لم تحسم نتائج «الثلاثاء الكبير» نتيجة التنافس داخل الحزب الديمقراطي، إذ مازال الصراع على أشده بين أوباما وهيلاري كلينتون، رغم أن هذه الأخيرة استطاعت أن تتقدم على المرشح الأسود بالنقط، في حين أسقط مرشح الحزب الجمهوري جون ماكين جميع منافسيه بالضربة القاضية، وحسم تقريبا في أمر ترشحه. صراع الإخوة الأعداء ليس المرشحون هم من يمنح الانتخابات ألقها بل الناخبون، وتتحكم في ذلك الأمور التي يخشونها وما يرغبون فيه وما يريدون الإيمان به. لقد برز ذلك في سنة 2004، حينما دفع الخوف 60 مليون أمريكي إلى إعادة انتخاب رجل محدود الفكر من تكساس، كما أننا نلاحظ ذلك هذه السنة بنسبة أكبر مع كائنين سياسيين غريبين، أخذا على عاتقهما مهمة بعث الروح في تصوراتهما الخاصة بالأقليات. فلم تشعر الولاياتالمتحدة كما شعرت الآن بأنها ذلك الصبي الذي وجد نفسه يملك حرية التصرف في مصنع حلويات، لا يتوفر فقط على نوع واحد من الحلوى، ذكر وأبيض وفي منتصف العمر، حيث أصبح بإمكان الولد الصغير أن يتمتع ويختار بين امرأة ورجل أسود وبطل في حرب فيتنام وواعظ معمداني. لن يكون هناك شخص مفرط في الحمق كي يلغي إمكانية فوز مرشح جمهوري، إلا أن أمريكا لا تعتقد كثيرا في ذلك، رغم بعض استطلاعات الرأي المثيرة. لقد تراجع اليمين الأمريكي وتعرض للانقسامات في صفوفه وأصابه الإعياء نتيجة ثماني سنوات على رأس هرم السلطة، تميزت بأدنى نسبة شعبية في كل التاريخ، ويبدو أن الدور أتى ليتسلم صولجان سيد العالم مرشح ديمقراطي، إما أن يكون رجلا أسود أو امرأة. لكن لماذا هذا التأكيد على التفاصيل؟ ولماذا لا يتم الاكتفاء ببرامجهما واختلاف أسلوبهما ومناهجهما؟ السبب يعود إلى أن هذا البعد يتجاوزهما، ولأن الولاياتالمتحدة هي أمة تمثل فيها النساء أكثر من نصف حاملي الشهادات الجامعية، ومن ناحية أخرى أقل من ثلاثة في المائة من مديري الشركات الكبرى، وهي بلد كان قد شرح فيه أمين سر نائب الرئيس عام 1970 أن النساء «خاضعات لاختلال هرموني عنيف»، موضحا ذلك بالقول: «افترضوا أن تكون عندنا امرأة رئيسة في عز سن اليأس ويكون من واجبها اتخاذ قرار غزو خليج الخنازير أو موقف من التقارب المفاجئ بين كوبا وروسيا»، إنها ستكون في هذه الحالة «خاضعة لانحرافات نفسية تعرفها النساء اللواتي بلغن هذا السن». كان انتخاب مرشح أسود، وإلى فترة قريبة، يبدو بعيد الاحتمال. فالمزارع الكيني أونيانغو أوباما الذي كان يرهب سكان قريته بارتداء ملابس البيض، لم يكن ليخطر على باله أن ابنه، راعي الماعز، سينجب رئيسا محتملا للولايات المتحدة، البلد الذي من الممكن أنه لم يسمع به من قبل. لقد كتبت الويكلي ستوندار الأسبوعية ذات التوجه اليميني أن بإمكان أوباما أن «يجسد التقارب المنسجم الذي نحلم به جميعا بين كينيا وكنساس». هناك امرأة ورجل أسود، وهناك برنامجان يتشابهان كما قطرتي ماء، فالمرأة والرجل الأسود يرغبان في تطبيب متاح للجميع، ويرغبان أيضا في تقليص الفوارق والحد من التفرقة العنصرية، كما أنه ليس في نية المرأة والرجل الأسود أن يحتفظا بالقوات الأمريكية في العراق... ليس الاثنان مختلفين بشكل جذري، كما يريد كل واحد منهما أن يعطي الانطباع بذلك، إذ يجب للحظة نسيان الفارق في السن، أي تلك الأربع عشرة سنة التي تفصل بينهما، ويجب ترك مسارهما كشخصين بالغين والذي يتميز باختلاف كبير، إضافة إلى