روتْ مليكة حكاية عماها، أمرٌ فاجع لم يكن منذراً بالحدوث، وقع ذلك قُبيل التحاقي كموظف رئيسي بإحدى الإدارات، كتب أحد الرواة الكلاميين أن أواسط شهر نوفمبر شهد مثل عاصفةٍ...ترنّح الموظفون وهم يلهثون بين الممرات، يستوقف هذا ذاك ثم يفترقان في عجالة متلاشين داخل حجورهما، وعُلم أن الرئيسة، النحيلة نحولاً بيناً، والمتسمة بالعجرفة قد وفدتْ، وذلك بسماع طقطات كعبيها على الراقي الصلبة، البالغة التنظيف، ومن باب موارب، قبالةالمدخل حيث البهو الرحب، يبدو موظف الأرشيف، البئيس جدا، يدسُّ وجهه في دفتر التسجيلات في استغراق ملفت، وأخيراً دلف إلى البهو رجُلٌ نحيف، غزير شعر الرأس، ذو لحية كثة تفتقر إلى العناية، يرتدي معطفا شتويا، وينتعل حذاءً أسود جيّد الطلاء، وقف مذهولاً لدقائق ثم صعد نحو مكتب الرئيسة، يبدو واثقا ومغاليا في الجدية شأن ثم يريد أن يرهب لإبقاء مسافة مقبولة بينه وبين مرؤوسيه، غيّبه مكتب الرئيسة بعد دخول وخروج كاتبها الخاص، قصد الإبلاغ عن وصول الموظف الجديد... بدا لي أن الرّجل خرج مرتبكا ، ممتقع الوجه، وخمنت أن الفشل سيكون من نصيبه، عند هذا الحد توقفت رواية ابراهيم السعدي، وهو الموظف المزهو، المتأنّق، المذعن، التّمام، مجيد المقاطب صدق القول أن منصبه سيتبدّد ويؤول إليّ ضمن المهام المشمولة برئاستين. حدثت هذه الأمور منذ سنوات وكان التخيّل فيها أوفر حظا من سرد الوقائع،وماحدث أنني استلمت قرار التعيين الوزاري، فهاتفت السيّدة المعنية يوما قبل اللقاء الذي حدد موعده على الساعة العاشرة؛ حيث تقابلنا نحو خمسة عشرة دقيقة للتعارف تم طاف بي الكاتب الخاص الممرات لتفقّد المكاتب والإطلاع على مهامها، ولم نكن نحتاج في ذلك إلى وقت طويل، كنتُ حينها أرتدي بذلة رمادية، وحذاء جديدا بنيا، وقميصا ورديا، محكمة في طوقه ربطة عنق سوداء ذات خطوط صفراء... كنت في غاية الخفة والإنطلاق ، هذه الأشياء كلّها غير ذات شأن، سأروي ماهو جدير بالانتباه، لقد اتخذت موضعي بالمكتب المخصص لي، في اليوم الموالي للزيارة، مجاورا الموظف المعفى من المهمة المسندة إلي، وهو غير الموظف المذكور قبلا، إنه رجل خجول، نقيّ الطوية، أطلعني، على عجل،على الموجودات، أختام، أوراق، ملفات، كتب الخزانة، ناسخات، حواسب و... وانهمك في ممارسة بعض الأعمال المكتبية ثم غاب في اليوم اللاحق دون سابق إخبار، بقيتُ وحيدا في مكتب شديد البرودة، تحيط بي أشياء جامدة خرساء، تحوّل في نظري إلى قوقعة ينحشر داخلها حيوان رخو لم ينجدني من هذا الخواء، المثير للأعصاب،إلاّ صوت مليكة موظفة المقسم الذي ألهمتني الشجاعة الكافية، كان صوتا محملا بالرعشة والرنين، وبدا أنها استبقت الأمر، على غرار الموظفين الحشريين، بالتقاط مقتضب عنّي، إق قالت: (أهلا بالأديب...) وأدفت (إني أكتب الشعر، وسأطلع سيادتك، في قادم الأيام على بعضه) فوجئت في وقت لاحق حين مثلت أمامها لأمر ما بامرأة نحيلة، تُعنى بهندامها الصارخ الألوان