مطر فوق الأطلس إلى مليكة ... ساحرةٌ في الدارِالبيضاءِ وفي الأندلس المفقود، افتضَّتْ ختم الشعر وقالت للطلسمِ العسليِّ بعينيْها أنتَ مُريدي فاخترني من بين ملكاتِ الأطلسِ مُلهمةً أمّي كانت كاهنةً تبحث عن ينبوعِ الحبِّ الضائع في الملكوت وأنا كنتُ أتابع رحلتها في الغيهب قال الملك الإشبيلي لها يوماً: هل ولِدتْ من كنتُ أقبّلُ عينيها وضفائرها وأنا في منفاي أموت كنتُ أراها نجماً يتألق رغم عماي أراها في أغمات تشير لقبري المجهول ... عبد الوهاب البياتي من المحتمل جداً أن تكون هذه القصيدة من أواخر القصائد التي كتبها عبد الوهاب البياتي قبل رحيله،كأنّه بذلك يسلِّم شعلة الشعر الحرّ الثوري التي كان يحملها بكلِّ اقتدار، إلى الشاعرة المغربية مليكة العاصمي، فقد جاءت خاتمة قصيدته هذه كما يأتي: حاملُ نار الشعر بكى قال: مليكةُ هذي تولد في الغيهب شاعرةً تُشعل ناراً في ليل الأندلس المفقود. وعنوان قصيدة البياتي « مطر فوق الأطلس» يشير إلى قصيدة « اسمي مطر « في ديوان مليكة العاصمي الأوّل « كتابات خارج أسوار العالم « الذي صدرت طبعته الأولى في بغداد سنة 1987، والذي ضمَّ عدداً من قصائدها التي كتبتها في الستينيّات حينما كان صوتها الشعري صوتاً رائداً في الأدب المغربي يهبه زخماً فكرياً متدفقاً وشحنةً وجدانيةً متميزة، ويضطلع بريادة الحداثة الشعرية في المغرب تماماً كما كانت أصوات نازك الملائكة وفدوى طوقان وملك عبد العزيز في المشرق. كان عِقد الستينيّات زمنَ الهزائم والانكسارات العربية التي استمرت في العقود التالية من السنوات، بسبب فساد الأنظمة الشمولية وقهرها لشعوبها المحرومة من التعلّم والتقدّم والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وقد حزّت هذه الأوضاع الاجتماعية البئيسة آنذاك في نفس الشاعرة المرهفة الإحساس التي نشأت في أسرة وطنية عريقة في العلم والأدب ومقاومة الحماية الفرنسية والتضحية، حتى أُصيبت الشاعرة بشيءٍ من الإحباط، فآلت على نفسها أن ترفع صوت الرفض عالياً ضدّ الفقر والجهل والمرض وأن تصوّر خارج أسوار هذا العالم التعيس عالماً جديداً على مقاس تطلعاتها وطموحاتها وأحلامها، حيث تُصان كرامة الإنسان وتُضمن حقوقه: قتامتي اكتسبتُها من الحياةِ القاتمةْ مِن جوع حارتي التي تعيشُ في الغُصصْ من الصغارِ البؤساءِ يَقتاتون بِ (المُخاطْ) قتامتي من دَكنَةِ الحياةِ في كهوف الفقراء في بلدتي من أدمُع ِ الأرملة التي بلا قمح ولا طاحونْ... من جهل بلدتي كيف تقود طِفلها التعِسْ... وفي هذا الوضع المأساوي، وفي نطاق اقتناع الشاعرة بضرورة تفاعل المثقف مع محيطه ومجتمعه، قررت أن تضطلع بدور رائد في إنهاض الجماهير، وأن تُنزل أمطار التوعية لتغسل أحزان المهمّشين ودموع البائسين، ولتبذر أزاهير الأمل في تربة الوطن، وتؤجج النضال من أجل إحقاق