إن ما حدث في الولاياتالمتحدةالأمريكية خلال الحملة الانتخابية التي توجت بانتخاب الرئيس أوباما ليعتبر بحق تحولا جذريا في واقعها المجتمعي يكاد يتفوق على التجربة التاريخية التي عاشتها تلك الأمة مع الرئيس الأسطورة أبراهام لينكولن في دفاعه المستميت من أجل إرساء قيم حقوق الإنسان والعدل والكرامة بين مختلف فئات المجتمع الأمريكي بغض النظر عن اللون والعرق والدين، إن هذا اليوم سيؤسس لمجتمع جديد يلبي الأهداف النبيلة التي لطالما ناضل من اجلها رواد الحرية من أمثال مارتن لوثر كينغ والرئيس كينيدي انتصارا لمبادئ المساواة التي دافع عنها الشعب بكل قوة واستماتة وحماس بمختلف طوائفه وتجلياته منذ بزوغ ثورة 1776 بهدف تحقيق السعادة والرخاء للأمة الأمريكية. إنه يوم مشهود ذلك الذي يتحقق فيه حلم النجاح الأمريكي أمام أعيننا عندما تمكن شاب لا يتجاوز عمره 47 سنة من أصل كيني ومسلم أن يحتل سنم القيادة في هذه الأمة المعتزة بأمجادها والسائرة دوما بخطى حثيثة نحو التطلع إلى الغد المشرق. لقد تحقق حلم الفتى الطموح من خلال ترجمت أحلام الملايين من المجتمع الأمريكي في أرض الواقع بفضل قوة الايمان والعزيمة الجامحة التي لاتكل، الرامية الى التغيير، تحديا رائعا للإكراهات الطبقية، العرقية والدينية، كل هذه المعوقات لم تقف في وجه هذا الشاب الملهم المولع بغرام امته والمسكون بآمال جامحة ترنوا الى إنجاز مشروع مجتمعي رائد أساسه الكرامة والحرية والمساواة والمعرفة والرفاهية. اليوم يحتدم الصراع في الولاياتالمتحدةالأمريكية بين الارادة السياسة في النجاح والفلاح من جهة والأزمات المالية والاقتصادية وتراكم الأخطاء الموروثة عن الماضي من جهة أخرى، أيهما ستكون له الغلبة، أهو الأمل الكاسح الذي حرك أمة بأجمعها صوب الانتصار أو اليأس الذي تسببت فيه طقمة من المضاربين السياسيين والماليين الذين لا ينظرون إلى تاريخ الأمم إلا من خلال مصالحهم الضيقة الظرفية والأنانية. إن الولاياتالمتحدة بانتخابها لهذا الشاب الهادئ المتزن في تصوره للواقع والمسلح بالمعرفة والحكمة والبصيرة في اقتناص أجمل وأروع الرؤى الهادفة إلى اقتراح وتنفيذ أفضل الحلول المناسبة لمعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي باتت تؤرق كاهل الولاياتالمتحدةالأمريكية وباقي أمم المعمور لتنتصر اليوم لقيم الفضيلة وتحطم الغطرسة النكراء والحسابات الضيقة الرديئة. اليوم يحق لفضيلة القاضي اللامع دوتوك فيل أن يعيد منتشيا نشر كتابه الخالد عن قصة الديموقرطية في الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث تحققت أحلامه ونبوءاته بمنح التجربة الديموقراطية الأمريكية من جديد الأمل للمستضعفين في جميع بقاع العالم بالاقتناع أن حلم النجاح يكمن في تصميم الإرادة والإيمان بالله وفق ماورد على لسان الأسطورة العقبري نابليون بونبارت في مقولته المأثورة "لا مستحيل في هذا الوجود". ولملامسة الرؤيا التي يقترحها الرئيس المنتخب فلا بد من العودة ولو بايجاز إلى ماينتظره من بعض الإكراهات. فالولاياتالمتحدةالأمريكية تعيش أزمة الرهون العقارية التي تضررت منها بالأساس الطبقات المتوسطة والضعيفة وادت الى افلاس بعض المؤسسات المالية مما حدى بقادة البيت الأبيض إلى التنازل عن قيم الابيرالية التي يومنون بها باتخاد قرارات مؤلمة ادت الى تدخل الدولة وتوجيه الاقتصاد صوب انقاد الابناك المتبقية