"ما قدهم الفيل زيدهوم الفيلة".. هارون الرشيد والسلطان الحسن الأول    ‬برادة يدافع عن نتائج "مدارس الريادة"    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة ...المغرب يشارك في فعاليات حدث رفيع المستوى حول الأسر المنتجة وريادة الأعمال    مجلس النواب يصادق على مشروع قانون الإضراب    المخرج شعيب مسعودي يؤطر ورشة إعداد الممثل بالناظور    أكرم الروماني مدرب مؤقت ل"الماص"    الجيش الملكي يعتمد ملعب مكناس لاستضافة مباريات دوري الأبطال    تبون يهدد الجزائريين بالقمع.. سياسة التصعيد في مواجهة الغضب الشعبي    حصيلة الأمن الوطني لسنة 2024.. تفكيك 947 عصابة إجرامية واعتقال 1561 شخصاً في جرائم مختلفة    بركة: أغلب مدن المملكة ستستفيد من المونديال... والطريق السيار القاري الرباط-البيضاء سيفتتح في 2029    وزير العدل يقدم الخطوط العريضة لما تحقق في موضوع مراجعة قانون الأسرة    الحصيلة السنوية للمديرية العامة للأمن الوطني: أرقام حول المباريات الوظيفية للالتحاق بسلك الشرطة        الاعلان عن الدورة الثانية لمهرجان AZEMM'ART للفنون التشكيلية والموسيقى    أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية .. رأي المجلس العلمي جاء مطابقا لأغلب المسائل 17 المحالة على النظر الشرعي        البيضاء: توقيف أربعيني متورط في ترويج المخدرات    هولندا: إدانة خمسة أشخاص في قضية ضرب مشجعين إسرائيليين في امستردام    آخرها احتياطيات تقدر بمليار طن في عرض البحر قبالة سواحل أكادير .. كثافة التنقيب عن الغاز والنفط بالمغرب مازالت «ضعيفة» والاكتشافات «محدودة نسبيا» لكنها مشجعة    الصناعة التقليدية تجسد بمختلف تعبيراتها تعددية المملكة (أزولاي)    المغرب يستورد 900 ألف طن من القمح الروسي في ظل تراجع صادرات فرنسا    جمهور الرجاء ممنوع من التنقل لبركان    وزارة الدفاع تدمج الفصائل السورية    مراجعة مدونة الأسرة.. المجلس العلمي الأعلى يتحفظ على 3 مقترحات لهذا السبب    الدورة العاشرة لمهرجان "بويا" النسائي الدولي للموسيقى في الحسيمة    العلوم الاجتماعية والفن المعاصر في ندوة بمعهد الفنون الجميلة بتطوان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية : البحاثة محمد الفاسي : مؤرخ الأدب والفنون ومحقق التراث    تفاصيل الاجتماع الأول لفدرالية الصحافة الرياضية بالمغرب    يوسف النصيري يرفض عرض النصر السعودي    الشبكة الدفاع عن الحق في الصحة تدعو إلى التصدي للإعلانات المضللة        توقيع اتفاقية بين المجلس الأعلى للتربية والتكوين ووزارة الانتقال الرقمي    "أفريقيا" تطلق منصة لحملة المشاريع    إلغاء التعصيب ونسب الولد خارج الزواج.. التوفيق يكشف عن بدائل العلماء في مسائل تخالف الشرع ضمن تعديلات مدونة الأسرة    أول دواء مستخلص من «الكيف» سيسوق في النصف