حقوق الإنسان وإحلال العدالة الاجتماعية. تقول في قصيدتها « اسمي مطر»: غيّرتُ اسمي منذ حينٍ حينما العواصفْ تقذِفُ الأغصانَ للأغصانِ، حينما الرياح تسوقُ من فوقِ المحيطِ كُتلةَ السُّحُبْ لتنزح الأحزان من فوق الزهورْ سمّيتُ نفسي كالمياه تُنظِّف الأغصان والشجرْ وتكنس الأدران في القلوبِ والثياب والحجرْ قَرَّرتُ أن أُدعى: « مطرْ». ومن هنا جاء عنوان قصيدة البياتي « مطرٌ فوق الأطلس». وعندما أدركتِ الشاعرة أنَّ الشعر وحده لا يكفي، استعانت بالنثر، فأسَّستْ جريدة «الاختيار»، وكتبت البحوث الاجتماعية، ومارست التعليم الجامعي، وأنشأت الجمعيات النسوية، وأطلقت المنظَّمات المدنية، وقادت المظاهرات الجماهيرية، وخاضت الانتخابات الجماعية والبرلمانية، وتعرضت للاعتقال والمحاكمات. هطلت الشاعرة مطراً غزيراً محمَّلاً بالعاطفة المتأجّجة والفِكر المقدام، كي تُدرك الجماهير « كيف نرفض أن تُداس إنسانيتنا. الكرامة قبل كل شيء . والكرامة لا تتحقَّق إلا بالرفض والثورة»، كما تقول في مقدّمة ديوانها المذكور. وطال انتظارها، وخاب أملها في المثقَّفين من حملة المشاعل ونافخي الأبواق وقارعي الطبول،ممن يتهافتون على الخنوع والركوع حتّى فقدوا إنسانيتهم، وأمسوا مطية للأسياد تحمل الأَوزار. فكتبت قصيدتها « الداء»: الداء ينتشرْ داء التحامرْ ينفثُهُ المريضُ في النهيق أعراضه: أن يتبلَّدَ الإحساسْ، ثمَّ تموتُ النظرةُ الحنونهْ، وتستطيلُ الآذانُ ، وينبتُ الشعرُ على الجلودْ، ثمُّ يصيرُ الشخصُ من فصيلةِ الحميرْ، يليق للركوب، يحمل أثقال السادة الكبارْ، يظلُّ خانعاً، وظهره مطيّةٌ للآخرينْ .. وإذا كانت الشاعرة قد شبهتهم بالحمير، وفي ذلك نوعٌ من المجاملة منها، لما عُرف به الحمار من صبرٍ وتحمّلٍ حتّى إننا نجد في العاصمة المصرية «جمعية الحمير»، يفتخر أعضاؤها من الأعلام بانتسابهم إليها، ولتكريم توفيق الحكيم للحمار بكتاب كامل « حماري قال لي»؛ فإنَّ الشاعر محمد مهدي الجواهري قد شبّه الجماهير الخانعة بالذباب والمِعزى والكلاب في قصيدته « أطبق دجى» حين قال: شكا خُمولَهمُ الذُّبابُ أطبقْ على مُتَبلِّدينَ لِفَرْطِ ما انحنَتِ الرقابُ لم يَعرِفوا لونَ السماءِ كما دِيسَ الترابُ ولفرطِ ما دِيسَتْ رؤوسهمُ بها على الجوعِ احتِلاب أطبقْ على المِعزى يُرادُ تَعافُ عيشتَها الكلابُ. أطبق على هذي المُسوخِ ( للمقال صلة).* * اعتمدنا على كتاب: مليكة العاصمي، الأعمال الشعرية الكاملة (الرباط: وزارة الثقافة، 2009)، وتقع هذه الأعمال في 640 صفحة من القطع الكبير، وتضمُّ خمسة من دواوينها: 1) كتابات خارج أسوار العالم، 1987 2) أصوات حنجرة ميتة، 1988 3) شيء... له أسماء، 1997 4) دماء الشمس وبورتريهات لأسماء مؤجَّلة، 2001 5) كتاب العصف، 2008 واقتصر مقالنا على دراسة جزءٍ من ديوانها الأوَّل.