أصبحت ظاهرة الرشوة في عالمنا اليوم وسيلة للاغتناء السريع، ولتحقيق المصالح المحرمة واللاقانونية. وأصبحت "عمولة" شبه مشروعة في العديد من مناطق العالم. فما هي هذه "الرشوة" لغة وتشريعا وقانونا وما هو حكم الشريعة والقانون في هذا "الفعل" الذي سيطر على عقول شريحة واسعة من مجمع عالمنا اليوم؟ إن "الرشوة" ظاهرة بشرية، وأخطر الأمراض المتسلطة على المجتمع الإنساني لنخر قيمه وعقيدته وسياسته واقتصاده... وهي في كل المفاهيم والعلوم خرقا فادحا لحقوق الإنسان... فكيف تعاملت المفاهيم الدينية والفكرية والقانونية مع هذا الفعل؟ -1- الرشوة في نظر العديد من الفقهاء والعلماء، هي الفساد للذمم والأخلاق، خيانة للأمانة، إخلال بالثقة في عدالة الإدارة الحكومية ونزاهتها، وهي أيضا استغلال للنفوذ وتحقيق مآرب خاصة وأموال حرام، وتضييع لحقوق المواطنين وتعطيل لمصالحهم بالباطل. والرشوة في نظر علماء الاجتماع، تواطؤ أشخاص من داخل المسؤولية ومن خارجها، يتخذ أشكالا وصفات ومستويات مختلفة من أجل سرقة حق عمومي، وهي فعل يستند على ثلاث قواعد أساسية: المرتشي، الراشي والرائش (أي الواسطة). -2- الرشوة (بتثليث الراء) في اللغة العربية، إسم وجمعها رشى (بكسر الراء) ورشى (بضمها) والمراد بها: الجعل والمصانعة والمحاباة. يقال: رشا فلانا أي أعطاه رشوة، وترشى: أخذ رشوة، واسترشى: طلب رشوة. في منجد اللغة: الرشوة تنحدر من فعل رشا/ مصدرها رشواً. وهي ما يعطي لإبطال حق أو إحقاق باطل. وفي الاصطلاح: عرف الفقهاء والعلماء الرشوة في الصياغات التالية: قال ابن الأثير مجد الدين (الإمام) في غريب الحديث والأثر "الرشوة هي الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة بأن تصنع لغيرك شيئا لينصع لك شيئا آخر". وقال شمس الحق البادي في عون المعبود: "الرشوة ما يعطي لإبطال حق أو لإحقاق باطل". وقال ابن حزم الظاهري في المحلي... "الرشوة ما أعطاه المرء ليحكم له بباطل أو ليولى ولاية أو ليظلم له إنسان". وقال ابن عابدين محمد أمين في رد المحتر على در المختار على مثن تنوير الأبصار: "الرشوة ما يعيطه الشخص الحاكم أو غيره ليحكم له أو يحله على ما يريد". وقال الشيخ محمد الشربيني الخطيب في مفتى المحتاج إلى معارفة ألفاظ المنهاج للنوري: "الرشوة دفع لمن لم يحكم بالحق أو يمتنع عن الحكم"(1). وقال الدكتور يوسف القرضاوي في الحلال والحرم في الإسلام: "الرشوة ما يدفع من مال إلى ذي سلطان أو وظيفة عامة ليحكم له أو على خصمه بما يريد هو أو ينجز له عملا أو يؤخر لغريمه عملا وهلم جرا". جاء في المعجم الوسيط : "الرشوة ما يعطي لقضاء مصلحة". وجاء في معجم الفقه الحنفي: "الرشوة، تعني بذل المال في غير ما هو مستحق على الشخص". وجاء في دائرة المعارف لبطر البستاني: " الرشوة ما يعطي للتملق". -3- أما بالنسبة للتعريف الفقهي للرشوة فيلاحظ الباحث الإسلامي الأستاذ عبد الله الدرقاوي (2) إنها تتوزع على ثلاثة أنواع : النوع الأول : هو ما يتصل به إلى اخذ شيء بغير حق مثل الرشوة التي يدفعها الجاهل الآثم والمستبد الظالم للحاكم أو المسؤول ومن في حكمهما من اجل الحصول على إعفاء من شيء وجب عليه، أو للحصول على شيء قبل أوانه، أو من أجل ترويج سلعة فاسدة أو محرمة، أو من أجل أن يحظى بامتياز في مزاد علني.أو مناقصة علنية وطنية كانت أو دولية، وما أشبه ذلك من الأمور التي يترتب عليها أكل أموال الناس بالباطل. وهذا النوع من الرشوة هو من أشد الأنواع جرما وأعظمها إثما. وأكبرها خطرا على المجتمع المسلم وغير المسلم، وهذا النوع هو المعني بقوله تعالى في سورة البقرة " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها الى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وانتم تعلمون ". النوع الثاني : هو الهدية كما يحلو للبعض أن يسميها، وهو ما يتوصل به إلى تفويت حق صاحبه انتقاما منه، بدافع من الغيرة والحسد، وهو قريب من النوع الأول بل هو داخل فيه. وآثاره المدمرة لا تقل عن آثار النوع الأول، وليس في العالمين أخبث سريرة، وأسوأ سيرة من ذلكم المحتال على الحكام والمسؤولين ومن في حكمهما لحملهم