.. في «الثقافة وجواراتها» كتاب جديد، من تأليف الأستاذ أحمد شراك، عرْض الدكتور سعيد كريمي، قدّم فيه الإصدار الجديد لقراء العربية، بمقاربة إجرائية لمحتوات الكتاب، عبر «العلم الثقافي» ملحق «جريدة العلم» الغراء: 23. اكتوبر.2008.. .. صدّر الدكتور كريمي تقديمه للكتاب، بعبارات مُشعرة بالقرف والإشمئزاز والصدود والعقوق لثقافة الأمة وهُويّتها الحضارية، وللقراء بوجْدٍ عام! وهو ما يتنافى، أيضا، حتى مع عنوان الكتاب: طرْداً وعكساً: «الثقافة وجواراتها»!. وأتوقف، في البدء، مع فقْرتيْن اثنتين فقط، أضعهما بين يدي القارئ الكريم، استهلّ بهما عرْضه للكتاب بقوله: «وقد شكل المشرق العربي بالنسبة إلى المغرب لسنوات طوال، مصدراً أساسياً، ومرْجعية يصعب تجاوزها! (...) ؛ حيث كانت الثقافة المغربية، تستمد شرْعيّتها الرّمزية من هذا الشاهد؛ باعتباره النموذج القوْميّ والثقافيّ (....)؛ ويمكن تفسير هذا التعلّق بأسباب مختلفة، يتداخل فيها الإثْنى بالدّيني (....) غير أن بدايات السبْعينيات، من القرن الماضي، شهدت محاولات حقيقية لقتْل هذا الأب الزّمْري! (...) واستمرت موجة العقوق والإعلان عن «الأنا!...» أ ثقافة الكراهية والاستعداء كذا.. يُدثّن مُقدِّم الكتاب حديثه إلى القراء، عن «الثقافة وجواراتها» بإطلاق عيارات نارية ثقيلة صوْب الثقافة الوطنية في خطوة جرّيئة! والتوقيت الدّقيق الذي حدّده للإعلان عن موْجة العقوق والقتل والقطيعة مع الأب الرّمزيّ للثقافة المغربية، هو «بدايات السبعينيات» التي لها دلالاتها الرامزة!.. دعْنا تتساءل: عن الخيط الناظم، بين الإعلان عن موجة العقوق والقتل والحنين إلى ذلكم الماضي اللّعين، وبين التقديم لكتاب: «الثقافة وجواراتها». أية علاقة؟! .. الثقافة، فيما نعلم، ذات رسالة إنسانية نبيلة، لعلّ من أبرزها، مدَّ جُسور التعارف والتواصل مع الآخر، مع ما يعنيه ذلك.. من تجاور وتعاون، وتعايش سلْميّ بناء بين مختلف الثقافات الإنسانية: لإيجاد مجتمع متقارب يسوده الأمن والاستقرار: عملا بقول الله تعالى (وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان). ذلك السلوك الرّسالي للثقافة، ما نفتقده في مقدّمة العرض الذي قدّمه الدكتور كريمي للكتاب: ممّا يحملنا على طرح تساؤل آخر: أهو توظيف مشاكس للمشهد الثقافي ببلادنا نحو المجهول؟ حين تتحوّل الثقافة، لدى بعض مثقفينا الجدد، من وسيلة للتثاقف وتقريب المسافات بين المثقفين وبخاصة ذوي القربى منهم تتحوّل إلى احْتراب واقتتال واغتيال!. مما ينذر بإرهاب جديد يتقمّص زيّ الثقافة لهذه المرة! من يدري؟! فمنْ هنا يبدأ! من فكرة منْفلتة، وكلمة جامحة جانحة.. من (....) «فمُعْظم النّار من مستصْغر الشّرر»! وبماذا نفسّر هذه «التقليعات المتشنّجة التي تشي بحرب نفسيّة فكرية مشتعلة.. تستهدف أساسا «الأب الرّمْزي الذي يشكّل الثقافة المغربية والذي يصعب التخلّص منه إلا بالقتل! وهو، بلاريب، قتْل معنويّ، الذي هو أشدّ وأنكى من القتل الماديّ عما يقرّره علماء النفس والاجتماع وصدق الله: (والفتنة أشدّ من القتل)! كان هذا.. هو حظّ «الأب الرمزي» للثقافة الوطنية، من عارض «الكتاب»! على العكس تماما مما رأيناه وهو يتحدث عن ثقافة الأب: «فولتير» VOLTAIRE، الهمام! حيث بدا متسامحا معه أكثر من اللازم لدرجة الاستجداء! ونحن لا نطالبه بأن يتعامل مع الأب الرّمزيّ لثقافتنا بأحسن منها لسببٍ واضحٍ، لكن أما كان له وفي أسوإ الأحوال، أن يعامله على الأقل يمثلها، تناسقاً مع الموضوع الذي يتناوله، مما تقتضيه التقاليد الثقافية في مثل هذه المواقف، أمْ أنّها عُقدة الرفْض لثقافة الأمة؟ في المغرب أوْ في المشرق؛ الرمز الذي يُحيلنا على طرح هذا السؤال المحوري: أهيَ حرْب مُعْلنةٌ على الجار، أم على أهل الدار؟ وهو سؤال يذكرنا بالمثل العربي السائر: «اسمعي بإجارة، وإيّاك أعْني!. وهل يستطيع مقدّم الكتاب أن يحددّ لنا بالأرقام، علامات فارقة وخطوط فاصلة، بين ثقافة المغرب والمشرق؟ أو ليْست هذه من تلك: (ذريّة بعضُها من بعْض)!... .. إن دعوات التنصّل والانفصال عن هوية الأمة، لها سوابق مماثلة في المشرق كما في المغرب، وإن اختلفت «المساحيق» التي تتقنّع بها فالصورة واحدة. لقد ظهرت في «مصر» يوم دعا كاتب عربي مسيحي بإيعاز من الإنْجليز، بإحداث قطيعة مع الحروف العربية/الشرقية، والإسْتعاضة عنْها بالأبجدية اللاّتينية! وقد تبخرت دعواتهم أوْهاماً في العراء، فذهبتْ إلى حيث ذهبوا، فما أشبه اليوم بالأمس! وتتجدّد اليوم، هذه النعرات المشبوهة، في الوقت الذي تتجه فيه الأمة: قادة وشعوباً ومؤسسات مدنيّة نحو الوحدة والتضامن، لإصْلاح ما أَفْسَدَهُ الطابور الخامس، طابور الفتنة والفرق والشقاق؛ لاسْتنزاف طاقة الأمة؛ وإني لأرجو أن لاَّ تكون هذه الأَبْواق النفاثة صفقة جديدة للتآمر ضدَّ الوحدة الوطنية والْتئام شمْل الأمة، على غرار الصفقات التآمريَّة الأخرى التي كانت تعقد بالأمس القريب مع «الدُّبِّ الرُّوسيّ على حساب عقيدة الأمة ومشروعها الحضاري، وما العهد عنّا ببعيد!.. ب - هويّة وثقافة الأَنَا ... منذ أن أكْرمنا الله بالإسلام، في هذا البلد الأمين، والعلاقة بين المغرب والمشرق قائمة على قدم وساق، وهي علاقة رحم وإخاء، وتعاون وتكاهُل وتنافس شريف، لمَا فيه مصلحة الأمّة بين الإخوة الأشقّاء. فأصُولُنا الثقافية والحضارية - نحن المغاربة، شأن سائر الشعوب الإسْلامية، مستمدّة من المشرق العربي؛ باعتباره مهْبِطَ الوحي، ومَهْد النبوة والرسالة المحمدية الخاتمة، مصْدَر ثقافة العالم الإسْلاميّ كلّه. ومن هنا، تَسقُط دعْوى «النّسبيّة» التي حَشابها مقدّم الكتاب صدْر مقاله بقوله: «وقد شكل المشرق العربي.. بالنسبة الى المغرب مرجعية..» فمقولة: «بالنسبة إلى المغرب» حشْو ضائع لايضيف جديداً في هذا السّياق!.. ذلك، لأن المشرق العربي لمْ يُشكّل ثقافة المغرب فحَسْب؛ وإنما شكّل ثقافة كل الشعوب المسلمة بما فيها المغرب لكوْنهِ منْزلَ الوحي، وقبلةَ المسلمين، ومكاناً لأداء مناسك حجهم. هكذا أراده الله، حتى تبقى أنظار المسلمين أينما كانوا موصولة به: (وحيْثُ مَا كُنتم فولُّوا وجوهَكم شَطْرَهُ...» وإلى هذه الآصرة الدينية والثقافية التي تصلنا بالمشرق، كان لعلمائنا المغاربة، على امتداد التاريخ الإسلامي للمغْرب المسلم: - اجتهاداتُهم واختياراهم وخصوصيتهم، في مختلف العلوم والمعارف والآداب والفنون. - في دائرة الأصول العامة للشريعة -؛ بحيث لم يكن علماؤنا المغاربة، مجرَّد آخذين أو ناقلين لثقافة الشرْق التي هي ثقافتنا بالأساس، بقَدْر ما كانوا مُساهمين ومُضيفين ومُبْدعين، فأَعْطوا للشرق الكثير، مثْلما أخَذُوا منْه الكثير، وسَيَسْتمرّ الأخْذ والعطاء قائماً بحول الله، بين المشرق والمغرب إلى ما شاء الله. وهل من الجائز أن يقال: إن «مغْربَ» جامعة القرَويّين التي كانت عبْر التاريخ منارة علم وإشراق، وإشْعاع حضاريّ، في أقطار مختلفة من العالم - يظلّ (المغرب) طوال هذه العقود المتعاقبة، بدون خصوصية ثقافية (!!!) أَيُعقَل هذا؟.. حتى إذا كانت «بدايات السّبْعينيات» من الألْفية الثانية للميلاد، حينها، يكتشف المغرب إنْسيَّتَهُ وخصوصيّته! وعلى يَدِ مَن؟ على يَدِ أبْناء عاقّين قَتَلَة لأبيهم! من طينة (بعض) العناصر التي تتَرَّس بها عارض الكتاب، في تسويق أطروحته الجديدة، لثقافة العقوق والقتل والقطيعة!