الأول من 2025    مجلس الحكومة يتدارس أربعة مشاريع مراسيم    الملك يشيد بالعلاقات الأخوية مع ليبيا    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    الإصابة بالسرطان في أنسجة الكلى .. الأسباب والأعراض    نظرية جديدة تفسر آلية تخزين الذكريات في أدمغة البشر    العصبة تكشف عن مواعيد مباريات الجولة ال17 من البطولة الاحترافية    "فيفبرو" يعارض تعديلات "فيفا" المؤقتة في لوائح الانتقالات    الإعلان عن تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة        عودة نحو 25 ألف سوري إلى بلدهم منذ سقوط نظام الأسد    مستشار الأمن القومي بجمهورية العراق يجدد موقف بلاده الداعم للوحدة الترابية للمغرب        "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    المغرب يشارك في أشغال الدورة الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب بالرياض    اختطاف المخيم وشعارات المقاومة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد العربي المساري..مَناقِبُ الوطني
نشر في العلم يوم 10 - 12 - 2012


أبو حيان التوحيدي
أحتاج أن أستدعي الكلام لكي أتكلم. أن أُحضِره إليّ من مثاويه وحقوله ومخابئه وأفيائه. أن أعرضه على الهواء ليَدفَأ بالشمس، ويبترد مُندّىً، مُبللاً تحت المطر، وأراه يتلوّى راقصاً بين الخصور، وعلى إيقاع الأقدام والأيادي الصافقة. الكلام ليس لغة محترفة، ولا عبارات تصاغ لأداء معنى وتوصيل خطاب، فقط. الكلام نبوءة. فصلٌ لما وراء الطبيعة. الحدوس والألوان المتموجة في استدارة قوس قُزح. الكلام صمتٌ،إن كلّمتََه أشجاك. داعبتََه وتراً غنّاك. غازلتَه فتّاك. نادَمْتَََْه باحَ أهواك. تدرّعته صار فِداك. الكلام هدير. أوَ نسيتُم النفير؟! والخيلَ تثير النقع لمّا جاءكم البشير النذير. ينبِسُ ببنت شفة. بأرخم صوت. بأقلّ حروف. حتى ليقال إنه ليس الكلام. أم لعله من الصحو إلى زمن المحو هذا ليس غير أثير. لقد كان في عيني، يبقى الأثير.
أحتاج أن أعيد تأسيس الأرض بالكتابة. القلمَ أصنعُه بلغة قيل ماتتْ، وأُمَّةٍ سمعنا فاتتْ، وأشواقٍ زعموا كانتْ وخمَدتْ، وهِمَمٍ لقوم ِبئسَهم خملتْ. وهذه الأرضُ العربيةُ على ما نَدَبوا ويْحَها خابتْ. ولذا، نكايةً بهؤلاء الناعين، ولخاطر النُّجُب الأصفياء لا بد لي من إعادة تأسيس أرض الكتابة العربية بأصفى الكلمات، كي أعرف كيف أقولُكَ. بعضَكَ لا كُلك، فأنتَ تعِزُّ على الاجتماع ولو في أبهى وأوسع دار للمفردات. تتجاذبُكَ المعاني. تتنازعُكَ المغاني تِلْوَ الصفات. يميناً، شمالاً، تلفَّتتُ، حيثما ولّيتُ وجهي وجهَك تأخذني إليك الجهات. وقد أغيب شهراً،أسهو عنك دهراً،لا بأس،أبقى أتنسّم من ذُراك سرّاً وجهراً،أتلظّى من ظمأ حَراًّ وحرّى. ثم أوقنُ، لو علمتَ، عليّ أن أجدّف بالكتابة بحراً وبَرّاَ، ليبقى سحر الكلام فيكَ ُطرّا.