شخصيتيهما المتعارضتين، وبدل ذلك يجب الرجوع إلى فترة الطفولة لفهم ما يجمع بينهما، إذ سنكتشف فتاة صغيرة تتشبه بالذكور في «إلينوا»، في ضاحية يسكنها البيض سنوات الخمسينات، حيث يتوجه كل الرجال ببدلاتهم الداكنة إلى العمل في نفس الوقت، وقد شبت تلك الصغيرة في كنف والد متسلط وواثق من نفسه، ولم ينقذها منه إلا والدتها الحنون والذكية والمتطلبة في نفس الوقت. لنتخيل في الجهة الأخرى ولدا هزيلا كبر في هواي، حيث عاد الأب الكيني إلى بلده بينما لم يتجاوز الابن عامه الثاني، لتقوده أم حنون وذكية ومتطلبة هي الأخرى. كتب أوباما في سيرته الذاتية «إن أحسن ما يوجد فيّ يعود الفضل فيه إليها»، وهي جملة يمكن لهيلاري أن ترددها كلمة كلمة. يجب متابعة هذين التلميذين ذوي الذكاء الحاد، والمنتميين إلى طبقة وسطى، حيث يشكل الخوف من السقوط من السلم الاجتماعي هاجسا يقض مضجع حياتهم اليومية. إن الإشارة إلى الشخصية المركبة يمثل انعكاسا لوضع الأسرة المعقد، فحينما سألت هيلاري راهبا تحول إلى كاتم أسرارها: «هل يمكن أن يختار المرء حياة العزلة ويحب رغم ذلك ويتمتع بلقاء بعض الأفراد؟»، سمع أوباما الخلاسي جديه يتحدثان عن البيض و«لمعت كلماتهم في رأسي مثل ضوء إشارة، وتحولت فجأة إلى شخص متكتم، كما لو كنت أملك أسرارا يجب التستر عليها». بعد ذلك سنجد الشابين يصنعان جيناتهما السياسية، بذهاب هيلاري عام 1961 إلى تجمع لمارتن لوثر كينغ، وهي لحظة تركت أثرا عميقا في نفسها، ثم جيلا بعد ذلك، سنجد باراك أوباما يتأمل وهو مستلق على سريره في المساء تلك الصور الخاصة بالنضال من أجل الحقوق المدنية «صور رومانسية تعود إلى ماض لم أعشه» إلا «أنها تحولت إلى نوع من الصلاة بالنسبة إلي، تشجعني وتوجه انفعالاتي بطريقة لم يكن بمقدور الكلمات أبدا أن تقوم بها». كتب كارل بيرنستاين في سيرة حول هيلاري كلينتون: «هناك دائما شيء يمنعها من أن ترخي قيادها بشكل كامل، كما لو أنها لا تثق في القارئ والمستمع والصديق أو المحاور أو الناخب أو حتى نفسها، وذلك لفهم الدلالة الحقيقية للأحداث». وعلى العكس من ذلك، يبدو باراك أوباما منسجما مع نفسه منذ أن التقى بزوجته ميشيل، المحامية التي تخرجت مثله من جامعة هارفارد، وسليلة تلك الأحياء الفقيرة في شيكاغو. يظهر أوباما مرتاحا دائما، وكما قال عنه ماط كيبي في «الرولينغ ستون»، إنه «ينطق كل جملة بقوة وثقة من كان رئيسا منذ سنوات طويلة». هناك اختلاف آخر بينهما يتمثل في تدين هيلاري الكبير، وتوفرها على جانب يقترب من الطهرانية لا نعثر عليه عند أوباما، الذي اهتم متأخرا بالدين. لنتوقف لحظة عند هذه الظاهرة الأخاذة: رجل وامرأة من اليسار، سيناتوران ينتميان إلى نفس الحزب ويتوفران على برنامجين متشابهين، يقسمان فجأة أمريكا الديمقراطية إلى معسكرين متضادين. لنأخذ على سبيل المثال استطلاع الرأي الذي أنجزه معهد «غالوب» والذي حاول فيه فهم أسباب ذلك الشعور المعادي لهيلاري، حيث كانت الإجابة غالبا «لا أحبها»، إلا أن تحقيقات أخرى بينت أن السيدة الأولى السابقة هي أيضا مرشحة مثل أوباما للفوز بانتخابات نونبر، فالآراء الخاصة بمن يحبها نسبتها مرتفعة هي أيضا بشكل يدعو إلى الاستغراب مقارنة بالآراء المعادية للذين يكرهونها. مقابل ذلك، فإن الكاريزما الطبيعية التي يتمتع بها باراك أوباما تشكل إضافة نوعية عند أولئك الواقعين تحت