يقول العفيف الأخضر (مفكر تونسي) في مقال نشرته جريدة »الأحداث المغربية« يوم الجمعة 12 أبريل 2013 وهو بعنوان »إصلاح الإسلام ضروري وممكن«: »اقترحتُ على صنّاع القرار الفصل بين الدين والدولة وبين المؤمن والمواطن عملا بمبدأ الحداثة: الفصل بين الاختصاصات: رجال الدين يقودون المؤمنين في أمور دينهم والسياسيون يقودونهم في أمور دنياهم«. متى كان الإسلام - الذي هو خاتم الأديان السماوية والذي رضيه الله تعالى لعباده وأتمّ به عليهم النّعمة - متى كان في حاجة إلى الإصلاح؟! وهل يتصوّر عاقل له مسكة من العقل والعلم أنّ الدّين الذي يرشد إليه ربّ العالمين، الخبير بخلقه، العليم بمصالحهم وأحوالهم، المحيط بما يحقق لهم السعادة في الدنيا والآخرة، هل يتصوّر أن يكون هذا الدّين في حاجة إلى إصلاح؟ وممَّن؟ من الإنسان المخلوق الضعيف الخطّاء الذي هو في حاجة دائمة إلى وحي السماء الذي يصلح أحواله، ويحلّ معضلاته، ويرشده إلى السبيل الأقوم، الصراط المستقيم الكافِل والضامِن لحياته الطيّبة. وبماذا يصلح العفيف الأخضر الإسلام؟! بالفصل بين الدّين والدّولة. ولماذا؟ حتى يفعل المتنصّلون من أحكام الشريعة في دنياهم ماشاءوا بعيداً عن رقابة الدّين! ويقول: »فيما يخصّني اقترحتُ قراءة النصّين المؤسِّسين، القرآن، الحديث والتراث بعلوم الأديان المعاصرة، الوحيدة القادرة على جعل علاقتنا بمجموع تراثنا شفافة، بلا ألغاز أو أسرار تتحدى العقل البشري«. نقول لهذا الكاتب: إنّ الإخبار بالغيب الذي اشتملت عليه نصوص القرآن الكريم والسنة المطهّرة حق، لايزيد المؤمن إلاّ طمأنينة وتصديقاً بربانية مصدره، وهو لايشكل بالنسبة لعقله السليم أي مشكلة تحتاج إلى ماسماه العفيف الأخضر ب »علوم الأديان المعاصرة« من أجل حلها. ذلك أنّ العقل البشري لايحيل مثل تلك الأخبار التي قامت الأدلّة الصّحيحة الصّريحة على صدقها وثبوتها؛ نعم إنّ العقل المنحرف الذي عششت فيه أباطيل الفِكر المعانِد للحقيقة المغترّ بأوهام الحداثة لايقبل هذه الأخبار بل يعتبرها تحدِّيا. وهنا تكون المشكلة مشكلته هو لا مشكلة العقل البشري السليم. إذ ما على هؤلاء المبطلين إلاّ أن يفتحوا عقولهم للتلقّي الإيماني الفطري لخطاب الوحي. وأمّا علوم الأديان المعاصرة - في قالبِها الغربي - فهي نفسها في حاجة ماسّة إلى مَن يدلها على الطريق الصّحيح كي تخرج من مآزقها. وفاقد الشيء لايعطيه. ويقول العفيف الأخضر كذلك: »وبدلا من الاجتهاد في المباح الذي لاضرورة له، [.....] اقترحتُ على الفقهاء المعاصرين العودة إلى النَّسْخ، الذي دشّنه القرآن نفسُه، بنسخ الآيات التي لم تعد متكيّفة مع المستجدات أو طالب الصحابة بنسخها...«! نقول له: إنّ النّسح من اختصاص الشارع الحكيم، ولا يمكن لأحدٍ أن يقوم به غيره. وعندما نسخت السنّةُ نصوصاً معيّنة كان ذلك بوحي إلهي. وقد استقرت النصوص التأسيسية للشّريعة - بعد نسخ بعض الآيات لمصالح وحكم بيَّنها العلماء - على ما هي عليه الآن منذ العهد النّبوي، بحيث أجمع الصّحابة رضي الله عنهم عليها وهي صالحة لكل زمان ومكان مهما تطوّرت الحياة. قال الله عز وجل: {اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي، ورضيتُ لكم الإسلام دينا}، وقال: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لامبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحداً } (الكهف: 27)، وقال: {أفحكم الجاهلية يبغون؟! ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟!)(المائة: 20) ثم إن قول الكاتب: »أوطالبت الصحابة بنسخها« غير صحيح لأن هذا لم يحدث قط، إذ هو تطاول على مقام الوحي لا يليق بالمؤمن العادي فما بالك بالصحب الكرام الذين كانوا يسارعون إلى العمل بالآيات البينات والاستمساك بها. فإذا نَسَخَ الشارع الحكيم بعضها تركوا العمل به امتثالا وإذعانا. ولماذا يريد العفيف الأخضر أن يقوم الفقهاء المعاصرون بالنسخ؟ ليتم تعطيل الشريعة، وإبطال أحكامها، حتى يتسنى لأصحاب الأهواء أن يُقَنّنوا انحرافاتهم بعيدا عن سلطة الدين. وهل تدرون من هو »الفرد الحديث« كما تريده الحداثة الغربية في نسختها العربية؟ إنه بتعبير العنيف الأخضر: »الفرد المالك لفرجه ورأسه«. ويشرح لنا هذا الكاتب مراده بقوله: »فرجه يتصرف فيه على هواه في إطار القانون الوضعي العقلاني، الذي لايمنع الحب بين الراشدين الرّاضين، ويتصرف في رأسه يفكر به كيف شاء بعيدا عن الرقابة والرقابة الذاتية، وعن كل عقاب أو تهديد.. يختار تدينه الشخصي بنفسه ولا يتردد في مساءلة تديّنهُ أو الشك فيه«. أليست هذه دعوة إلى الفوضى الجنسية، والإباحية، وإقامة العلاقات غير الشرعية، والتشكيك في الدّين؟ وهل تقبل العقلانية الصحيحة مثل هذا؟ لا شك أنّ هذه حيوانية هابطة، ونزعة تشكيكية متخبطة، لا يمكن إلا أن تُنْتجَ لنا مجتمع بهائم ومجانين لا مجتمع أناس عقلاء. أمّا ما ذكره من مواثيق وقوانين دولية متعلقة بحقوق الإنسان فلا نطيل ببيان سبْق الإسلام إلى إقرارها بما لا يرقى إليه أيّ اعتراف أو إقرار. وليرجع العفيف الأخضر إلى ماكتبه علماء الإسلام في هذا المجال إن شاء. وهل تدرون بم فسّر تفوق اليابان وتأخّر المسلمين؟ قال: »استطاع اليابانيون اتخاذ هذا القرار الواقعي لأن دينهم، عكسا لديننا، لا يتدخل لا في الاقتصاد ولا في البحث العلمي أو الإبداع الأدبي والفني، ولا في الحب بين الراشدين الراضين ولا في السياسة«. نقول له: بل استطاع اليابانيون تحقيق نهضتهم بحرصهم على العمل الدؤوب، واحترام الوقت، والتعاون والاتحاد، وبذل قصارى الجهود في تنمية البلاد، وهذه كلها قيم يدعو إليها ديننا الحنيف. ولكن ينقصنا العمل. وأما تدخل الإسلام في المجالات التي ذكرها هذا الكاتب فهو المنهج الصحيح المثمر لازدهارها المتوازن بحفظ الكرامة الإنسانية وتحقيق المقاصد الربانية التي تجنب الإنسان مختلف الأزمات التي تتخبط فيها الإيديولوجيات العالمية رغم التقدم التكنولوجي والمادي. إن ما عبر عنه العفيف الأخضر في هذه المقالة لا يعدو كونه اجترارا لما قاله قبله محمد أركون وغيره من دعاة الحداثة الغربية، مما أوضحنا تهافته في كتاب سيصدر قريبا بحول الله.