وأحتاج أقوى ما يكون الآن إلى استرجاع الزمن، واستحضار ما لا يُسترجع، فقد حدثَ مرة واحدةً، وتململَ أمام البصر، ثم تخيلتُه خيالا قبل أن يستقر في البصيرة فَرَحل. ومن حيث أريد أن أقبضَ على الزمن جذوةً، ينبري في وجهي نافثاً حسرةً، ُمرَجِّعاً شهقةً وزفرةً، ومُراوٍداًً مَسْرايَ في الوقت الرتيب بحثاً عن ما كنتُ وكان، وقوفِنا عمرا ضد أصنام الهوان، فأقول له لا تبك عينُك إنما حاولنا مُلكا، وها نحن لا مِتنا، بالكاد نحن نحيا، لكنا ما خُنّا ولا بدّلنا، فإن عُدَّتْ معصيةً، فشفيعُنا في حب البلاد هذا الوطن، رغم ما بيع منه ومن شُري،نحن لا نأبه بالخاذلين ومن خَذَل،ما زال في خطواتنا خفْقُ المسير،وأشواقُ السُّرى،أوَلا ترى، كيف كلما ارتعش الهواء بِحُبِّنا هَبّ الورى، وترصّعتِ السماءُ باسم محمّدٍ، أفَلاَ ترى؟!
وأحتاج إلى الرجال. إلى الرجال في المكان كما الزمان. أن يشْخَصوا وهُمُ العيدان عمادُ البنيان. في تلك الأعوام الستينية الهاربة، يجهلها الأوغاد، ومحاها من ذاكرتهم من كانوا لهم الأسياد، وما يُقال اليوم غُثاء السيل، فقهاء فقاقيع، أبطالٌ من زَبَد، وكلامُ النهار يمحوه الليل. في شارع علال بن عبدالله بالرباط، حيث قابلتُهم وأنا غضٌّ، بل غِرّ، وهُم بالشباب الطافح كالطّلع، ملء العزيمة واليقين، وجوهُهُم فَسحةٌ، يستقبلوننا نحن النبات الرَّغد، قد أفسحوا لنا الطريق، أنتم صدارتُنا غداً، بل من اليوم، قالوا،من المهديِّ إلى علال، إلى جبّار،إلى العربي، يدٌ تُسْلمنا إلى يد، من رفيق لصديق. أحتاج لهؤلاء الرجال، في الزمن القحط،للأرض اليباب «اؤلئك أصحابي فجئني بمثلهم» إذا جمعتنا يا الرباط المجامِع، ولن تجمعنا(!) اللهم هذا المَوّالُ فجيعة،وصدىً لحُداء، لقافلة تأكل عظم ناقتها، قد برّح بالرَّكْب شوقُ الوِصال، والوصول برقٌ خُلّبٌ وما نسمعُ من شقشقة، نرضعُ من حليب الكلام، فيا للسراب، قد حلّ الفناء!
ما هذا تشاؤمٌ، ولا تطيّرٌ، قد كبُرنا على عهد العرافة والأوهام. قد نسجنا من عمرنا حبالاً، جسوراً عبرتْ فوقَها خيولُ الفجر ومشاعلُ الأحلام. قد زهَوْنا، وفَُتننا وافتتناّ. لا بأس إِنِِ اليومَ انتبذنا ركناً بين الذكرى والنسيان، ما انهار فينا أيّ ركن، لن يفرح أبدا بتُعسنا الأقنان، ننظر الغادي والرائحَ،لا نتقدم ولا نولّي الأدبار، نحن ما كان، وعيوننا تفتح الطريق لما سيكون، لكنا لا نرى ما يشرح القلب الآن. لا بأس، أمس عندنا هو المكان،لا بأس، وليكن الحنين، فهو ليس هزيمة، يحتاج الحنين إلى من له قلبٌ، كبدٌ حرّى وذوْب. وماذا أرى غير قامات جوف كالقصب،فرسانٌ تطلق النار في الهواء ولا خَبَبْ، وطلائعُ صماءُ جامدةٌ لا تجيب، كالحيطان. ما هذا استسلامٌ ولا هي وحشةٌ، ولا نعيقٌ للغربان. قد فات وهْجُ التفاؤل، ارتدى العمر دِثار الزوال، والكلامُ العسلُ من أين نأتي به لو طلبناه، اللهم أن نغرف من مُفَوَّهيهم في البرلمان، تِرِلان يا الّللان (؟!). ولأنك خاي العربي الوِرْدُ الصافي، الوِدُّ والوَردُ،أسمو بك عن البهتان.