تأثير جاذبيته، إلا أنه ليس واضحا إذا ما كانت فصاحته التي تذكر بكنيدي تشكل ميزة في أعين الناخبين المتشككين، والمتشائمين حيال مستقبل البلاد واحتمال الغرق في حالة ركود. لا يتوفر هذا الرجل الأسود وتلك المرأة على نفس التصور لممارسة السلطة، ولا يتفقان حتى على ما يشكل تجربة سياسية مقبولة. إذ لا تكف هيلاري على ذكر سنواتها الثماني التي قضتها في البيت الأبيض، حيث كانت تتقاسم الرئاسة فعليا مع زوجها، إضافة إلى عملها في مجلس الشيوخ، فأوباما بالنسبة إليها هو شخص مبتدئ، لكن اسألوا زوجته ميشيل حول عدم تجربته، لتقول لكم إنه وبدل أن يذهب إلى البحث عن جني الملايين منذ تخرجه من هارفارد، انشغل بالفقراء في شيكاغو. ولم ينفعه إلا الكتابان اللذان ألفهما وخولا له مؤخرا إمكانية تسديد ديونه. إن أوباما وهيلاري مختلفان بالفعل في هذه النقطة، فالأخيرة لا ترفض النظام الموجود، وعلى العكس فقد كانت لا تفوت فرصة التقرب من اللوبيات والمانحين، «فلا يجب أن يفاجئ أحدا إحجامها عن مسايرة الحملة من أجل تغيير نظام تمويل الحملات، لأنها ومنذ أن دخلت إلى مجلس الشيوخ عام 2001 لم يحصد أي سيناتور ذلك القدر من المال الذي حصلت عليه»، والحال أن أوباما جمع بدوره مبالغ مهمة، لكنه قام بذلك بطريقة مختلفة، إذ «بخلاف هيلاري، قرر أوباما عدم قبول المنح الآتية من لجان العمل السياسي واللوبيات». إن هيلاري التي تملك معرفة خاصة بالسلطة الرئاسية وحدودها، ترى أن النظام الموجود يسمح بإنجاز الإصلاحات الضرورية... وبنفس الطريقة يقبل آل كلينتون قطبية الحياة السياسية دون أي عقدة، ومع أن هيلاري تتموقع في الوسط، فإنها تجعل من كره اليمين لها وسام شرف تعلقه، ولا تفوت أي فرصة لتذكر أن قطاع طرق اليمين «يلاحقونني منذ ست عشرة سنة، ولأغيظهم أكثر فأنا مازلت متواجدة»، إلا أن الحقيقة تقول إن اليمين الحاقد عليها قد هدأ من روعه بخصوصها. وعلى خلاف زوجها بيل، كانت هيلاري تفضل دائما الهجوم المضاد على التسويات المتعذرة، إلا أن الأمر يتعلق أيضا بمسألة اختيار فلسفي، حيث يحمل آل كلينتون فكرا يؤمن بوجود يمين ويسار يتواجهان بشكل طبيعي، مع إمكانية كسر هذه الثنائية بشغل موقع في الوسط. ينطلق أوباما من منطق آخر، فهو يقترح نوعا من الحلف المقدس ويرغب في تجاوز الحروب بين الخنادق التي تشل حركة البلاد، وعندما يطلب من الناخبين التخلص من النظام القديم، الذي يعني وضع نهاية لدورة بوش-كلينتون-بوش-كلينتون التي قد تستمر ل24 سنة أو28 إذا ما تمكنت هيلاري من العودة عام 2012، وحينما يحتم على الديمقراطيين أن «يعبئوا كل الأمة، وليس فقط جزءا من الساكنة، ليجتمعوا حول هدف سام ومشروع مشترك»، فهو يحدد بذلك نهجا يختلف اختلافا جذريا. يكتب أوباما في سيرته الذاتية أن هذه النقطة بالضبط هي ما يجعل زوجته ميشيل تقلق من كونه مجرد شخص حالم، أو كما تعتبره هيلاري ببساطة شخصا ساذجا، أمَّا مستشارو هيلاري فيسخرون ويلمحون إلى أن «أوباما يعتبر اللباقة وغياب روح التحزب بمثابة تعويذة تقي من الطلقات النارية». هذا الانقسام بين النزعة الكلبية والمثالية، وبين الواقعية والسذاجة لا ينطبق فحسب على ممارسة السلطة، فقد فاز بحملة الانتخابات التمهيدية بسرعة مذهلة، وبالنسبة إلى آل كلينتون فإن كل الضربات مسموح بها في الحلبة الانتخابية، إنه قانون المعركة السياسية، كما صرح بذلك بيل