إن الكتابة عن الشعر تحتاج لأكثر من مجداف وأكثر من رؤية، وتحتاج لكثير من المفاتيح التي تساعد الكاتب في الغوص وكشف أعماق القصيدة دون خلل في بنائيتها المتكاملة أو مسٍّ لحساسيِّتها المرهفة والتي تلعب دورا عظيما في التواصل مع الآخرين. لأن العمل الشعري في النهاية عمل متكامل متلاحم الأعضاء، والصعوبة تمكن أكثر عندما نتناول تجربة الأنثى الكاتبة، وهذا لا يعني التقليل من إبداعها وشخصها كجنس بشري أو إجحاف لحقّها الإبداعي، فالإبداع تميّز يرفرف فوق سماء الرجل والمرأة، ولكن تبقى الأنثى مُحاطة بعدّة أسوار، تحتاج لأدوات خاصة وبارعة ورؤية متأنية ناضجة حتى يقتحم الناقد أسوارها، فلها طبيعتها النفسيّة والجسدية التي تميزها عن الرجل، ولها قضاياها التي تخصّها، وتدفعها للاهتمام والتعبير عنها، والإبداع أكبر من هذه المعايير، ولذلك يكون الأمر صعبا عندما تتناول تجربة مبدع بعيد عنك، وربما يكون هذا البعد الجغرافيّ والمعرفيّ لصالح العمل، فتتعامل معه بتجرُّد وموضوعية، هذا يدفعك للبحث عن وسائل أخرى تغنيك عن التقرب منه، فلا تجد سوى إبداعه وقصائده، فهي الأقرب وفي داخلها مفاتيح عالمها الشعري. وبناء على هذا سنمضي في دراسة تجربة الشاعرة المغربية / حبيبة الصوفي /.. وسوف أتناول تجربتها معتمدا على ديوان / آدم الذي../و/ مرايا تعكس امرأة / والديوانان صدرا عام ألف وتسعمائة وثمانية وتسعين، وقد علمت من مقدمة ديوان / آدم الذي.. / أنها أصدرت ديوانها الأول / فوق الورق -1996 / ثم أتبعته ب / دمعة الجبل الحزين -1997 /. الديوانان يعكسان بجلاء موهبتها الشعريّة الناضجة، فهما حافلان بالشعر والشعرية التي تثيرها وتبعثها الحالة الشعرية واللحظة المتدفقة، هذه الحالة الشعرية يفتقدها الكثير من الشعر والشعراء بعد أن سيْطرت القصديّة والمذهبيّة وإقحام الرمز والأسطورة والتغريب و... و... الشاعرة تملك قدرة الإيحاء والتأثير والتعبير عن اللحظة الشعرية التي تنتابها، ويفسّر غزارة الإنتاج والانسيابية هذا الجانب، فالمبحر في الديوانين لا يجد عناءً في فهم الشعر والشاعرة، سيجد نفسه أمام شاعرة لا ينقصها شيء من أدوات الشعر الحقيقية، تملك أدواتِها الشعرية بمقدرة، فهناك لغة تُحسن نسجها وتوظيفها، ترقّ حين يستدعي الموقف، وتصخب وتجلجل في موقف آخر، وتقدِّم صورها الشعرية بعفوية ملامسة لوجداننا دون أن تجرحه ,وتخدشَ أذواقنا حتى وإن تضمّنت معاني قاسية حارة لدرجة الغليان كما في مساجلتها لنزار قباني وقصيدة / في الانتخاب / من ديوان / مرايا تعكس امرأة /. اللافت في الديوانين اعتزازُها بكل مَن كتب عنها، ودرسها، وقدم شيئا عن تجربتها، في ديوان / مرايا تعكس امرأة / مقدمة جميلة وغنية جاءت بعنوان / بوح الذات / للشاعر الفلسطيني طلعت سقيرق ولها معه مساجلات جميلة، ومما جاء في المقدمة : (( ربما تستطيع الشاعرة المغربية / حبيبة الصوفي / أن تغزل قمر الشعر بيد لتسقي كل حدائق الورد المعطر بامتداد الكلام الجميل الذي لا ينضب باليد الأخرى.. فإنني أقول إنها شاعرة سريعة التعبير والانفعال بالشعر وهي أقرب إلى شعر الطبع والبوح والتصوير البارع، وقد تكون من أكثر الشاعرات قدرة على تمثُّل الموقف وتحويله إلى حالة شعرية، ولأن الشعر يسرقها على الدوام ))ص6. وقد قدم الدكتور حسن جلاب أستاذ التعليم العالي بمراكش لديوان / آدم الذي.. / فيقول : ((وعلى العموم فإن ديوان / آدم الذي.. / للشاعرة المبدعة حبيبة الصوفي يعتبر إضافة جديدة في مجال الشعر المغربي المعاصر، وقد أبانت فيه عن تفوق في المجال الوجداني وتفتح على قضايا المجتمع الذي تعيش فيه بإثارة الانتباه إليها، مدافعة في ذلك كلّه عن المرأة المستضعفة المستهدفة وعن القيم الأخلاقية والروحية الخالدة))ص16. وقد تضمّن ديوان / مرايا تعكس امرأة / عدة دراسات نقدية موجزة تناولت تجربتها وبعناوين مختلفة / تراجيديا القهر / للأستاذ مصطفى غلمان، و/ البساطة والوضوح / لأبي يوسف طه، و/ النص والواقع / لمصطفى الطوبي، و/عودة بالبوح الشعري إلى فينومينولوجيا الرومانسية / لأحمد بلحاج آية وارهام، و/ القصيدة الفلسطينية والهم القومي / للدكتور عبد الكريم الداجوني، و/لغة الشعر / لعبد الواحد معروفي، وهي دراسات موجزة وغنية تتفاوت في التعامل مع النص الشعري، وتبرز هذه الدراساتُ الجانب الفنيَّ مع إبراز سموِّ المضامين التي تعبر عنها، رغم أنني أتحفظ لتواجدها بين القصائد، فقد تلعب دورَ المصادرة والإملاء والتمهيد.. فاحتواء الديوان لهذه المقالات جرأة من الشاعرة لأنها تقدِّم نفسها إبداعا ومنقودة على طبق واحد.. المساجلات الشعرية بين الشاعرة والشعراء والشاعرات من المغرب والأقطار العربية إحدى الجوانب البارزة واللافتة في تجربة الشاعرة، فبرزت ملَكَةُ الشاعرة وجرأتُها وقدرتها على المساجلات التي تحتاج لرؤية ونظم وإلمام بالموضوع وندّية على المستوى الفنّي، هذه المساجلات المتنوعة تضمّنها محور خاص بها في ديوان /آدم الذي../ ومن هذه المساجلات ردُّها على قصيدة الشاعر نزار قباني والتي وردت في ديوانه / هل تسمعين صهيل أحزاني 1991 / وبعنوان / 10 رسائل إلى سيدة في الأربعين /. / وأعرف أنك في الأربعين../ ستُقطَعُ عنك مياهُ المطر../ وأعرف أنك في آخر الشهر../ سوف تكونين ليلا بغير قمر../ص 22. هذا الموقف القاسي على نفسية المرأة والذي تعرّض له الشاعر بقسوة وسخرية وبتوصيف دقيق للحالة، دفع الشاعرة لتقابله بجرأة وسخريّة تضاهي جرأة نزار بل تتجاوزها لأنها أنثى تدخل عالم الرجال فتقول له : / وأنت الذي أنت في الأربعين../ سيصبح جمرُك بعضَ رماد / وينطفئ الدفء في راحتيك / ويصبح نصفُك شبه جماد../ وكل المدائن فيك سكوت / يعشِّش فيها خريف الحصاد / إلى أن تقول : / وإنّي في الأربعين / أزلزل دارا، وأشعل نارا، وأحدث أمرا /..