كأني أقترب من الوداد، من ذلك العهد المجد، وقت التآخي الفذّ، وما صار أطلالاً، فيَا ِلأَرَم ذاتِ العِماد! كأني أتخيلُني أشدو،بأول لحن في الوجود، من شغاف برشيد يغدو، صاعدا إلى هضبة مديونة، منها أطل على البحر، نازلاً صوب مدينة، إسمها شيءٌ ك»كازا» هذي المجنونة، الأبيض تلو الأبيض هذا ما يبدو، والشوارعُ لمّا نزلنا بإسفلتها امتدت أمامنا واقفةً مسنونة. نحن في أوّل الاستقلال، ومحمدُ الخامس حاجبُه هلال، والدار البيضاء منذئذ غشاها نورُه، رصاصٌ يُلعلع، زغاريد لعنان السماء، وغُرّة علاّلَ من كل عين تينع،وهذا هو التاريخ حقا، كنا حسبناه كذا، والرجال الجياد صفّاً يتبع صفّا،ما جفّ المداد، ويْحَها كيف الأيام تعدو!
كأني أعود إلى عهد عاد، كُنا قد كسرنا الأصفاد. الروحُ جمرٌ والأرضُ مجْمَرٌ والمغربُ عيد وميعاد،كأني أستعيد وجه أبي بصفاء البياض،وهو في وهج الشباب، قد عزّ مثلُه في الأجواد. بيتنا صار زاوية، والفقهاء يسبّحون بحمد الله، يرددون للوطن المحرر أحلى الأوراد.
كأن أمسي يمشي معي، من الدار البيضاء،إلى فاسَ،إلى الرباط، فحواضِرُ الدنيا الأخرى، حَذْويَ النعل بالنعل. حيث سار الشِّدادُ، الفحل منهم تلو الفحل. ذا بلدٌ يُحْمَلُ فوق الأكتاف، مجللا بالقرنفل وشقائق النعمان، بالزنابق والريحان، قالوا نَزُفّه إليكم اليوم وغداً أبداً بالهُتاف. كأن جبل «ظهر المهراز» يشمخ ثانية فوق هامتي، يمشون خفافا،ولِوَقْْع خُطاهم أيّ اهتزاز. ما بدا للعين في بارقةٍ من أمل. ما دوّى رعداً، سمِعناه في الأفق اتّصل. وما تهافت، تفسّخ، تبعثر وانفصل. أمسِ راح، وما شفانا عن غيابك أيّ راح. أكلُّ ما كان إذن مجردَ قوْل تَهَلْهل؟ ليس يأساً مني، ولا عَدَما، بل أدعوك تفاءَلْ.لا بأس أن يتكاثر الهوامُ، وأن يجفّ الضرعُ عاما إثر عام. لا بأس، أيضا، أن يرْخَصَ في سوق المزاد الكلامُ، وأن يُضام في هذا الزمان كل ما من أجله عشنا وما لا يُضام. لا بأس حتى أن تدور الأرضُ حوله، وتعلو رُبانا فلولُ الظلام. فالهواء الذي في قبضة الكفّ شاهدٌ، ويومُ الريح الساكنة غدٌ ماردٌ، أجل، فؤادي هوى من سنين، والمدى عن عيوني شاردٌ، لكني لما ذكرتك، تذكرتُك، أخذتُك إلى الصدر كمشموم النوار، جذبتَني إلى عطفيك،غشيتَ روحي هامسا: يا فتى أمسِ، وخليلَ أنسي، ثِق، إنيَ عائد.
سنُعيد الكَرّة، لكن هذه المرة بالسرد،لأني أعرف أنك شغوفٌ يا سي العربي بالسرد، كان لك فيه باع، ولولا ما خُضتَ فيه مما تُحب وما ليس بالضرورة يُحَبّ ، لطال سردُك وامتدّ.
