إذا كان جلالة الملك الحسن الثاني قد أعلن عن قرار المسيرة الخضراء في الخطاب التاريخي الذي ألقاه في يوم 17 أكتوبر سنة 1975، فإن جلالة الملك محمد السادس أطلق الجيل الثاني من المسيرة الخضراء في الخطاب الفاصل الذي ألقاه في يوم 6 نوفمبر الحالي. وإذا كان الخطاب الأول يعدُّ إعلانًا عن مرحلة جديدة من ثورة الملك والشعب، فإن الخطاب الثاني يعدُّ أيضًا، تكريسًا لمفهوم الثورة المغربية التي يقودها العرش من أجل تعزيز الوحدة الترابية للمملكة، أعطى زخمًا قويًا للمسيرة في انطلاقتها الجديدة. وبقدر ما كان الخطاب الأول علامة فارقة في تاريخ المغرب، تميّز الخطاب الثاني بأنه خريطة الطريق نحو بناء المستقبل في ظل الوحدة المتراصة المتلاحمة القائمة على قواعد من الانتماء إلى الوطن الواحد، ومن الولاء للعرش القائد، ومن الوفاء للقيم والمبادئ التي تبث الروح في الجسم المغربي. لقد كان خطاب جلالة الملك يوم 6 نوفمبر قويًا في الدلالة، صريحًا في التعبير، قاطعًا في الحسم، شجاعًا إلى أقصى درجة، في تحديد الموقف المغربي إزاء ما يُبيَّت له من مؤامرات على وحدته الترابية من أكثر من جهة، بقدر ما كان هذا الخطاب التاريخي كاشفًا عن الحقائق، ومؤكدًا على المبادئ، وموضحًا للسياسة الوطنية التي قرر المغرب أن ينهجها في المرحلة المقبلة، لقطع دابر المؤامرة، وللردّ العملي الحاسم على خصوم الوحدة الترابية المغربية. وجاء التأكيد الملكي القاطع على أن (الصحراء قضية وجود وليست مسألة حدود)، ليظهر للعالم كله أن المغرب لن يتخاذل أو يضعف أو يستسلم أمام المناورات والمؤامرات التي ترمي إلى تحويل مسار الأزمة المفتعلة في المنطقة، نحو تحقيق أغراض دنيئة، وليبلغ رسالة صريحة إلى المجتمع الدولي، مفادُها أن قضية الصحراء تعلو فوق كل القضايا، وأن المغرب لن يفرط في أقاليمه الصحراوية الجنوبية، لأن لا أحد يمكن له أن يفرط في وجوده، ولا سبيل له إلى هذا التفريط. وكون الصحراء قضية َ وجود في العقيدة السياسية للدولة المغربية، فلأن الوحدة الترابية مسألة مقدسة لا تقبل بأي حال من الأحوال، المساس بها، أو التهوين من شأنها، أو تجاوزها، أو أن تكون موضع أخذ ورد على أي مستوى كانا. فالقضايا المقدسة لا يجوز، بأي حال من الأحوال وتحت أي ظرف من الظروف، التفويت فيها، أو التلاعب بها، أو طرحها للمزايدات، فهي فوق السياسة التي هي فن الممكن. فالدولة المغربية لا تنفصل عنها صحراؤها، لا في الجنوب، ولا في الشرق، على حد سواء. وهذا هو ما عبر عنه جلالة الملك أقوى ما يكون التعبير، في خطابه يوم 6 نوفمبر حينما قال، حفظه الله : (الصحراء ليست قضية الصحراويين وحدهم، الصحراء قضية كل المغاربة، والمغرب سيظل في صحرائه والصحراء في مغربها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها). وليس أقوى في الدلالة من هذا الخطاب الملكي الصريح الواضح، الذي جاء في الوقت المناسب ليعلن عن انطلاق المسيرة الخضراء في جيلها الثاني، نحو حماية الوحدة الوطنية، وصون المكاسب التي حققها الجيل الأول من المسيرة الأولى، والشروع في تنفيذ استراتيجية تنموية شاملة ومستدامة في أقاليمنا الصحراوية، في إطار الجهوية المتقدمة التي هي خيار وطني، ومبدأ دستوري يعبران عن الإرادة الشعبية الجماعية. وتأتي الأهمية البالغة لهذا الخطاب من قوته التعبيرية عن إرادة وطنية جامعة كاسحة لألغام المؤامرات، ومن تأكيده على المبادئ العليا التي تتحدد في ضوئها الأهداف السامية التي يتوجب الوصول إليها في المسيرة الوطنية الجديدة. وهي الأهداف التي تتطلب التضحية من أجلها، بكل دلالات التضحية التي تعكس قوة الانتماء، وصدق الولاء، وشدة التعلق بالوطن والتشبث بمقدساته. لقد كان الخطاب الملكي شديدَ الوضوح قويَّ الصراحة قاطعًا وحاسمًا، حين تطرق لما أسماه (بعض الاختلالات) التي عرفها (نمط التدبير في الصحراء). فكما تبرز ظاهرة أغنياء الحروب الذين يستغلون أوضاع الحرب ويتنافسون في اكتناز الأموال الطائلة، كذلك برزت عندنا ظاهرة أغنياء الصحراء الذين استفادوا واغتنوا وتنافسوا في اكتناز الأموال ما شاؤوا، من دون أن يقدموا تضحيات للوطن، أو يساهموا في تنمية المجتمع المحلي وفي النهوض به. لقد كشف الخطاب الملكي الأخير عن هذه الفئة الشاذة من المواطنين التي يفترسها الجشع ويعميها الطمع : « إننا نعرف جيدًا أن هناك من يخدم الوطن، بكل غيرة وصدق، كما أن هناك من يريد وضع الوطن في خدمة مصالحه. هؤلاء الذين جعلوا من الابتزاز مذهبًا راسخًا، ومن الريع والامتيازات حقًا ثابتًا، ومن المتاجرة بالقضية الوطنية، مطية لتحقيق مصالح ذاتية. كما نعرف أن هناك من يضعون رجلا ً في الوطن إذا استفادوا من خيراته، ورجلا ً مع أعدائه إذا لم يستفيدوا». وليس بعد هذه الصراحة من مزيد. ولم يبق عذر لعدم الشروع فورًا في تطبيق سياسة وطنية تضع حدًا لهذا الابتزاز، ولهذه المتاجرة بالوطن، ولهذا العبث بالمصالح العليا للبلاد، حتى تكون المسيرة الخضراء الجديدة تمضي في الاتجاه الصحيح، ويكون خطاب 6 نوفمبر الحالي خطاب الحسم، كما كان خطاب 17 أكتوبر 1975 خطاب الفصل بين مرحلتين الذي مهد السبيل نحو استرجاع أقاليمنا الصحراوية الجنوبية. إن انطلاق الجيل الثاني من المسيرة الخضراء يبدأ من هنا. فهذا هو الاتجاه الصحيح الذي يؤدي إلى تحقيق الأهداف العليا للمسيرة الخضراء المجددة، ولا اتجاه هناك غيره. وبذلك نؤكد على الأرض، أن الصحراء قضية وجود بقدر ما هي قضية حدود مقدسة ترسمها الوحدة الترابية للمملكة.