على تضييع الأمانة المنوطة بهم، وتفويت الحقوق على مستحقيها وذلك بالاعتداء على أموالهم وأعراضهم من أجل إرضاء هذا الراشي أو ذاك. النوع الثالث : أما النوع الثالث من الرشوة فهو ما يتوصل به الراشي إلى منصب أو عمل ليس أهلا له لا علما ولا خلقا ولا كفاءة. وهذا النوع حرام بإجماع الأمة كالنوع الأول والثاني، والراشي والمرتشي والوسيط بينهما في الإثم سواء وفي نظر الباحث الإسلامي احمد الطويل (3)، أنها سبب في اللعن وفي الطرد من رحمة الله، إذ ينفي الإسلام عمن لا أمانة له قال عليه السلام : لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له. وفي نظر ابن العربي الأحمدي(4) الرشوة هي كل مال دفع ليبتاع من ذي جاه عونا على ما لا يجوز أو ما لا يحل، وهو ما يعني في لغة الشريعة : إبطال حق او إحقاق باطل. وفي نظره أيضا، الرشوة تكون بالمال كما تكون بغيره مما يعطيه الراشي للمرتشي من أجل قضاء حاجة أو غرض بغير حق. وفي نظر العلامة عبد العزيز بن الصديق(5) : الرشوة من الموبقات وكبيرة من الكبائر، آخذها ملعون والحاكم الذي حكم بها لا ينفذ حكمه كما قرره علماء المذاهب الأربعة، حيث قال ابن مسعود : الرشوة في الحكم كفر وهي بين الناس سحت. وهكذا، ينظر المشرع الإسلامي إلى الرشوة على أنها مال حرام لا يحل كسبه ولا أكله وهي محرمة على الآخذ والمعطي والوسيط الذي بينهما. وفي نظره أنها السبب في تغيير الأوضاع وقلب الحقائق، تحول المجرم الى بريء وبالعكس، تعمل على تنحية أصحاب الحقوق عن حقوقهم. جاء في سورة البقرة قوله تعالى : " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها الى الحكام لتأكلوا فرقا من أموال الناس (6)". وقال تعالى في سورة المائدة :" سماعون للكذب بالإثم أكالون للسحت، فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، وأن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا، وأن حكمت فاحكم بالقسط إن الله يحب المقسطين(7)". قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى : " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" الخ...وتفيد هذه الآية أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر، فهو لا يحل في نفس الأمر حراما هو حرام، ولا يحرم حلالا هو حلال. فالآية تفيد وجوب ترك الاحتيال واكل أموال الناس بالباطل أي برشوة الحاكم ليعطي للراشي ما ليس حقا له. وفي المعنى نفسه قال قتادة : اعلم يا ابن آدم أن قضاء القاضي لا يحل لك حراما ولا يحق لك باطلا، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى ويشهد به الشهود، والقاضي بشر يخطئ ويصيب، واعلموا أن من قضى به بباطل، أن خصومته لم تقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة " أي يجمع الله الخصمين فيقضي على المبطل للمحق بأجود مما قضى به للمبطل على المحق في الدنيا" (8). أما عن قوله تعالى :" سماعون للكذب أكالون للسحت". ويطلق السحت على المال الحرام لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويمحو أجرها وقيل السحت هو الرشوة، كما يطلق السحت على الحرام الخسيس الذي يعبر به لأنه يستأصل فضيلة الإنسان وشرفه، ويستأصل جسده في النار والآخرة وكذلك يطلق السحت على شدة الجوع، لأنه من كان شديد الجوع يستأصل ما يصل إليه من الطعام. فلقد روي عن عمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد رضي الله عنهم ان السحت هو الرشوة، وأجرة البغي، وثمن الخمر، وثمن الميتة، ويرجع أصل ذلك كله الى الحرام الخسيس. وفي بيان سبب نزول هذه الآية ما يوضح المراد منها، فقد روى أنها نزلت في اليهود، وكان الحاكم منهم إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة سمع كلامه وعول عليه، ولا يلتفت لخصمه، فكان يأكل السحت ويسمع الكذب، فهذا هو المشار إليه بقوله تعالى : "سماعون للكذب أكالون للسحت" وفي هذا الذي ذكرناه من نص الآيتين المشار إليهما بيان واضح لموقف القرآن الكريم من الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل(9). يتبين مما سبق أن الإسلام يحرص على حفظ الأموال وصيانتها، ويعتبرها حقا ثابتا لا يحل لأحد أن يعتدي عليه بوجه من الوجوه، وبعد أخذ أي مال بسبب غير مشروع أكلا له بالباطل، كالسرقة والرشوة والربا، قال تعالى " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" (سورة البقرة) وفي الحديث الشريف " كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه". وإذا كانت الرشوة تدخل في عموم أكل مال الغير بالباطل، فإنه لا شك في أنها حرام بالإجماع، كما دل عليه الكتاب والسنة والآثار والإجماع. وكما بينته أقوال الفقهاء والعلماء...