واعلمْ أنك تحفزني اليوم للعودة إلى كتابة الصدق، وشغف الكتابة، بعد أن صدِئ الكلام، وتقصْدَرت كثيرٌ من المفردات، وقلّ الحياء وعمّتِ السَّفالات. من حسن الحظ أننا عشنا ما يستحق أن يُروى، وعرفنا من بين القوم أناساً لهم هِمم وشَمم، وإلا لكان ضاع القول وانكسر القلم. وأنت واحدُهم، من أجمع الإخوان على تسميته»خاي العربي» صادقٌ، نبيلٌ،لا ككثير، خوّان. الأهمّ من الخصال الأفعال، حوادثُ صغيرة وأخرى متفرقات. بين أمس واليوم عبرتْ في الحياة، في الرباط خاصة، وجريدة العلم خصوصا، قبل أن نصبح، أصبح أنا على الأقل أواجه هذا الشتات. أحاول أن أتذكر، أفرك جبهتي، أضرب رأسي بالحائط كما ضربوني ذات يوم مُدلهِمّ فات. وأعجز، ذاكرتي أصابها بعض تلف،وواحرّ قلباه فقد أغرقونا في مُرّ الفوات.
جئتُ إلى الرباط، كان ذاك في نهاية الستينيات. أرافق «صائعين»، وحالمين مثلي،لا أبناء ذوات. كان من زار الرباط ولم يَحجّ إلى»العلم» ف»حجُّه» باطل، ومن وقف عند بابها ولم يقُده عبد النبي إلى عبد الجبار، وإلى جواره، فما نال من مائدة هذه الدار العامرة إلا الفُتات. كنت بعد أن أقضي من محبة عبده وطراً، وسماعي عن الرجل من قبل. أتلفت حولي، مقتفيا سمعي في الحين، وسماعي السابق عن الرجل من خلال اطلاع، وفي النفس قلَقٌ من صدّ أو لا يبالي،بينا هو يمرق عابرا كالطيف و السهم نحيلا، أو مقيما في الخفاء، أوَسمعتم أحداً،اللهمَ شعرا، يقبض على الهواء؟! كنا من زمرة الأدباء، الناشئين،المزعومين، وبيننا عدد من الفضوليين والمتبجِّحين،قد أثبتَ الزمن ذلك، نرتاد «العلم» والحق، بجاذبية أخّاذة لعبد الجبار، الذي كان وحده المدار،يستقبلنا بلطف،متيحا لنا وقتا لا يملكه من وقت الصحافة المطحنة، يتسلم أوراقنا الجامحة بصبر،ويطعمنا ويسقينا،سقاه الله من حياض الجنان، وننصرف لم نلتق ذلك الرجل الذي يشتغل بالسياسة والأخبار الوطنية والدولية وتعليقاتها، ولم نكن نعرف وقتئذ أن هذه هي الصحافة الحقيقية لا الخواطر والانطباعات التي كنا نُدبِّجُ باسم الأدب. على أن محمد العربي المساري كان قد أصيب بلوثة الأدب مبكرا،وأسّس مع مجايلين له (محمد برادة، وعلي أومليل)»مجلة القصة والمسرح»(1966) لم تعمر طويلا، كما ارتبط بالرعيل الأول للمأسوف عليه اتحاد كتاب المغرب، ونشط في هذا الحقل بين الرباط وتطوان.
