لاشك في أن المسار الأدبي الجميل والجليل والطويل، لخناثة بنونة، يشكل بحق، ملحمةً إبداعية رائعة ورائدة بتاء التأنيث، وعظمة هذه الملحمة بالتحديد، أنها موقَّعة بتاء التأنيث الناعمة، التي كانت في زمن خناثة البعيد، مهمَّشة ومغيبة، من لدن جمع المذكر السالم والسائد. هي ملحمة إبداعية ونضالية حافلة وباسلة، تنداح على مدى نصف قرن ونيف من الزمان، منذ طلائع الستينيات من القرن الفارط، إلى الآن، بهمة ماضية لا يعتريها كلال أوملال، وبشعرية متوهجة على الدوام، في أدبها ومواقفها وسلوكها وسجاياها. ولمقاربة هذه الملحمة الإبداعية لخناثة واستجلاء شعريتها وعظمتها، لابد من وضعها في السياق السوسيوثقافي التاريخي الذي بزغت فيه وخاضت غماره، وهو السياق الذي تلا مباشرةً استقلال المغرب، أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الفارط، وقد كان المجتمع المغربي آنئذ محافظاً متشبثاً بتقاليده وأعرافه الموروثة لا يفتح نوافذه وكُواه للرياح الجديدة، إلاَّ بحذر شديد. وبخاصةٍ، في خاصة أموره العائلية والشخصية.. لقد كان المجتمع المغربي، بعبارة، أبيسياً بامتياز. وكانت المرأة المغربية ملازمة لبيت الطاعة. شرفها وعالمها، هويتها في الأساس، شرف البنت في البيت!! ويكفي دليلاً أولياً على ذلك، أن المرأة المغربية وإلى أواخر الستينيات، كانت مجلببة وملثمة تماماً (جلباب مسبل مقرون بلثام مُسبل)، لا يظهر منها سوى عينين حائرتين ماكرتين. ومنذ البدء، اختارت خناثة بنونة عن ثقة واقتناع وسبق نية وإصرار، السفور والظهور، في كافة من شط حياتها. فلم نعرفها ونتعرف عليها، إلاَّ سافرة المحيا أنيقة السمت، بملامح باسمة ووسيمة. ولمن أراد التأكد من الأمر، الرجوع إلى صورتها المثبتة على ظهر مجموعتها القصصية الأولى (ليسقط الصمت)، الصادرة في 1967. منذ البدء، كان شعار خناثة وصيحتها الإبداعية الجهيرة والشهيرة (ليسقط الصمت)، عنوان مجموعتها القصصية الرائدة. ليسقط الصمت، في كل مجالات وسوح الحياة، السياسية والاجتماعية والثقافية، وبخاصة في المجال الحساس والأساس لدى خناثة وبنات جيلها، مجال حرية المرأة الذي كان مسيَّجا بالتقاليد والأعراف المحافظة، ويشكل تابو، ومنطقةً حمراء. وقد اخترقت خناثة الخطوط الحمر وانتهكت التابو الاجتماعي بكل جرأة وهمة وثقة، لا تأخذها وتثبطها في ذلك لومة لائم، ولا غضبة غاضب، سواء من أهلها وآلها، أو من المجتمع المحافظ. قاطبة، وهي سلسلة مجتمع محافظ بامتياز. و(ليسقط الصمت) أدبياً، هي أول مجموعة قصصية نسوية تصدر في المغرب، بعد بَيات حريمي طويل، كانت خناثة هي نجمة صُبحه المضيئة ، إلى جانب رفيقتها ورصيفتها رفيقة الطبيعة (زينب فهمي) التي كانت مجموعتها القصصية الأولى (رجل وامرأة) الصادرة سنة 1969 تدشينا ثانيا لهذه الريادة القصصية النسوية. وقد كانت خناثة بنّونة، رائدة أدبية على أكثر من مستوى،كانت مجموع ريادات. هي رائدة للقصة القصيرة المغربية النسوية من خلال مجموعتها الآنفة (ليسقط الصمت). وتجدر الإشارة إلى أن هذا العنوان، هو عنوان لوحة مسرحية قصيرة هي آخر نص في المجموعة. وبذلك تكون خناثة رائدة أيضاً للمسرحية النّسوية القصيرة أيضا، وهي رائدة للرواية المغربية النِّسوية، من خلال روايتها (النار والاختيار) الصادرة سنة 1969. وتجدر الإشارة أيضا، إلى أن هذه الرواية حائزة على الجائزة الأدبية الأولى بالمغرب. وقررتها وزارة التربية الوطنية على التعليم الثانوي، كما (قدمتها الكاتبة هدية لمنظمة التحرير الفلسطينية فَتْح، حيث بيعت في مزاد عالمي، ووصلت النسخة الواحدة آنذاك إلى مليون فرنك لصالح النضال الفلسطيني).. ولفلسطين مكانة خاصة في قلب وإبداع خناثة بنونة، حتى ليصِحَّ القولُ، إنها فلسطينية أكثر من الفلسطينية. وأدبها ومواقفها شواهد على ذلك. وهي رائدة لأول مجلة ثقافية نسوية في المغرب، من خلال مجلتها (شروق)، التي لم تُعمِّر طويلا، لكنها كانت بارقة أمل للمواسم الآتية، وأول الغيث قطر. وقد نذهب أخيرا