ألاَ يُعَدّ ذالك الإدِّعاء، تزويراً لتاريخ المغرب؟ واغتيالاً لمسيرته العلمية وإزْرَاءً بعلمائه، وإجْحافاً في حقّ الثقافة المغربية والخصوصية المغربية عندما تُختزل في «بدايات السبْعينيات» من القرْن الماضي ! كَما يزْعمُ الزّاعمون! ** صدر الدكتور كريمي دفاعه عن ثقافة الرفض والعقوق لهوية لاأمة، بالإحالة على الدكتور عباس الجراري:«عندما دافع عن «أطروحته» القصيدة «في جامعة الأزهرب بمصر،،. وأرى في ذلك التصدير، وتلك الإحالة ضربا من التمويه على القارئ، وقفزا على الواقع، ذلك، أن الدكتور عباس الجراري، اشتهر بمواقفه الواضحة المشرفة، في الدفاع عن ثقافة الأمة ومقوماتها الحضارية، التي لاتقبل التجزئة أو التصنيف سواء في المشرق أو في المغرب؛ واعتبارا لذلك، ننفي، وبصيغة الجزم، أن تكون الرحلة العلمية لعالمنا الجليل، الى جامعة الأزهر بمصر، بدافع من تضخيم الأنا أو إعلان العقوق والقطيعة. مع ما أمر الله به أن يوصل! مما قد يوهم به كلام مقدم الكتاب! إنما كان الباعث على الرحلة، هو تعزيز سبل التواصل بين علماء الأمة حول موائد العلم، لإفادة الأمة، وهي سنة درج عليها علماء المغرب ومفكروه قديما وحديثا، من أمثال أمثال ابن خلدون وأحمد زروق، والحسن اليوسي وأبو الحسن الشاذلي، وعلال الفاسي وعبد الله كنون والمختار السوسي، وعبد الهادي التازي في آخريه... ولم نقرأ لأحد من هؤلاء الأعلام الموسوعيين، بالأمس أو اليوم، أن أعلن عقوقه أو قتله «للأب الرمزي»؛ بل اعتبروا أعمالهم الإبداعية على جلالة قدرها وقيمتها العلمية إسهامات فكرية وإضافات نوعية تأتي في سياق التكامل المعرفي بين علماء الأمة، لإغناء الثقافة الإسلامية بالجديد المفيد، والتي هي قاسم مشترك بين جميع المسلمين. وفي هذا السياق الثقافي التكاملي بين أهل العلم، تأتي الرحلة العلمية للأستاذ عباس الجراري الى مصر، لتقديم إبداعات المغاربة لأشقائنا في الشرق العربي، من خلال أطروحته العلمية التي أبرز فيها لإخوتنا في مصر، مدى ارتباط المغاربة بثقافة الأمة، ومدى عمق وعيهم بأصولها ومصادرها وموارد الإبداع فيها، ما حفزهم على ارتياد آفاق شعرية جديدة، والمتمثلة في قصيدة الزجل والشعر الملحون والموشحات، التي لاتتجاوز في إطارها العام التصنيفات العروضية المألوفة، ولم تشذ عنها الموشحات، إلا في «اللازمة أو «القفل»، أما العروض الشعري العربي، فملتزم في جميعها، وثلاثتها تنساب في رقة وتناغم مع «نوبات ومقامات» موسيقى الطرب الأندلسي، شأن البحور الشعرية الأخرى، مما يعزز انتماءها بالأصالة الى دائرة العروض الشعري العربي الأصيل. الى ذلك، فالدكتور عباس الجراري لم يدع إطلاقا في أطروحته «القصيدة» الى تجاوز القواعد التي قعدها الرواد الأوائل سواء في العروض العربي أو في النحو أو في البلاغة والعرب بالباب!. مما يفند ادعاء كاتب المقال، في كون الأنواع الشعرية الثلاثة الآنفة الذكر التي أبدعها المغاربة «قديما»، تعد بزعمه نزوعا منهم نحو القطيعة عن ثقافة الشرق العربي، ومؤثرا على إعلان العقوق له! وهو منطق متهافت ومحيل للمعنى، ينقض ما أعلن عنه كاتبه لاحقا في نفس الفقرة بأن المغرب لم يكتشف خصوصيته الثقافية، إلا في سبعينيات الألفية الثانية للميلاد! مع فلان وعلان! كلام يبعث على الإشفاق والحسرة! ومع هذا الإبداع الغزير الذي راكمه علماء المغرب إن في القديم أو الحديث، لم يقل أحد منهم إنه خرق قانون اللغة وخلخل قواعدها أو ركب موجة العقوق لثقافة الأمة أو المروق عنها، مثلما نقرأ اليوم لبعض الكاتبين والمتشاعرين، في وطننا، ومن أبناء جلدتنا للأسف الشديد..