لم نكن نحن القلقين من أبناء الدار البيضاء نعبأ بأصول الكتاب والصحفيين، نعيش إلى حد بعيد في اكتفاء، وسأحتاج إلى وقت لأفهم انتماء الرجل الروحي والثقافي إلى منطقة الشمال، وكيف استطاع بمثابرته، بذكائه الاجتماعي، ودماثة خلقه، وبانخراطه في الحقل السياسي عامة، والاستقلالي منه خاصة، أن يكون المواطن المغربي كاملا، لا أسير منطقته وشلتها ولكْنتها المنغلقة، ما لم يعرف كيف يتخلص منه من قضوا في الرباط عقودا،والقِبلة عندهم هي تطوان! ولكن سي العربي سيبقى عندي أنا البعيد عن الرباط، الوافد إليها لِماما وليلا خاصة، كائنا خفيا أو متسترا أو منهمكا في مشاغله،لا وقت عنده ليضيعه مع الصائعين والحالمين، منصرفٌ إلى شغله الصحفي والسياسي أساسا، ولأسرته ولاشك،خلافا لعبد الجبار الذي بمقدرة استثنائية كان يولي الشاغل الثقافي والإنساني القدر الوفير. غير أنهما معا ظلا أثيرين، ومتميزين بالبعد عن كل تشنج إيديولوجي، يعملان في السياق وكأنهما في نزهة يمرحان، وعندهما هذا الشغف الجميل بالحياة وقابلية الانفتاح، مع وطنية وعروبة متأصلة، فلم نكن نجد، نحن غير الاستقلاليين،أي حرج في معاشرتهما واكتسابهما صديقين،وهما يبذلان الود أضعافا،عندهما «عين الرضا عن كل عيب كليلة...» وعندنا جميعا أن:
كلانا غنيّ عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا
من خصائص السرد أن لا يسرد كل ما حدث وتجمّع في الذاكرة، خاصيتُه الأساس الانتقاءُ والنّخْلُ، ورسمُ الدال من الصور، المفيدُ في الدلالة، وهذا ما أحب أن أنهجه في عمر علاقة مع خاي العربي،نسيجٌ عجيب لا أستطيع أن أسميه إلى الآن، فلا أجرؤ أن أقول صديقي، ونحن لم نتعاشر بما يكفي من الوقت واختبار الدهر لكلينا في العلاقة، وهو أكبر من صاحب عابر،لأن ما يجمعنا كثير، ولأني أحس تجاهه، في العمق، بصداقة صامتة، مُجِلّة، مطبوعة بمودة لم تبل مع الأيام، صانها الرجل بما له من الكياسة والسلاسة وامتلاك روح الوئام. ثم أختصر، رغم أنه سابقٌ ومرتادُ آفاق، بأنه رفيق طريق شاق، وأننا وقد التحقنا بدربه زدنا له إكبارا وما ترانا إلا ببعض هذه الشمائل ترعرعنا، عشنا ونصمد، الحمد لله، في شمم الكبرياء. ولكي أختصر، فقد جمعتني به مناسبتان،هما محطتان يمكن اعتبارهما جَماع عناصر وأنساغ لتكوين علاقة ومعرفة إنسان، يتجاور فيها الشخصي بالمكون الموضوعي، ويتجاوزهما معا نحو القيمة التي تبرز منهما، وتُمسي دالةً بمفردها، وهذا ما ينبغي أن نبحث فيه داخلَ كل علاقة حقيقية، أي صميمها.
فقد التقينا، ونحن نتعارف بمسافة، من خلال جريدة «العلم» الغراء،عضوين في المكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب،الذي ترأسَه سنة1973 الكاتب الكبير الأستاذ عبد الكريم غلاب،بعد المؤتمر التاريخي لهذه المنظمة العتيدة يومئذ، المنعقد في ربيع السنة نفسها وسُمي بمؤتمر مدارس محمد الخامس، وعُدَّ علامة فارقة في مسلسل الصراع بين الثقافة الوطنية الديموقراطية، والجناح الممثل والموالي للسلطة المخزنية إذذاك،وحضره رموز وأعلام كبار من الجهتين، وأسفر عن فوز الأول باستحقاق تمثيل الكتاب والمثقفين المغاربة، في مرحلة عرفت بتقاطب حاد وصدامي بين القوى الوطنية والديموقراطية والقصر وأتباعه. انتخبنا معا عضوين في المكتب المركزي من أصل سبعة أعضاء، وبتنا نلتقي في اجتماعات متقطعة، وقد لمست فيه وقتها جديته المعهودة، وتوقيره لبقية الأعضاء، وخصوصا تجنبه المشاحنات، فقد كنا رغم فوزنا على خصوم»المدارس» بعيدين عن الانسجام التام،وهذه حكاية أخرى. يعنيني أنها محطة يظهر فيها السي العربي في موقع الأديب الكاتب، والمثقف الملتزم ضمن كتلة تتجاوز حزب الاستقلال، انتماؤه الأم والدائم، هي الكتلة الوطنية الشاملة بقيمها ومُثُلها الثابتة، تصب في مصلحة الوطن أولا وأخيرا. لم نتمكن وقتها من تحقيق كثير من مشاريعنا الثقافية بسبب الحصار المفروض على منظمتنا من نواح عدة، وبقينا متكافلين، والمساري في قلبنا إلى جانب السي عبد الكريم وعبد الجبار، يتنازل لهما في التمثيل أو ينوبان عنه، منصرفا حسب ظني أكثر إلى شؤون السياسة والصحافة، حظيا عنده دائما بشاغل قبلي.
