكة في يومٍ كان مقدارُه خمسين ألف سنة، أو ألف سنةٍ... وفي زينة هذه السماء بزينة الكواكب، وفي التّماع نجومها وأقمارها، وفي أنّها بكلّ هذا مستقرّة محفوظةٌ مرفوعةُ بغير عمدٍِ، وهذه العٌمد إن كانت لا نراها ولا نلمسها، ولكن نستنتجها من حركة الأفلاك، ونُسميها الجاذبية اصطلاحا، وإلاّ فما هي (الجاذبية هذه) حقيقةً؟ وبأي شيء تكون؟ وكيف يمكن أن نعيد إنتاجها إن شئْنا؟ وها هي السماءُ بكلّ ما فيها سقفٌ محفوظُ مرفوعٌ بقُدرةِ الله الحكيم العليم، الذي هيا لنا أن نُدرك القدر اليسير عن الجاذبية التي تحفظ ارتفاع السّماء، ودوران الأفلاكِ... وهيّا لنا أن نخرج من هذه الجاذبية. ومع ذلك فلن يزال التحدّي القرآني للإنس والجنّ قائما: « يامعشر الجنّ والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا، لا تنفذون إلا بسلطان» وهذا التحدّي وحيٌ من الله العظيم، نزل به جبريلُ الملك العظيم، على قلبِ الإنسان العظيم، والنبيّ الرسول العظيم سيدينا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم... وعلى أرض الله تعالى الطيّبة التي يحيا فيها بنو آدم مكرّمين، امتلك بعضهم أسلحة دمار وخراب وفناء... يمكن أن ينسفوا بها الأرض وغيرها من كواكب السّماء ونجومها... وهم في تقدّمهم المادي المدمّر قد يدمّرون في لحظة جنون البيئة الطبيعية في أرضنا وسمائها، وهم أمس واليوم وغدا يتسبّبون في انقراض أنواع وأنواع من الأحياء لمجرّد شهوة الكسْب والتملّك والاستغلال... ولا يكتفون بهذا، بل إنهم يتسبّبون في تدمير البيئة العقلية والنفسيّة والوجدانية لإخوانهم في الإنسانية، فيغزونهم بوسائل الإعلام على اختلاف أنواعها تحمل إليهم محتويات مدروسة بعنايةٍ ودقّة وقصد... لتفسد أخلاقهم، وتشوه إنسانيتهم، وتجعل منهم مجرد دمى (آدمية) لها صورة الإنسان، وليس لها قليل أو كثيرٌ من أخلاق الإنسان وسموّه... هذا الإنسان الذي كرّمه الله وجعله في الأرض خليفة، وفضّله على كثير مًمّن خلق تفضيلا... ولولا كرامة هذا الإنسان على الله تعالى، لما سخر له السموات والأرض وما بينهما، وما فيهما ظاهرا وباطنا... ولما وهبه العقل الواعي الحرّ المختار الذي به يتحمل مسؤولية أمانة (التكليف) التي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان... فإن هو أحسن القيام بها، والقيام عليها، فهو حقّا الإنسان الحقُّ المكرّم المفضّل الفائز الملفحُ... وإن هو أساء حمل تلك الأمانة، وأساء استخدامها كما يفعل بعضهم اليوم فهو الظلوم الجهول... ومع العقل، وهب الله تعالى الإنسان النّفس السويّة الملهمة فجورها وتقواها، المهدية النجدين: الخير والشرّ، الشّاهدة على نفسها منذ خلقها الأول بأن الله ربُّها وإلهُها وحده لا شريك له.. ومن عرف الله جلّ وعلا حقّ المعرفة، فهو لا شكّ سيعرف بالتالي أن الخلق عيال الله كلّهم من بشر وحيواناتٍ ونباتاتٍ وجمادات وأهويةٍ... كل الخلق من متحرك وساكن، وحيّ وجامدٍ عيال الله، وأحبُّ خلق الله إلى الله أنفعهم لعياله... وأقدر مخلوق من خلق الله على نفْع خلق الله عيال الله هو الإنسان المؤمن الحقّ الذي يعرف ربّه ويُحبّه، فإنّ هو نفع وانتفع، فليسْعدْ بحُب الله، وليسعدْ بالتّوافق والوفاق مع الطبيعة بحيّها وجامدها، وسيعيش مع الجميع في سلام وإسلام، لأن الإسلام دينُ سلام مع النفس