عناية خاصة ، كانت عائسا،وإذ تصافحك تأخذك الخشية من أن تندثر أصابعها بين كفك، لكنها كانت مؤدية ولطيفة للغاية، روت لي أنها مدرسة، ويوما ما منذ سنوات كتبتْ على السبورة (التلاوة: الغراب والثعلب، والتاريخ طبعا وكان يوم 14/5/1982) والتفتت، وهي على المصطبة نحو التلاميذ، وبغتة هوى بينها وبينهم ستار داكن: اختفووا بشكل سحري. إثرها شرعت أصرخ طلبا للنجدة، تطوّع من جاء بمدير المدرسة الذي وقف مندهشا حسب ظنّي، واقتادني وكنت أسير بجانبه الهويني كما لوْ أخطو لأول مرة. تساءلت (قرأت أشعارها بعدئذ، كانت عاطفية جدا، ولغتها شبيهة بلغة جاك بريفير ونزار قباني) وأنا أنظر إلى جثمانها المسجى فوق سرير متهالك، وقد استكملت الدائرة، بعينيها المطبقتين، والغطاء الذي يلفها حيث تكاد لاتستبان، وقد تعرت من تلك القشرة الواهية التي نستر بها وهننا، وخمدت خارج الزمن والمكان.. كيف ترى وقد انطفأت عليناها؟ مافتئ هذاالسؤال يؤرقني، كنت غارقا في استكمال البناء صورتها في ذاكرتي، وقد مر على انتقالها إلى حيث الإله الحفي بمخلوقاته وقت غير يسير. وضع النادل الأسمر، الطويل، المبتسم على الدوام، كأس قهوة سوداء أمامي تم انصرف. مقهى فرنسا ملائم لحيازة متعة خاصة ونادرة بمتابعة تكون مشاهد متنوعة حيث يتدفق الناس من الاتجاهات كافة فتبدأ تلك الحيوية الفائرة للمكان في النشوء، تتالى لوحات مبهرة، وتتشكل باقة من الأصوات ، وفي لحظة ما تكون الساحة العالم كله، وقد غدت محاكاة لانظير لها، ومن الجلي أن خوان غويتيسلو الذي يقبع كنسر متحين في هذه المرقبة، مديرا عينيه الصغيرتين، وجد بئرا سحريا يغرف من مائه الزمزمي الشديد الندرة، وسوف لن يخلف وعده، إذ سيأتي بعد حين فور انتهائه من تحرير بعض الأوراق وستكون بصحبته ماريا كداما حليلة السيدة بورخيس فمنزله لايبعد إلا بأمتار قليلة عن (كافي دوفرانس): قبل حلول الموعد أثرت تصفح مقتنياتي من كتب عبأتها في علبة من الكرتون وكانت تضم ترجمان الأواق والفتوحات المكية لابني عربي، والصداقة والصديق، والإمتاع والمؤانسة، والمقابسات لأبي حيان التوحيدي، ومنبعا الدين والأخلاق، والمادة والذاكرة، والضحك لهنري برجسون، والقارئ العادي لفرجينيا وولف، والخيميائي لكوماينو، وأطروحة جول المتنبي، ومختارات لبورخيس وعنه محمد ايت لعميم توفق بحدسه الذي ونظره الثاقب في أن يجعل منها سبيلا سالكا لعالم بورخيس البالغ الثراء والنفاذ. كنت في حالة من الهلع إزاء وقوعي في مهب رياح خريف الذاكرة أو لأقول وفق التسمية الجميلة والمرعبة لقد علقت في شرك (ونخصاء الرمزي) وعلي ،،، أن أدفع بمركبي للنهر وأجذف نحو البنائين الذين يشيدون عمائر النخيل لقد لذ للكثير منهم أن يفقسوا بيض تراثنا وهو الأمر الذي حذا بي إلى مراجعات، وإعادة بعث ماطواه النسيان، والحق أن لا آفتئات في أن الأدب ديوان شعر كتبه شاعر كوني بجنسيات مختلفة. وأنا منهمك في تصفح متعجل للكتب المقتناه جلبر بجانيس آيت لعميم