أما المحطة المناسبة الثانية، فأجدها، رغم أنها عابرة، في ذهابنا معا إلى الجزائر لتمثيل المغرب في مؤتمر اتحاد الصحفيين العرب، سنة 1976 إن لم تخني الذاكرة،هو عن جريدة العلم، وشخصي المتواضع عن جريدة» المحرر». وما أزال أذكر أن وفدنا الثنائي شارك بحيوية وعراك في أعمال هذا المؤتمر الذي شغلت فيه قضية الصحراء المغربية أغلب أعماله وكواليسه، خاصة وأن القضية كانت يومئذ محطة نزاع حاد بين المغرب والجزائر. وأتذكر كيف كان خاي العربي يتنقل بين الوفود للحوار والإقناع، وفي القاعة للسجال ودفع مناورات الخصوم، وقد وقفنا سدا منيعا في المؤتمر ضد توصية تناصر جبهة البوليساريو الانفصالية، وتتحدث باسم الجمهورية الصحراوية المزعومة، ونجحنا في حذفها من البيان الختامي، رغم أن البلد المضيف عاد وزوّر البيان مبقيا على التوصية وهو ما أدنناه على رؤوس الأشهاد، في مقدمهم رئيس الاتحاد آنذاك المرحوم كامل زهيري. لقد كشفت لي هذه المناسبة وجه الإعلامي والمفاوض الكيس، والرجل اللبيب الذي يعرف كيف يحاور مخاطبيه ويكسب مناصرتهم، وينازل وقت المنازلة بشجاعة،حتى وهو يفضل الحوار،يعرف المشاركين واحدا واحدا، ومطلعٌ على ملفات المؤتمر التي انصبت على القضايا القومية الشائكة،زيادة على المطالب الديموقراطية والحريات والشؤون النقابية،كان محيطا بدقائقها وتفاصيلها، فانتخب نائبا للرئيس. وأذكر جيدا أنه لجم انفعالي، قد كنت في عنفوان الشباب، وذروة الحماس، وخلال المناقشات، ولما احتدم الخلاف حول التوصية المذكورة.
هي، لعمري، مواقف يتعلم فيها المرء ممن هم أكبر منه خبرة وتجربة، وجعلتني أقتنع من ذلك الوقت أن مهنة الصحافة تحتاج إلى جد ومثابرة،وهي ليست تخطيط مقالات وتحقيقات في الصحف، بل أيضا ثقافة ومسؤولية ووعي استراتيجي بشؤون الوطن والعالم ما أمكن، ناهيك عن الالتزام التام بمقتضياتها. غيْض من فيض ما ينبغي التذكير به في هذا المقام بشأن هذه المهنة التي، من أسف، تبور، ويتسلل إليها الفضوليون، من يحسبون أنها مثل سائر المهن للرزق والارتزاق والتزوير والتسفيه، وهي للتنوير وجدية الرسالة وحسن التبليغ، حسب أقدار المتكلمين ومقام القراء والمستمعين، وبناء على مواقفهم وانتمائهم،وهو عندنا،وفي ثقافة جيلنا،لا يمكن أن يكون إلا الانتماء الوطني، والقومي، بفروعه ولا بأس بتلاوينه، وهو الصلصال الذي منه جُبِل محمد العربي المساري، والمدرسة التي تكوّن فيها؛ فهو سليل المدرسة الوطنية السلفية العصرية التي ارتادها الزعيمان علال الفاسي وعبد الخالق الطريس، ورعيل آخر ممن تتلمذ عليهم الرجل، واقتنع بهم وعيا لا امتثالا لعقيدة حزبية، فضلا عن تكوينه المكتسب عبر السنين، في آفاق مختلفة، وأهّله لمناصب رفيعة.
