تناهى إلي هذا الكتاب «الصغير المبنى، الكبير المعنى» كما يقول الفقهاء، لمؤلفه الباحث الجاد الأستاذ بوعزة الساهل، وقد سارعت إلى تصفحه لاسيما وقد تفضل المؤلف فأخرج الكتاب برسمي واسمي ، لاسيما أيضا وأنا أعرف عن انشغالاته بالمشروع الرياضي عند العرب والمسلمين، هذا المشروع الذي ذكّرني في مقال مسهب كتبته بعنوان (الهندسة وعلم المناظر في ضحى الإسلام)، نشرته جريدة العلم في عددها الثقافي بتاربخ 5 أكتوبر 2006، وكان المقال في الواقع تقديما لعمل جليل قدمه إلينا الزميل الدكتور رشدي راشد عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة.. لقد كنت اشتغل بالكتابة الرياضية عند العرب والمسلمين عندما انصب اهتمامي على النص السردي الذي ورد في كتب التاريخ المغربية عن «الساعة المائية» التي توجد آثارها إلى اليوم في منار القرويين بفاس، والتي يرتبط سيرها بسير الأسطرلاب المتصل بها... وكنت في واقع الأمر أحاول أن أفهم عن مدى الاختراق الذي قام به أسلافنا لولوج العلوم بعربيةٍ سليمة رفيعة... وقد وجدتني اليوم مشدودا إلى هذا التأليف الجليل: «الرياضيات عند إخوان الصفا». نحن نعرف هذه الفرقة ضمن مشروعها الثقافي والسياسي، ويغيب عنّا أحيانا البحث في نشاطها العلمي والثقافي الصرف... لقد استوقفني الكتاب واتخذته أنيسي طوال هذه الأيام التي استحضرت فيها المنطقة المشرقية التي عشت فيها ردحاً من الزمان مع زملاء أعزاء لي كانوا منقطعين إلى إخوان الصفا وخُلان الوفا... لقد شكرت الأستاذ الساهل تقديم هذا الجانب المشرق من نشاط الإخوان فلم يكن غيره أهلا لهذا التقديم الذي كم نحن في حاجة إليه... إن الكتاب يشتمل على مقدمة وستة فصول وخاتمة، وملحق يحتوي على أغراض كل رسالة من رسائل الإخوان. ولقد قدم لنا في الفصل الأول تعريفاً شاملاً بإخوان الصفا: عصرهم ومذهبهم ومصادر معارفهم، وهو يرمم في نظرنا ما وقع من تقصيرٍ في المؤلفات المتداولة. وقد تناول الفصل الثاني موضوع الرياضيات عند إخوان الصفا: رسالة في العدد وخواصه، فصل في مسائل من المقالة الثانية من كتاب إقليدس في الأصوال، ثم رسالة في الهندسة.. وكان من المهم أن للفصل الثالث علاقة بعلم الطلسمات والعزائم عند إخوان الصفا، وهو فصل هام يرفع اللبس الذي كنا نشعر به ونحن نقرأ عن علاقة الرياضيات بالطلسمات... بينما تناول الفصل الرابع النسب العددية والنسب الهندسية، وتناول الفصل الخامس علاقة علم العدد بالنفس عند إخوان الصفا، وتناول الفصل السادس المنهج العلمي والفلسفي لإخوان الصفا... ويفيدنا الأستاذ بوعزة أن جماعة إخوان الصفا وضعت مذهباً لها اعتقدت أنه يقرب الطريق إلى الفوز بمرضاة الله، فهم يذكرون أن الشريعة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات ولا سبيل إلى تطهيرها إلا بالفلسفة لأنها، أي الفلسفة، تعلم الحكمة، وقد ذكروا كذلك أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة الإسلامية فهنا يحصل الكمال! وهنا يستشهد الأستاذ بوعزة بمقولة رويت عن صمصام الدولة بن عضد الدولة الذي كلنا يعلم يعتبر من رجالات الدولة البويهية التي عرفت عن التآليف العلمية الصرفة ما أشرنا إليه في صدر هذا العرض: (الهندسة وعلم المناظر في ضحى الإسلام). المقولة تذكر أن صمصام الدولة سنأ عن المقدسي وما يقوله في الشريعة وفي الفلسفة، فروى حديثا يقول فيه: إن الشريعة طبّ يعالج المرضى من الناس، وإن الفلسفة طبّ نافع للأصحاء، ومن هنا كان الأنبياء يعالجون المرضى حتى لا يتزايد مرضهم، بينما كان الفلاسفة يحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم المرض أصلاً! يستحق الكتاب أن يأخذ مكانه في المكتبة المغربية وأن يكون من المراجع الجادة في باب التعريف بالنشاط العلمي لجمعية (إخوان الصفا) التي ألف عنها العلماء بكل لسان؟ والتي تستحق منا التعرف عليها لاسيما ونحن نهتم اليوم بحوار الثقافات وتلاقح الحضارات، ولا سيما في هذه الظروف التي يتهم فيها الفكر الإسلامي بالضحالة وقلة الفائدة.