إلى القول، بأن خناثة بنونة رائدة أيضا لقصيدة النثر المغربية، بعد الأديب المغربي الكبير محمد الصَّباغ، الذي غادرنا مؤخرا مأسوفا عليه، فلغتها الشَّفيفة - الرهيفة والأنيقة، تبوئُها هذه الريادة الأدبية. إن كثيرا من النصوص القصصية للكاتبة، تُراوح بين شعرية السرد وسردية الشِّعر، في منزلة بين المنزلتين، بما يُنزل هذه النصوص في صميم قصيدة النثر. ولنستمع، تمثيلا، إلى هذا الشاهد من قصة (عاصفة من عبير..) من مجموعتها الأولى (ليسقط الصمت): - [كنتُ أقطن فِجاج السلام.. وأمرح بين أعطاف الهدوء.. وأتجرع دقائق عمري بغصة خفية... وكنتُ واضحا كقماءة... ساكناً كجليد.. موزّعا بين أدوار ليست لي.. حتى ذلك اليوم، حيث انشق الأفق في رقصات همجية الوقع لعاصفة من عبير، اكْتسحتني وزعزعت كُتَل الصقيع وفجَّرتني.. فيها: أُغرودة تحكيها السواقي والخمائل والأصائل والأسحار. فعرفت فتنة العذاب، ولدغات السهاد.. والغيبوبة على ساحل وجود ساحق السعادة..] ص. 48 هذا شعر منثور. أو نثر مشعور. هذه قصيدة نثر. هذه اللغة الشعرية - الغنائية المجنّحة، أضحت شارة لخناثة بنونة، وبصمة دالة عليها. والأسلوب طبعا، هو الشخص، كما قال بوفون. وأشير بالمناسبة، إلى أن هذه اللغة الشعرية الغنائية والمشحونة أحيانا، تكاد تكون نغمة مشتركة في الإبداع النسوي، مغربا ومشرقا، وسمة مميزة لهذا الإبداع، نلمس ظلالاً لها عند بعض رفيقات ومُجايلات خناثة، كرفيقة الطبيعة وغادة السمان وليلى بعلبكي وديزي الأمير ونوال السعداوي... هي لغة كالوشم النسوي. كالعزف بأنامل ناعمة. لستُ هنا بصدد التفرقة بين إبداع خشن وإبداع ناعم. بين إبداع ذكوري وإبداع نسوي. بل ثمة خصوصية 0 نَغَمية في كل إبداع، كنغَم الصوت، تماما. لا يخطئ صاحبه أبداً وبقدر ما كانت خناثة، على مستوى المتن السردي، مَهْمومةً بالهاجس الذاتي الخاص، كأنثى متمرّدة على الصمت ساعية إلى الخروج من شرانقه، كانت مهمومةً أيضاً وفي قرن واحد، بالهاجس، الاجتماعي الوطني، والهاجس القومي العربي. وكانت فلسطين باستمرار، في السّويداء من قلبها ومن أدبها. ذلك ما يبتدى جليّاً وبهيّاً في مجموع أعمالها القصصية والروائية والسيرية ليسقط الصمت النار والاختيار الصورة والصوت العاصفة الغد والغضب الصّمت الناطق الحبُّ الرسمي ذاكرة قلم.. وقد كان لي الشرف أن أواكبَ إنتاجها الأدبي منذ بداية إرساله، فكتبت عنه قراءات في (المحرر الثقافي) إبّان السبعينيات والثمانينيات من القرن الفارط. وكانت نصوصها القصصية جزءاً هاماً من المدوّنة القصصية التي اشتغلتُ عليها في أطروحتي الجامعية (مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية/ من التأسيس إلى التّجنيس.) وعليّ أن أتأنّى هنا قليلاً، لأُبْديَ ملاحظةً نقدية حول نقدي آنذاك. فقد كان السياق الثقافي والسياسي إبّان السبعينيات، كما لايخفى، سياقاً ناغلاً ساخناً، مشحوناً بجمرٍ ورصاص. وكانت اللغةُ الأدبية والنقدية بالتالي، لغة ساخنة مشحونة بأنْساغ الواقعية.. والجدلية. وأدبُ كلّ حقبة هو الحقبة ذاتها. كما قال ساتر. يُضاف إلى هذا، أن المرحلة كانت ناغلةً أيضاً، بالنظريات والمناهج الجديدة. كانت مرحلة منهجية واختيارية بامتياز. لأجل هذا، كان في لغتنا النقدية آنئد، شيء غير قليل من المشاكسة النقدية والتحرّش النقدي، كلُّ هذا، كان في خلفية قراءتي لخناثة بنونة وكان آخذاً بسنان قلمي، ونحن في فورة الشّباب. مع اقتناعي العميق بأصَالة وفرادة وجودة إبداع خناثة بنونة. هذه كلمةُ حقّ بأثر رجعي، أقولُها في حضرة الكاتبة الكبيرة. ونقد ذاتي أصْدع به وأنا في خندق النّقد ما أزال. والإبداع الأدبي، على كلّ ، أفق مفتوح، يتجدّد بقراءاته وتعدّد مقارباته. وبعد.. ليس من السّهل استيفاءُ الحديث عن مآتي ومناقب خناثة بنونة، في مقال وجيز ومقام محدّد، وحسبنا من القلادة ما أحاط بالعٌنُق. خناثة بنّونة/ أيتها الرّائدة الرّائعة، أنْحني لكِ، محبّةً وإجلالاً واعْتزازاً. ولكِ البقاء والبهاء.