تحلّ الذكرى الثامنة والستون لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، بينما المغرب يدشن عهدًا جديدًا، تتعزَّز فيه المبادئ التي اشتملت عليها هذه الوثيقة التاريخية ، وتترسَّخ فيه قواعد دولة الحق والقانون والمؤسسات، في ظل ملكية دستورية تعبر عن الهوية الوطنية، وتؤكد الإرادة الشعبية في الحياة الحرة الكريمة، وفي إقامة الأسس الراسخة للمجتمع الديمقراطي التضامني المتطلع نحو المستقبل، من دون أن يفرط في ثوابته الوطنية وفي رصيده النضالي المتراكم الذي من أهمّ معالمه الذكرى التي تحلّ اليوم. لقد كان يوم الحادي عشر من يناير عام 1944، حلقة في سلسلة من الأيام التاريخية الفاصلة التي واجه فيها شعبنا جبروت الاستعمار وطغيان الاحتلال، بقوة إرادته، وبالتفافه حول العرش، وبانخراطه في العمل الوطني الذي كان يقود ركائبَه حزب الاستقلال الذي هو الوريث الشرعي لكتلة العمل الوطني، وللحزب الوطني، وللحركة الجهادية التحريرية التي عمت أنحاء المغرب بعد فرض نظام الحماية بقوة الإكراه والاستسلام للأمر الواقع في عام 1912. ولذلك كان الحدث التاريخي الذي فصل بين عهدئذ، والذي وقع في مثل هذا اليوم من عام 1944، نقطة تحوّل في المسيرة الوطنية نحو الحرية والاستقلال، تحمل كثيرًا من الدلالات العميقة التي يتعيَّن علينا أن نستلهمها في هذا اليوم، لتكون لنا زادًا معنويًا ومددًا روحيًا ومصدرًا للقوة الذاتية التي نتغلب بها على الصعاب الكثيرة التي تحف بنا، لرفع تحديات المرحلة الراهنة، ولمواجهة احتمالات المراحل المقبلة. إن الأمم العظيمة تحتفل بأمجادها التاريخية وتخلد ملاحمها الوطنية، لتستلهم منها الحكمة التاريخية البالغة التي تنير أمامها الطريق، ولتستمدّ منها قوة الروح والفكر لمواصلة مسيرتها نحو تحقيق الأهداف الوطنية المنشودة، ولتستخلص منها الدروس العظيمة التي لا يُستغنى عنها في معارك البناء والنماء على جميع الأصعدة. وتشتدُّ الحاجة إلى هذه الدروس الملهمة والعبر الموحية، كلما كانت المرحلة تتطلب مضاعفة الجهود وتضافرها على شتى المستويات، للتصدّي للتحديات الكبرى التي تعترض الطريق نحو تحقيق المصالح العليا للوطن والاستجابة للمطالب المشروعة للمواطنين. إنَّ المغرب الذي دخل مرحلة جدّ متطورة فتحت أمامه الآفاق الواسعة، يحيى اليوم هذه الذكرى الوطنية في جوّ من الانسجام والتناغم بين ماضي الأمجاد والملاحم والمعارك، وبين حاضر المهام والمسؤوليات والواجبات، في أفق مستقبل حافل بالاحتمالات والإرهاصات والتوقعات، ولكن بإرادة وطنية جماعية صلبة، وبوحدة وطنية شعبية متراصة، وبوعي رشيد، وفهم عميق، وإدراك سليم لمتطلبات المرحلة التي تتطلب مزيدًا من الجهد المنسَّق المحكَم، وفي إطار حكومة منسجمة ذات برنامج وطني يستجيب لمطالب الشعب الذي أعطى ثقته للحكومة التي عيَّنها جلالة الملك وفقًا للدستور. إنها مرحلة جديدة من العمل الوطني تدشن مع حلول الذكرى الثامنة والستين لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، التي تحمل دلالات وطنية عميقة، من تجلياتها أن حماية استقلال المغرب واستثماره والحفاظ عليه، في قوة نظامه الملكي، وفي رسوخ كيانه الوطني، وفي إقامة دولة الحق والقانون والمؤسسات، وفي التفاف الشعب حول جلالة الملك، وفي التجاوب الكامل مع القرارات الملكية السامية، وفي المقدمة منها تعيين الحكومة المغربية الجديدة في ظل دستور جديد، لتعطي مفهومًا عصريًا جديدًا لاستقلال المغرب الجديد.