كلينتون، وعلى العكس من ذلك، قاوم أوباما إغراء الهجمات الشخصية، رغم النصائح التي قدمها له مستشاروه، في الوقت الذي كان يحتل فيه موقعا متدنيا في استطلاعات الرأي، وهي خطة نبيلة ساعدته في التقدم، لكنها قد تكلفه غاليا في الباقي من الأيام. بطل المحافظين العجوز يجب الانتباه لأن الخطر قادم ويتعلق بجون ماكين. فإذا كان هناك مرشح جمهوري بإمكانه الفوز على خصمه السياسي الديمقراطي، فهو دون غيره. قبل مدة كان من الصعب الاعتقاد بذلك، لكن بعد استطلاعات الرأي الأخيرة ونتائج الثلاثاء الكبير، تبين أن هذا المحارب العجوز لم يستسلم بعد ومازال قادرا على المنافسة. فبعد أن صرح بعدائه لجورج بوش عام 2000 عاد وتحالف معه عام 2004، وبعد أن انتقد اليمين الديني عاد بعد ذلك لمغازلته بشكل فاضح. يتميز هذا السياسي ذو التاريخ الحربي المجيد بطابعه المتفلت وغير القابل للتحديد، وقد يشكل انتخابه رئيسا للولايات المتحدةالأمريكية سابقة لم تعرفها أمريكا من قبل، باعتبار أنه المرشح الأكبر سنا، إذ يبلغ من العمر 72 سنة. مازال جون ماكين يحتفظ بآثار خمس سنوات ونصف من الأسر في الفيتنام، حيث تعرض للتعذيب هناك، إضافة إلى إصابته بسرطان الجلد الذي شفي منه والذي يرغمه على الاختباء دائما عن أشعة الشمس. رغم ذلك لا يبالي ماكين بوضعه، ويقفز من تجمع إلى آخر، محققا إجماعا عليه من طرف الصحافة التي تكن له ودا كبيرا. أثناء جولته الانتخابية عام 2000، استطاع ماكين أن يضمن تعاطف الصحفيين معه، فمن يستطيع مقاومة إغراء رجل لا يتردد في انتقاد اللوبيات وأصدقائهم داخل الكونغرس، ولا يتردد من جهة أخرى في الدفاع بشجاعة عن تسوية لاشعبية متعلقة بالهجرة، والذي لم يغير خاصة خطابه حول العراق، مدافعا عن تعزيز القوات الأمريكية، في الوقت الذي تبدو فيه عرضة للفشل. إن أكثر ما يفضله الأمريكيون في جون ماكين هو شجاعته، فبعد أن احتجزه الفييتكونغ -وهو الحدث الذي شكل خبر الصفحة الأولى في الواشنطن بوست-سيرفض أن يتم إطلاق سراحه دون رفاقه. وفي ما يخص القيم والأخلاق، فليس الدين هو ما يقود جون ماكين دون شك كما هو الحال بالنسبة إلى جورج بوش، إلا أن ذلك لا يمنعه من أن يكون محافظا متشددا، فهو في الوقت الحالي ضد الزواج بين المثليين وضد قرار المحكمة العليا التي وافقت على قانون الإجهاض، وضد أولئك الذين يرون في الولاياتالمتحدة بلدا علمانيا، ويعترف بأنه لا يفهم كثيرا في شؤون الاقتصاد، إلا أنه هو نفسه جون ماكين الذي وقف عام 2001 ضد الهدايا الضريبية التي منحها بوش للأغنياء، ويقف اليوم كمدافع عن خفض هذه الضرائب. والأدهى في الأمر هي مواقف جون ماكين بخصوص السياسة الخارجية، وليس من قبيل الصدفة أنه كان المرشح المفضل للمحافظين الجدد عام 2000، فهو ينتقد غزو العراق من حيث الأسلوب فقط، ويتخذ مواقف أكثر تشددا من بوش تجاه إيران وكوريا الشمالية... هذه الأشياء مجتمعة يمكن أن تؤثر بشكل كبير عليه في الانتخابات، تنضاف إليها سنه المتقدمة التي قد تشكل بدورها عائقا أمام تقدمه. عندما سأل معهد «غالوب» الناخبين عن الشيء الذي لا يحبونه في رئيسهم المقبل، جاءت مسألة العمر متقدمة بنسبة 52 في المائة، ثم الجنس بنسبة 14 في المائة، والعرق 13 في المائة، وصحيح أن عامل السن لم يمنعهم من انتخاب ريغان عام 1980 وإعادة انتخابه أربع سنوات بعد ذلك وهو في سن الثالثة والسبعين».