"لا حاجة لك أن تتوجه إلى رئيس الحكومة لمعرفة مستوى حرية التعبير في بلد ما، بل إلى الرسام الكاريكاتوري في الصحيفة" : تلك هي الخلاصة التي أجلتها الندوة الإعلامية حول "الكاريكاتور بين صحافة الرأي وصحافة الخبر" التي نظمتها أول أمس بباريس مؤسسة "أورساي للثقافة" بمشاركة نخبة من الكاريكاتوريين الفرنسيين والأجانب من أمثال كريستيان بيناي، وماريز كوليني، وبلانتو وغيرهم. واستعرضت الندوة المسار التاريخي للفن الكاريكاتوري وقدرته على التقاط الأشياء وإضفاء لمسة من أكسسوارات التجميل والتلوين عليها، لتشكل شحنة مكثفة ومعبرة بشكل أعمق عن الواقع الذي يعتمل في نفوس الكاريكاتوريين، تماما كما يفعل الرسام في اختيار الألوان التي يراها أكثر عمقا وتعبيرا من غيرها في لوحاته. والكاريكاتور بهذا المعنى لا يمكن اعتباره مجرد عمل إبداعي ساخر، وظيفته انتقاد الأوضاع الاجتماعية والسياسية بروح لاذعة وخطوط جريئة، بل يتجاوز ذلك ليشكل في المشهد التواصلي الحديث، جنسا إعلاميا قائم الذات، يقف في مفترق الطرق بين صحافة الرأي بما يسلطه من شعاع على واقع المجتمع وهمومه، وصحافة الخبر بما توفره هذه الصحافة من مواد جوهرية للبناء التحليلي. ومن فرط انسجامه وتناغمه مع تطلعات القارئ الغربي، انتصب الكاريكاتور كواحد من الأجناس الإعلامية الأكثر شيوعا واستقطابا للجمهور، حتى إن شعبية الصحف وقيمتها كانت تقاس في الغالب بأسماء الكاريكاتوريين بها. وكانت هذه الصحف تضرب مع جمهور قرائها بشكل تلقائي، ما يشبه المواعيد السخرية اليومية لفضح الأشياء وتعريتها من خلال تناول شخصيات ذات رمزية عالية برسوم لاذعة وجريئة. ورصدت الندوة هذا الواقع من خلال سرد تاريخي للفن الكاريكاتوري الذي شكل منذ بداية القرن التاسع عشر بفرنسا، مؤسسة قائمة الذات بتقنياتها وهياكلها، وساعدته في ذلك الأوضاع الهشة للحكومات المتعاقبة آنذاك والتي أسهمت بشكل كبير في إنعاش الحركة الكاريكاتورية، مع ظهور أسماء ذات شحنة إبداعية قوية مثل شارل فيليبون، والرسام أونوري دوميي، وهو أول فنان يدخل السجن بسبب رسم كاريكاتوري قدم فيه الملك لوي السادس عشر، أثناء الإرهاصات الأولى للثورة، على شكل خنزير. ولم يثبت عن دوميي أن داهن أحدا بمن في ذلك الأمبراطور نابليون الثالث الذي حوله إلى عامل استهزاء بديماغوجيته، والأديب العالمي فيكتور هيجو الذي خصه بأزيد من 500 رسما كلها برؤوس ضخمة للكاتب. وبعد الحرب العالمية الثالثة، اقتحم الكاريكاتور بقوة جميع الإصدارات الصحفية، واضطر الرسامون إلى التخلي عن الأشكال التصويرية المعقدة (المكعبات، الظلال، الرسم الانحنائي...) لفائدة الرسوم الخطية المبسطة. وكان رائد هذا الاتجاه، الرسام هونري بول جازيي، الذي اشتغل في البداية مع الجريدة الشيوعية "لومانيتي" (الإنسانية)، قبل أن يؤسس أسبوعيته الساخرة "البطة المقيدة" (لوكانار أونشيني) التي تبيع حاليا حوالي 600 ألف نسخة. وفي سياق هذا السرد، أجلت الندوة حقيقة مفادها أن فرنسا لم تسلم بالرغم من تاريخها الديمقراطي العريق، من ملاحقات قضائية عديدة ضد الكاريكاتوريين من بداية القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، حتى وإن كانت العقوبات خفيفة نسبيا لم تتجاوز أقصاها، الحكم على الرسام أونوري دوميي بثلاثة أشهر نافذة لتمثيله الملك لوي السادس عشر بالخنزير، بينما لم تتجاوز العقوبات الأخرى بعض الغرامات المالية معظمها ينحصر في المبلغ الرمزي. أما اليوم، فأصبح الكاريكاتور في فرنسا فنا مألوفا لا يضايق أحدا من المسئولين أو القادة المستهدفين الذين أصبحوا ينظرون إليه على أنه إبداع ترفيهي حتى وإن كان مشحونا بانتقادات لاذعة ومهينة. ولا أدل على ذلك من قول الرئيس السابق جاك شيراك (صاحب الأنف الطويل) أثناء تعقيبه على أحد الرسوم التي تظهره في مكتبه بالإليزي، بينما أنفه يطوف بإحدى ضيعات النبيذ بجنوب فرنسا للاشتمام جودة المحصول :"سامحهم الله، لقد جعلوا أنفي أطول من اللازم هذه المرة". وبينما ينظر الفرنسيون اليوم إلى الكاريكاتور على أنه فن للتسلية والترفيه، وأيضا وسيلة للمعالجة الدقيقة للأحداث، من دون مداراة أو تودد، فإن هذا الفن لم يتجاوز في البلاد العربية مرحلة الإطلالة المحتشمة التي دشنت لها أسماء وازنة من أمثال محمد عبد المنعم رخا، وجورج البهجوري، وناجي العلي، وأيضا مصطفى حسين الذي اكتسب شهرة واسعة من خلال رسومه الساخرة في "أخبار اليوم" المصرية. ويفضل معظم الكاريكاتوريين العرب تناول المواضيع الاجتماعية في إبداعاتهم الساخرة، والابتعاد قدر المستطاع عن كل ما هو "شخصاني" في السياسة تجنبا لسنوات (وليس لشهور) مريرة في السجون. ولم يحدثنا التاريخ الكاريكاتوري العربي عن سلامة جرة أي من الرسامين العرب حاول الاقتراب من مربع التشخيص (تشويه أنف أو بطن أو جمجمة الزعيم). ولأن العرب لهم حساسية رهيفة تجاه النقد وخاصة الهجاء الذي شكل على امتداد أحقاب مدخلا للحروب بين العرب، فإن فن الكاريكاتور لن يخرج عن كونه هجاء بالمرموز يتوجب ردعه بشتى الطرق. وباستثناء محاولات خجولة شهدها المغرب في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، لم تشهد الصحافة المغربية اختراقا يذكر في هذا الجنس الإعلامي المتميز.