من الانهيار، بيد أن تلك الاجراءات كرست الظلم المتمثل في حماية مالكي رؤوس الأموال الكبيرة، الذين تسببوا باحتيالهم من خلال المضاربات المالية الوهمية على إلحاق افدح الضرر بدافعي الضرائب. لكن الأدهى من هذا والأمر هو ارتباط المؤسسات المالية الأمريكية ببقية العالم، مما تطلب إتخاد تدابير مماثلة من طرف السلطات المركزية الأوروبية بضخ أموال طائلة بهدف توفير السيولة الملائمة لتلبية حاجيات الأبناك التي تعاني من صعوبات مالية. فأضحت معضلة الولاياتالمتحدة معضلة العالم، إذ هبت الصين لنجدتها وهي التي اقترضتها مئات الملايير من الدولارات، وكذا دول الخليج التي لحقت بها أضرارا جسيمة جراء الاستثمارات الضخمة في أمريكا، ولم تستثني تلك الأزمة باقي بلدان القارات الأسيوية، الإفريقية وأمريكا اللاتينية التي لجأت الى نفس الاجراءات أو القيام بتدابير حمائية من أجل تخفيف معاناتها. لقد اكتشفت الولاياتالمتحدة بعد أن فات الأوان أن الأمر ناجم عن الانفاق الهائل جراء تورطها غير المبرر لغزو العراق وخوضها لحروب في أكثر من ساحة على الصعيد العالمي، إذ كان احتلال بلاد الرافدين زلزالا مدمرا لما تمثله الولاياتالمتحدة من قيم ومبادئ أسسها الرواد الأوائل لثورة سنة 1776 بعد أن كانت نبراصا يحتذى بالنسبة لشعوب العالم والذين استأنسوا بها خيرا بعد نهاية الثنائية القطبية وتحطيم جدار برلين، لكن اختلاقها لمسرحية امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل بهدف وضع يدها على ما تبقى من بترول الجزيرة العربية لكي تضمن به أمنها الاستراتيجي الحق بالغ الضرربصورتها على المستوى العالمي. ومهما يكن من أمر فإن مبادئ الليبرالية التي طالما تغنت بها الولاياتالمتحدة كمفتاح سحري لحل معضلات الكون تمر من إختبار عسير سيحدد مستقبلها في ريادة تدبير شؤونه ومدى قابليتها لتفجير الالهام والابداع لحتواء التناقضات الصارخة التي يعيشها العالم الآن وينتظر أن يعيشها غدا. ولقد كان من النتائج السلبية لهاته السياسة خلق مناخ دولي متوترواضطرابات في المبادلات التجارية العالمية إذ حرم العالم عقب احتلال العراق من كميات هائلة من البترول وأضحت مصادر الطاقة في المنطقة مهددة مما دفع بالمضاربين الى رفع ثمن النفط بشكل مذهل متسببين في آثاروخيمة على القدرة الشرائية للمستهلكين جراء الصعود المتنامي لأثمان المواد الأساسية في جميع أنحاء المعمور، مما نجم عنه تباطؤ للنمو الاقتصاد العالمي مذكرا بالكساد الكبير الذي شهده العالم على إثرالأزمة العالمية لسنة 1929. ينضاف الى هذا وذاك الضرر البالغ الدي حصل ببيئتنا انطلاقا من تفاقم الاحتباس الحراري الذي أدى إلى حدوث كوارث طبيعية اضحى العالم يستشعر خطورتها مند فترة طويلة قوبلت بالأسف الشديد بتجاهل تام من طرف الولاياتالمتحدةالامريكية التي امتنعت عن المصادقة على اتفاقية كيوطو ولم تنثني عن موقفها المتعسف إلا بلومها من طرف جميع بلدان العالم بزعامة الشخصية الفذة ذات القلب الكبير نائب الرئيس كلينتون سابقا السيد آلكور الذي واجه بإرادة لا تلين مصالح الشركات العملاقة العابرة للقارات و مجموعات الضغط الكبرى التي ساهمت في تدهور مخزون الطاقة العالمي جراء ستهلاك الولاياتالمتحدةالامريكية لما يربوعن 25 % من الانتاج العالمي. إن الحملة الانتخابية التي ادارها الرئيس المنتخب «باراك أوباما» تدل على رؤيا ثاقبة وبصيرة متنورة