في الإسلام من جرائم التعزير، وهي الجرائم التي ترك تحديدها والعقاب عليها لولي الأمر. وقد حرمت الرشوة في كتاب الله العزيز وسنة رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام، فيقول الله في اليهود في الآية رقم 42 من سورة المائدة : «سماعون للكذب أكالون للسحت». ذلك لأن اليهود كانوا يأكلون السحت من الرشوة. ويقول الله في الآية رقم 188 من سورة البقرة: «ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون»، أي لا يأكل بعضكم أموال البعض الآخر بالباطل، ولا تدفعوها إلى الحكام من أجل أن يمكنوكم من اغتيال قسم من أموال الناس. وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما). وفي رواية أخرى قال الرسول : (لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم). وروى أبو حميد الساعدي أن رسول الله عليه الصلاة والسلام بعث ابن اللتبيَّة على الصدقة، فلما جاء قال : هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقال الرسول الناصح الأمين ( ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي، فهلا قعد في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى إليه أم لا). ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى خيبر فيخرص بينه وبين اليهود. والخرص يعني تقدير ما على النخل من التمر. فجمع له اليهود حليا من حلي نسائهم، وقالوا: هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة : يا معشر اليهود : والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذلك بحاملي على أن أحيف عليكم، فأما ما عرضتم علي من الرشوة فإنها سحت، وإنا لا نأكلها، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عماله: إياكم والهدايا، فإنها من الرشا. وقد صادر عمر ثروة كثير من عماله، ولم يقبل دفاعهم واحتجاجهم بأنهم إنما استثمروا أموالهم في التجارة قائلا لهم: إنما جئت بكم ولاة لا تجارا. وقد تباينت الآراء حول ما إذا كانت الرشوة تنصرف إلى كل ما يدفعه المحكوم إلى الحاكم أو معاونه بصرف النظر عما إذا كان المحكوم يستهدف نيل حق له أو دفع ضرر عنه أو كان يطلب شيئا أو أمرا بغير وجه حق، أي باطلا، فذهب رأي إلى أن الرشوة محرمة في جميع الأحوال. وقد قال بهذا الرأي الشوكاني نقلا عن الإمام المهدي إذ يقول : قيل وظاهر المذهب المنع لعموم الخبر، وإن كان مختلفا فيه فكالباطل، إذ لا تأثير لحكمه.ثم قال في ترجيحه على المذهب الآخر : قلت والتخصيص لطالب الحق يجوز تسليم الرشوة منه للحاكم، لا أدري بأي مخصص، فالحق التحريم مطلقا أخذا بعموم الحديث. ومن زعم الجواز في صورة من الصور فإن جاء بدليل مقبول، وإلا كان تخصيصه ردا عليه، فإن الأصل في مال المسلم التحريم. وورد في أحكام القرآن للجصاص "ووجه آخر من الرشوة وهو الذي يرشو السلطان لدفع ظلمه عنه، فهذه الرشوة محرمة على آخذها غير محظورة على معطيها". وروي عن جابر بن زيد والشعبي أنهما قالا: لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم. كما روى هشام عن الحسن قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي ليحق باطلا أو يبطل حقا، فأما أن تدفع عن مالك فلا بأس. وقال يونس عن الحسن: لا بأس أن يعطي الرجل من ماله ما يصون به عرضه. وجاء في المحلى أنه لا تحل الرشوة وهي ما أعطاه المرء ليحكم له بباطل أو ليولي ولاية أو ليظلم له إنسانا. لهذا يأثم المعطي والآخذ. فأما من منع من حقه فأعطى ليدفع عن نفسه الظلم فذلك مباح للمعطى. وأما الآخذ فآثم، وفي كلا الوجهين فالمال المعطى باق على ملك صاحبه الذي أعطاه كما كان كالغاصب ولا فرق. ولاشك أن الحاكم الذي يطلب أو يقبل الرشوة غير جدير بالبقاء في مقعد الحكم، ذلك أنه قد تبوأ منصبه ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر والبغي. ومن ثم كان تعزيره واجبا بما فيه عزله من منصبه جزاء وفاقا عما وقع منه. ولقد قال قتادة في هذا المقام : قال كعب : إن الرشوة تسفه الحليم، وتعمي عين الحاكم. فأما الراشي فإن رشاه ليحكم له بباطل أو يدفع عنه حقا فهو ملعون. وإن رشاه ليدفع ظلمه ويجزيه على واجبه فقد قال عطاء وجابر بن زيد والحسن: لا بأس أن يصانع عن نفسه. ويعتبر صاحب الفتاوي الهندية (فقه حنفي) الهدايا التي يعطاها القاضي نوعين اثنين : النوع الأول : يتمثل في هدية تعطى ممن له خصومة، وليس للقاضي أن يقبلها، سواء كانت بين القاضي وبين الشخص المهدى مهاداة قبل القضاء أو لم تكن، وسواء كانت بين الاثنين صلة قربى أو لم تكن. والنوع الثاني عبارة عن هدية تعطى من شخص لا خصومة له. وفي هذه الحالة إما أن تكون بين القاضي وبين الشخص المهدى مهاداة سابقة قبل القضاء بسبب صلة قربى أو صداقة أو لم تكن. فإن كانت هناك مهاداة ثم حصل الإهداء بعد القضاء بمثل ما كان عليه قبلا، فلا بأس بأن يقبل القاضي الهدية من الشخص المهدى، ويحمل الإهداء هنا على المباسطة السابقة بين الاثنين. وإن حصل الإهداء زيادة على ما كان عليه قبل القضاء امتنع على القاضي أخذ هذه الزيادة. أما إذا لم تكن هناك مهاداة سابقة بين القاضي والشخص المهدى، فهنا يمتنع على القاضي أن يقبل الهدية. وقد روى الإمام أحمد في مسنده في الزهد عن علي بن أبي طالب أنه قال: "إن أخذ الأمير الهدية سحت، وقبول القاضي الرشوة كفر". وقال أيضا الإمام أحمد : إن من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها منه فقد أتى بابا من أبواب الربا. ويقول صاحب معين الحكام في هذا المقام : الأصوب في زماننا عدم قبول الهدية مطلقا، لأن الهدية تورث إذلال المهدى وإغضاء المهدى إليه، وفي ذلك ضرر للقاضي، ودخول الفساد عليه. وقيل أن الهدية تطفئ نور الحكمة. والرشوة يجب محاربتها قولا وفعلا، لا….! والله الموفق 27/08/2012