ص25. هذه مساجلة من المساجلات التي تعطي انطباعا عن جرأة الشاعرة وتمكُّنها من أدواتِها الشعرية، وقد فتحت قصيدة نزار مساجلة بينها وبين الشاعر ( طلعت سقيرق) فيقول في قصيدته / إذا وصلْت ُإلى الأربعين / : / لعينيك يا أروع الأغنيات أغني / لعينيك يا رقصة الوجد عطرا ونورا / أصوغ جميع قصائدِ عمري / وأفرط عند يديك شرودا وعشقا../ إذا ما وصلتِ إلى الأربعين / تصيرين أحلى / يزغرد فيك ربيع السنين / عصافيرَ عشق / عناقيدَ نار همسا وفلا / يصير الجمال الذي كان طفلا / من الحلو أحلى.. /ص27. فالشاعر يأخذ الجانب المشرق من هذا العمر وهي نظرة واقعية فيها الكثير من الجمال والإنسانية، فترد عليه الشاعرة في قصيدة / وإنك في الأربعين / : / وإنك في الأربعين / تزيد نقاء وطُهْرَ اليقين / كظلِّ النبيّين والمرسلين / لأنك جزءُ حياتي / وقدّاسُ عمري وكنزي الثمين / أصلّي لأجلك في كل حين / لتبقى لعمريَ حصني الحصين / ص29. في هذه المساجلات يتفتّق الخيال وتنطلق بناتُ الأفكار، لتشكل حالة من حالات تلاقح الأفكار، فأراها غنية بالخبرة والرؤى والرؤية والتوظيف الإنساني الشفاف لحالات إنسانية تنتاب الإنسان وتقتحم أعماقه.. ومن مساجلات الشاعرة مساجلاتٌ جرت مع الشاعر المغربي / أحمد بلحاج آية وارهام / في قصيدته / سيّجتَ روحي أيها الأشر / وجاءت على لسان امرأة : ظللْتُ في شرفة الآمال أنتظر علّ الذي في الحشا ينأى وينحسر سيّجْتَ روحي بريح الشك فانفطرت آمالُها كخريفٍ خانه المطر أبحرْ إلى لهب اللذات منشرحا لن تسفح العينُ دمعا أيها الأشرُ فترد الشاعرة عليه وبصوتها الأنثوي : كفّ الجراح، فأنت الروح والنظر ولن أقول بتاتا.. إنك الأشر ألحقتَ بي أملا، جرَّعْتني سقما ثمّ انسحبتَ تجرُّ الذيل تفتخر أنت الرحى بحصاد الشك تطحنُني كنتُ الضحيةَ أنت الكفُّ والحجرُ يا منْ يعبّد بالآلام أرصفتي كم جئْتَ بابي بعد الغدرِ تعتذر وهذه المساجلات تستحقُّ دراسة خاصة لما لها من دفء وتميُّز وشجاعة، ولكونها تكشف قناعات الشاعرة في الحياة والرجل والمرأة وما دار حولهم، فهي مناصرة للمرأة ولقضاياها الإنسانية الحسّاسة، فلا تلتفتُ إلى الخاصِّ وتحصره بهمومها ونفسها ,بل نراها توسِّع هذا الخاص ليشمل القضايا العامة وبشكل بارز وهي نقطة مضيئة في تجربة الشاعرة، وقد يسأل سائل : هل من الضروري أن تنعكس تجربةُ الشاعر على شعره ؟.. وهل من الضروري أن ينسجم صوتُ الأنثى مع صوت الأنثى الشاعرة ؟..