منتشيا بتوثبه وحماسه المعهودين، وبعد حين هلت ماريا كدايا صحبة خوان الذي يخطو بصعوبة بالغة.. لأمر لا أعلمه انشغل ذهني بلهمة صورة (المرأة العمياء)، كنا أربعتنا متحلقين حول الطاولة، وفي نوبة خدر طارئ بدالي أن الجلسة ذاتها حدثت في زمن ماض فانتابني الإحساس بالطفو في الهواء... بدأ الزمن ينسل كحبات رمل بين الأصابع ، والأيام المدسوسة في مكان ما تتجمع مثل أوراق اللعب، مقلصة الفساحة والامتداد، وسمعت ما حسيبته كركرة عجلتي عربة مقويتين بإطارين معدنيين فوق الحصى، كانت كداما توشوش في أذن آيت لعميم ويدها المنشغلة في تذويب مكعي السكر في فنجان القهوة تتوقف ثم تستأنف التحريك... ومن الأطواق البشرية التي تتوزع الساحة تتصادى الأصوات، انفكت الحلقات العديدة لتلتم في حلقة كبرى، بتوسطها رجل لم يكن مألوفا وجوده؛ انطلق آيت لعميم كحصوة من قاذف مطاطي، وضع يد على رمانة كتف الرجل الغريب ثم أومأ للحشد بالجنوح الى الصمت، قامت ما يا كداما، وقد شبك خوان أصابه بأصابعها، باتجاه الحلقة، ، وحين دنت فتحت عينها بذهول. كان الرجل المحاذي لآيت لعميم هوخرخي لوليدبورخيس ذاته. هل حدث هذا سنة 1985؟ لا أعتقد ذلك بَلْ بعد وفاته تحديدا وإذ يمثل في هذا الفضاء الأعجوبي فليس مدعاة للغرابة فهاملت وغريغورى وغيرهما من الذين يتهفون بمزايا استثنائية يبارحون عوالم الرمز والدلالة ليكتسبوا حيوية الحياة في الذاكرات، عابرين الأحقاب من الأبدية إلى الديمومة. كان من رواد الحلقة أبو العلاء المعري، وبشار بن برد، وطه حسين، ومليكة موظفة المقتسيم، وكان قبالة بورخيس ورفيقه، على بعد خطوات، أبو يوسف طه مدثرا ببرنوسه الأسود، مضحيا بانتباه شديد، متأرجحا بين الحقيقة والخيال، قال أيت لعميم بنبرة بها بحة، وقد أمسك بورخيس من كوعي: هذا رواد لغوي وشاعر من بلاد الأرجنتين، لاعب ماهر وقد بالزمن: مدمر للسرد، فيلسوف في جبة أديب، تحت قشرة نصوصية تجرى أنهار الثقافات متقاطعة متمارجة أو نقل هو نحلة تحوم فوق حقل أزهار وورود بسعة العالم لتفرز عسلا فريدا، وإذا شئنا الدقة هو فلاح طامح ينثر حبات الذاكرات فوق أرض مشبعة بسماد لامرئي فتندلع الحياة مشبوبة مثل فتاة نزقة تسلم ذاتها وهي تعدو لهبوب نسيم يتلاعب فوق مرج أخضر غارق بلمعان الضياء.. افتر ثغر كداما عن ابتسامة، حرك خوان رأسه، أما مليكة فقد تأوهت. وقف الرجل دو البرنوس الأسود، تنحنح كمن يزيح عائقا من حنجرته وقال: أيها الشاب الحاذق لقد أسعدك الحظ بمجيئ بورخيس، وأسعدني الحظ بقراءة مترجماتك له ولمن كتب عنه، وقد أفادني ذلك في معرفة أن صباغة الكتابة تحتاج إلى قاعدة صلبة: دراسة عميقة للنصوص، الإحاطة بالثقافة دون تحيز، معرفة الفلسفات والعلوم... مزج كل ذلك في دورق الإبداع، وإكساء البنية المفهومية للنصوص بالصهارة، وفق استرتيجية تقترح أفقا جديدا؛ وإلا لماذا تخاطف اللسنيون أعمال الرجل، وراوح البعض بين القول بتخاصب النصوص وروح العصر، ووجود المشترك