جسدها تعاطيه مع الملفات الضخمة التي عالجها بهدف إذكاء الأمل و زرع روح الطمأنينة لخلق الشروط الملائمة لنهضة جديدة على المستويين الداخلي والخارجي قوامها التقدم والتنمية والتضامن والتسامح والحرية والسلام. حيث بادر الى مساندة قرارضخ مايفوق عن 750 ملياردولار للمؤسسات المالية بهدف إنقاد القطاع المصرفي وضمان قروض للمستضعفين وعينايته بالتغطية الصحية وتخفيض الضرائب عن 95 % من المواطنيين علاوة على تشجيع تغطية التراب الأمريكي بالطاقات المتجددة مع تشجيع الحوافزبالنسبة للطبقة الاوسطى والفقراء كيما يضطلعوا بدورهم الحيوي في تنشيط الدورة الاقتصادية، كل ذلك وفق إرادة سياسية وإقتصادية متكاملة خالية من تأثير ضغوط اللوبيات المتحكمة عادة في مصيرالارادة الأمريكية. وبالموازات مع هذه الاستراتيجية الداخلية فإن اوعود الرئيس المنتخب على مستوى السياسة الخارجية تنم عن دراية عميقة بابعاد التوتر العالمي، إذ ان كثيرا من المحللين والخبراء عند قراءتهم للأزمة العالمية المالية الحالية تقتصر مقاربتهم على البعد المالي فحسب بيد أن أسباب هذه الأزمة متعددة الجوانب والمناحي ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر التداعيات السياسية التي خلفها سقوط جدار برلين حيث استفردت الولاياتالمتحدة بقيادة العالم، وكادت أن تنمطه حسب توجهاتها الأيدولوجية مما استدعى مقاومة صامتة وفي بعض الأحيان صريحة من قبل بعض البلدان في أمريكا اللاتينية والقارة الأسيوية وأخيرا ردود الفعل الروسية. لقد حدس باراك أوباما لب وجسامة المهام الموكولة الى الدول العظمى في مواجهة معضلات قد تتجاوز طاقات هذه الأمم مهما عظم شأنها ولذى اختار الانحياز الى مباديء الحوار والتعايش السلمي والانصات الى اصوات الشعوب بدل الانصياع الى طموح الهيمنة و الاستبداد انطلاقا من كون عالم اليوم متعدد المراكز والمشارب والأطياف ومعرض الى الصراعات والأزمات التي لايمكن التغلب عليها إلا بواسطة التفاوض والتشاوروالحوارالمستمرالمفضي الى التعاون والتضامن و السلام العالمي. وفي هذا الاطار يختار الرئيس المنتخب فتح قنوات الاتصال مع من كانت تسميهم الولاياتالمتحدةالامريكية محور الشر بالاضافة الى الخروج من مستنقع العراق بشكل تدريجي يتيح الفرصة للشعب العراقي في عودة الاستقلال والحرية. أما بالنسبة للمسألة الفلسطينية فإنه وإن ابدى تحيزا الى امن اسرائل قد تبرره ضغوط بعض المراكز النافذة في الولاياتالمتحدة إلاأنه في عز الحملة الانتخابية اصرعلى التمسك باقامة الدولة الفلسطينية أمام جمعية ايباك المعروفة بدفاعها المستميت عن دولة اسرائيل، ولقد تفاءل الرأي العام العالمي خيرا بمبادرته في اللقاء مع الرئيس الروسي مدفيدف بهدف إبعاد الكون من شبح تهديد الحرب الباردة. إننا على يقين من أن إرادة الرئيس المنتخب في إحداث تغيرات ايجابية ستنسحب على المنظومة السياسية والاقتصادية والثقافية العالمية وذلك بإحداث مؤسسات كونية حديثة تحترم خصوصيات الأمم وتساهم في تدبير تناقضاتها بعيدا عن الالغاء والهيمنة وذلك باحترام مواثيق الهيئات الأممية من طرف جميع أعضاء الأسرة الدولية مهما كانت قوتهم مما يتطلب معه إحداث اصلاحات جوهرية للهيئات السياسية والاقتصادية والثقافية للأمم المتحدة الموروثة عن الحرب العالمية الثانية والتي اضحت في حاجة ماسة الى التغيير بما يتلاءم مع متطلبات وحاجيات العالم الجديد.