إن مجمل هذه الخصال، وأخرى تبزُها، إذا كانت ُتعلي من قدر صاحبها، وسِجلُّه حافلٌ بها، وكفاءته تؤهله زيادة على ذلك،فإن توكيدها في هذا المقام قصده إثارة الانتباه لوضع القيم، ولمقاييس الاعتبار الثقافي والاجتماعي، بين ما كانا عليه وأمسيا، وحيث تسود اليوم نقائض وتتمكن شوائب، تُكدّر صورة الشخصية الثقافية والسياسية والإعلامية المغربية، وتكاد تنسي المرجعيات التي حضنت هذه الشخصية وتربت في كنفها، والخصال الأصيلة المشخصة لها. أجل، لم يتوقف التاريخ النضالي الوطني لبلادنا، ولم نعدم الأحرار، نساءً ورجالاً، والمغرب تَتابعُ فيه الأجيال على المحجّة البيضاء، أعطت البرهان لترسيخ مسيرته وتبييض سيرته، وما تزال في الميادين كافة، مما لا يمكن نكرانه بأي حال. بيد أن ما يستشري من فساد، ويزدهر فاحشا من أخلاقيات انتهازية، وتسويات ظرفية، ويستفحل تنطعا وهُراءً، ودجَلاً وسفسطةً وخرافةً وتلفيقاً في أكثر من مجال، منه الإعلام الذي يُعدّ الأستاذ محمد العربي المساري من أعمدته الراسخة في بلادنا والعالم العربي،وكلامُه مسموعٌ خارجهما، عاش ويواصل رسالته بثبات، مفعما بالنزعة الوطنية، مشبَعا بالروح النيرة، مكتسيا الشخصية العفيفة، مُفحِما بالتجربة المختمرة، وبصلابة الرأي، وقدرة التضحية عند الشدائد، والثبات في الخط، وتنزيه النفس عن الغرض، والتعالي عن المساومة، والإيمان بقيم الحرية والكلمة الصادقة والالتزام والإيمان؛ كل هذا يجعل من تذكر خاي العربي بتكريمه في هذا الوقت بالذات،درسا للجيل الحالي،المتعجل حينا،الناكر الغافل عن الأسلاف والرواد كثيرا، أن يقرأ سيرته بأناة، ويتعلم منها، فكم فيها من آيات وعِبَر. ولقد عملتَ وناضلتَ وأخلصتَ وعلّمتَ، وكم تعلمنا من وطنيتك، وخبرتكَ وجَلَدِك، والتذذنا بذلاقة لسانك، تنسّمنا من حديقة ابتسامتك، وسَعَة صدرك، ورقة مشاعرك تجاه كل جميل ومحبوب، مؤمن ومخلص لمبادئك، للإنسانية الحرة، للحياة، ومقبل عليها بحب،، وقد بلّغتَ، فاللهم اشهد.
*قدم هذا النص في مناسبة ندوة تكريم الأستاذ محمد العربي المساري، التي نظمها منتدى أصيلة في موسمه الصيفي الماضي، بحضور مشاركين من المغرب والخارج، باحثين وأدباء وإعلاميين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.