الإنساني. العالم مكتبة إذن، وبين الكتب علاقة تجاورو تحاور، المتاهة، العود الأبدي، المرايا... أذهل بورخيس المتحلقين، وهو ينظر إلى الأعلى، كانت السماء صافية، ولقالق تفرد أجنحتها عائدة إلى أعشاشها فوق أسوار قصر البديع، أما كاتب (الرجل اللقلاق) فقد بدا مزهوا، تابع بورخيس اللقالق إلى أن غابت ثم اعتدل ليفعل ما من أجله جاء إلى هذه الساحة الفريدة، أما ذو البرنوس الأسود فقد بدا كمن يتكلم خلف لوح زجاج. قال بورخيس (كان رفيقه يقفوه مترجما): يا أهل بلد عريس القيامة والنخيل الشامخ والجبال المكسوة بالثلوج والشمس الساطعة سأروي لكم حكاية الوردة الصفراء فأسيخوا السمع: لم يمت جيامبا تيستا مارينو، الرجل الذائع الصيب الذي أجمعت أفواه الشهرة (ونحن نستعمل هنا مجازا محببا إلى نفسه) على إعلانه هوميروس الجديد أو دانتي الجديد لم يمت في تلك الأمسية ولا في غيرها؛ بيد أن الحديث الثابت والصامت الذي وقع حينئذ كان في الحقيقة آخر حدث في حياته، فبعد أن أغدقت له العطاء السنون والمجد. احتضر الرجل في سرير إسباني واسع، منقوش الأعمدة بالزخارف، لن يكلفنا شيئا أن نتخيل، على بعد خطوات منه، شرفة هادئة تولي وجهها شطر الغروب، وتحت الشرفة مرمرا وغارا وحديقة تضاعف أدراجها في صهريج مربع، وضعت امرأة في كأس وردة صفراء، فتمتم الرجل البيتين اللذين لا مفر منهما، واللذين كانا، إذا شئنا أن نتحدث بصدق، قد أضجراه قليلا. أرجوان الحديقة، بذخَ المروج بُرعُم الربيع، ومقلة أبريل... إذ ذاك انكشف المستور، إذ رأى مارينو الوردة على نحو ما تمكَّن آدمُ من رؤيتها في الفردوس، فشعر بأنها كانت في خلودها وليس في كلماته وأنَّنا يمكن أن نذْكُرَ ونلمِّح لكن لانستطيع التعبير، وأن المجلدات السامقةَ والشامخةَ، التي تُشكل في إحدى زوايا الحجرة عتمةً من ذهب، لم تكن (مثلما حَلِمَ غرورُه بذلك) مِرآةً للعالم، وإنما شيئاً آخر ملحقاً به. أدرك هذا الإلهامَ مارينو في عشية موتِه، ولعل هوميروس ودانتي. قد أدركاه أيضاً. أتمَّ بورخيس حكايته، في الوقتِ الذي سحبتْ فيه الشمس خيوطها الضوئية آيلة إلى الغروب حيث بدأت السماءُ تتزركش بأشكال لونية بديعة مَثل قماش تحت ضربات فرشاة رسام مُتَمهّل.. بدأ الكونُ يتضاءلُ، أمسكت مليكة من يدها، أحدثنا بصعوبةٍ خرقاً ضيقاً في الحلقة ثم خطونا باتجاه القنارية، ولجنا إلى صابة مُظلمة لايَكْسرُ سكونَها إلاَّ وقعُ حذاءينا.. فجأةً وجدتُ نفسي، حينما خرجتُ من النفقِ إلى دائرة ضوء شحيح، أخطو وحيداً، لم تكن مليكةُ موجودةً بل كانت يدي ممسكةً بوردةٍ صفراء.. هل غَفَوْتُ في المقهى، بعد انتظار فادح الطول، مستسلماً للحلم، وقد طاف بي الحصان الأسود ذو العزة البيضاء والعرف الطويل، وهو ينطلق بعد أن وقفَ على خلفيتيه وبدا يحرك قائمتيه الأماميتين كما لو يرغب في تسلقِ جدار وهمي؟ إنني مرتاب. آسفي 1 دجنبر 2012 *- مَرْويةُ «وردة صفراء» لبورخيس المدرجة في النص من ترجمة ابراهيم الخطيب.