ومع الطبيعة أي البيئة)... وإن هو فكّر في أن ينتفع فقط، ولو على حساب غيره، من الناس والحيوان والنبات والجماد... فإنه سيعيشُ في ضنْكٍ وشقاق... أي في صراع مع نفسه أولا، ومن صارع نفسه، فلن يرتاح... لأن الله يبْتليه بالأمراض الظاهرة والباطنة، النفسية والبدنّية، وسيعيش في صراع مع بني جنسه من الناس، لأنهم سيروْن فيه عدُواً نهازاً للفُرصِ أنانيا أثراً استغلاليا، مصّاص دماءٍ.... وسيحسدونه ويكيدون له كيداً، فيعيش خائفا مُرتعشا مرتجفا، حذرا سيء الظن بكل ما حوله ومن حوله... وعلى المدى البعيد فإن الطبيعة بحيها وجامدها تدافع عن نفسها، فتنتقم بإذن ربها من الفاسد المفسد، فتظهر ظواهر طبيعية غير عادية نتيجة الفساد الذي يظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة غافلون... فما هي هذه (البيئة) التي يسعى إلى إفسادها وتلويثها المفسدون؟ ويعمل على الحفاظ عليها وبقائها ونقائها المصلحون؟ البيئة هي المنزل والدار... ومنزل كل إنسان هو محيطه وملجأه ومأواه الذي يأوي إليه ليجد راحته وسكنه وسكينته وهدوءه.. حيث يأكل ويشرب وينام ويعايش أهله وولده في حميمية وصميمية وتلقائية... ويعاشر جيرانه وأصدقاءه وزواره... وما أفضل أن يُحس المرء أنه في بيئته يعيش في رحابة وسعة ونظافة وأمن وجمال، وبساطة ويسر.. وبالبيئة التي تفهم بهذه المعاني وتطبق فيها، تفهم وتعرف بكمال وشمول قيمة الحياة في كل الكون - وكل الكون بيئة وحياة - سخرها الله لنا لنتوافق معها... فهي المحيط الطبيعي لنا الذي أمرنا أن ننتفع به وننفعه ونزيد في نموه وازدهاره... فالأرض مهد موطأ لنا لنحيا فيها حياة طيبة رغدة هنيئة سعيدة... وها هو نموذج أورده عن عالم مؤمن من القرن الثامن الهجري، والرابع عشر الميلادي.. وهذا العالم أحب البيئة الطبيعية بكل خلق الله فيها، لأنه كان يرى فيها عظمة من خلقها.. وهو الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى الذي قال في وصف الأرض: «وإذا نظرت إلى الأرض، وكيف خُلقت، رأيتها من أعظم آيات الله فاطرها وبديعها، خلقها سبحانه فراشا ومهادا، وذللها لعباده، وجعل فيها أرزاقهم وأقواتهم ومعايشهم، وجعل فيها السبل لينتقلوا فيها في حوائجهم وتصرفاتهم، وأرساها بالجبال أوتادا تحفظها لئلا تميد بهم، ووسع أكنافها، ودحاها، فمدها وبسطها وطحاها، فوسعها من جوانبها، وجعلها كفاتا للأحياء تضمهم على ظهرها ماداموا أحياء، وكفاتا للأموات تضمهم في بطنها إذا ماتوا، فظهرها وطن للأحياء، وبطنها وطن للأموات...» أفلا تستحق منا هذه الأرض أن نحفظها ونصونها ونرعاها ونطهرها؟ وقال أيضا رحمه الله تعالى عن البحار: «ومن آياته وعجائب مصنوعاته البحار المكتنفة لأقطار الأرض، التي هي خلجان من البحر المحيط الأعظم بجميع الأرض، حتى أن المكشوف من الأرض والجبال والمدن بالنسبة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم، وبقية الأرض مغمورة بالماء، ولولا إمساك الرب تبارك وتعالى له بقدرته ومشيئته، وحبسه الماء لطفح على الأرض وعلاها...» أفلا يعلم المفسدون في البحر والبر أنهم يدمرون بيئة الأرض بما تكسب أيديهم وتقترفه من شر وضر، يعودان بأوخم العواقب على الحياة والأحياء؟!.. فليحموا أنفسهم بحماية بيئتهم في أرضهم وبحارهم.. وليحفظوا نقاءها وبقاءها لأنفسهم ولغيرهم..