وهذه الحرمة تشمل بطبيعة الحال كل المسلمين وفي مقدمتهم الحكام والولاة والقضاة والموظفون الكبار والصغار وكل ذي مسؤولية، كما تشمل الراشي والمرتشي والرائش (المساعد/الوسط). -4- والرشوة في القانون الوضعي خرق سافر للنصوص المنظمة للعلاقات داخل المجتمع والتي تبنى على مبادئ احترام حقوق الأفراد والجماعات، وعلى حق الدولة في إدارة الشأن العمومي. وفي القانون : (الرشوة) نشاط سري لا ينبني على أية قواعد قانونية، كل القوانين الوضعية تعاقب على ارتكابه باعتباره اعتداء على حقوق الفرد والجماعة وسرقة واضحة لحقوق المتعاملين. والرشوة في نظر فقهاء القانون، تتطلب وجود ثلاثة أطراف : الأول يقبل أو يطلب أو يأخذ أو يوعد مقابل قيامه بعمل أو امتناعه عن هذا العمل أو أن يخل بواجبات وظيفته ويسمى مرتشيا وتوصف جريمته بالرشوة السلبية. والثاني صاحب مصلحة يبذل العطاء أو الوعد به للطرف الأول ثمنا لتنفيذ غرضه من الرشوة، ويسمي راشيا ويطلق على جريمته الرشوة الايجابية. ويتدخل في الغالب عنصر ثالث بين الطرفين يسعى لإتمام الاتفاق بينهما على الرشوة ويسمي وسيطا ويقرر له الشارع الجنائي عقابا مساويا لعقاب الراشي ويشترط لقيام هذه الجريمة أن يؤدي نشاط الوسيط إلى وقوع جريمة رشوة تامة. ولا تتم جريمة الرشوة في نظر فقهاء القانون إلا في حالتين : إما بحصول اتفاق عليها بين الموظف وصاحب المصلحة أو يطلب الموظف لها ولو لم يصادف ذلك قبولا لدى صاحب المصلحة. أما فيما عدا ذلك أي في حالة إذا ما عرض صاحب المصلحة الرشوة بالمعنى الدقيق إنما تكون هذه الحالة جريمة من نوع خاص هي جريمة الرشوة دون قبولها (10)، ويؤدي ذلك إلى جريمة الوساطة المؤثمة التي لا تقع إلا إذا كان هذا الوسيط رسولا للموظف المرتشي على اعتبار أن الرشوة تتم بمجرد طلبها من الجانب الآخر. وإذا كان الجاني هذا ليس وسيطا بالفعل في رشوة ولكنه يتأهب للوساطة إما بعرضها أو بقبولها، فقد لا حظ المشرع الجنائي، أن هذا الأخير قد يكون بمنأى عن العقاب إذا لم تتوفر فيه أركان جريمة أخرى غير الرشوة فرأى تجريمه في كافة تطبيقاته لهذه الصورة الأخيرة وذلك لملاحقة جريمة الرشوة وهي في مهدها الأول. وتنطوي هذه الجريمة على عناصر مهمة : هي صفة المرتشي، والاتفاق الذي يحصل بين الراشي والمرتشي في الطلب أو القبول أو الأخذ لأداء عمل يزعم أنه من أعمال الوظيفة، أو للامتناع عنه يتحقق به ذلك الاتفاق المسبق، وأخيرا فالقصد الجنائي من هذه الجريمة هو من نوع خاص، فبالنسبة للراشي عليه أن يقدم الوعد أو العطاء وأنه يقصد من هذا أن يقوم المرتشي بالعمل أو يمتنع عن هذا العمل في مقابل العطاء، فإذا ما قدم صديق إلى صديقه الموظف "هدية" لمعرفة سابقة بينهما مثلا ولم يثبت أن غرضه من ذلك هو حمل الموظف على عمل أو امتناع عن عمل فلا جريمة في ذلك (11). --------------- محمد بن اسماعيل / الفقه الواضح من الكتاب والسنة / مطبعة دار المنار القاهرة 1990 عبد الله الدرقاوي / موقف التشريع الاسلامي من الرشوة والمتعاملين بها / جريدة العلم (مغربية) 21 ماي 1999 الاحتساب على مرتكبي جريمة الرشوة / الرياض / المملكة العربية السعودية شرح جامع الترميدي / بيروت (لبنان) 1980. في لعن الراشي والمرتشي والرائش / جريدة الخضراء الجديدة (مغربية –طنجة) فبراير 1997 سورة البقرة سورة المائدة تفسير ابن كثير / المجلد الثاني عبد الله الدرقاوي / موقف التشريع الاسلامي من الرشوة والمتعاملين بها / جريدة العلم (مغربية) 21 ماي 1999. عبد الله الكاشف / جريدة الاتحاد الاشتراكي (مغربية) 11 دجنبر 1997 عبد الله الكاشف / المرجع السابق