، في الآداب والإبداع لا توجد قواعدُ صارمةٌ وأنظمة محكمة، فدراسته حالة من الاجتهاد, أو كتابة جديدة للنص. ولكن غالبا ما نجد ذلك في الشعر والقصة والرسم... فالتجربة الذاتية في النهاية تجربة إنسانية شاملة. فلا غرابة أن ينعكس ذلك في الإبداع، وأجمل هذا الانعكاس إن جاء عفويّا بعيدا عن الاستغراق بالذات.. فالشاعرة عن قرب تناولت الكثير من القضايا الاجتماعية الممتدّة على مساحات واسعة من حياتنا الملأى بالصخب والقلق والفاقة والشتات، فعبَّرت عن معاناة الموظف وعن عقوق الوالدين والشك والعقم إضافة إلى البوح القومي الحار.. في قصيدة / أنا الذي../ الواردة في ديوانها ( آدم الذي.. ) تقدم جانبا من جوانب الموظَّف البائسة وبلغة سردية قصصية بسيطة، ولكنها باعثة في النفس عميق الأثر : / وأنا الذي../ يحكي نهاية عشقه، حصد الهوى وجنا النّبق../ الشوق يركب جثتي / ويهز أعماقي بأطياف الألق../ و وجدتها..! / و وجدت حلمي في حياها نطق/و.. ثم تقول على لسانه : / وأنا الذي يسعى لبنْتكم المصونة ِللحلال والوصال / عندي الشهادة، والشهامة، والوظيفة، والخصال / والترقيات مرشَّح لنوالها / ولسوف يُنظَر في الرواتب، إنه أمل وحلم ما يزال / نظر الأب – المزهوُّ – يرشق خلقتي كبرا نطق : / لا تنس مركز أسرتي / لا تنس قيمة إبنتي..!/ ومكانتي..!/ فالحقُّ حق../ص61. إلى نهاية القصيدة الدرامية بأحداثها وخاتمتها والتي تملك أدوات القصِّ من حدث وحوار وشخصيات وحبكة.. وهذا المضمون مطروق ومتداول على عدة مستويات إبداعية في القصة والمسرحية والسينما.. ولكن يبقى التميُّز في المعالجة والإبداع الجدير بالتألق. ويؤخذ على القصيدة تكلف الشاعرة لرويِّ القاف رغم الحرية المتاحة لها في قصيدة التفعيلة التي تمنح الشاعر حريَّة التلوين، وكيف لا تقدِّم الشاعرة تلك اللوحات الأسرية ؟.. وهي التي تخالط المجتمع وتعايشه عن قرب في ممارسة مهنة التدريس، وهل هناك أقسى من العقوق والتمرُّد؟.. تتركنا الشاعرة مع قصيدتها التي تبوح بعفويّة ومرارة على لسان امرأة وبعنوان / العاق / وهي من القصائد المعبرة والتي تترك مساحة عريضة وعميقة من الأثر في النفس ولمدة طويلة تجعلك تستشهد بها : سعدْتُ بحملِك فوق احتمالي برغم العناء وداء عضال فكم عذّبتْني الليالي بحملي وكم من شجون وكم من هزال وأوجاع وضْع وآلام عسر وثقل الهموم يعانق حالي نهلْت من الفيض كلّ رحيق فخذ باليمين وخذ بالشمال وعانيْتُ فقر احتياجي وذلّي وظلمَ الزمان وذلَّ السؤال لترتاح أنت, وتكبر علما لتبلغ أنت شموخ الرجال تربَّعْتَ في منصب تتباهى وكان بكدّي ودأبِ اشتغالي ظننْت ُبأنَّ المواجع خفّت وآن الأوانُ لجني الغلال تبرَّأْت منّي عقوقا وكبرا قطعْتَ بهجرك حبل وصالي لقد رفع الله قدْري ووصّى وبالوالدين الرّضى المتوالي فكيف عصيتَ لربّك أمرا وأنت تدين لربّ الجلال ؟. هذه لقطة بارعة ولحالة شعرية متدفقة بالمشاعر مصحوبة بمرارة الخيبة، وقد صاغتها الشاعرة بعفوية متناهية فجاءت لتلامس شغاف قلوبنا، ولا يمكن لها أن تؤثِّر بنا إلا بهذا الأسلوب الرقيق العذب الذي يتدفّق بحرقة وألم، فما أن تقرأ هذه القصيدة ومن قبلها قصيدة / أنا الذي../ وغيرها حتى تخرج بأحكام نقديّة تصبُّ في صالح الشعر الذي يبحث قرّاؤه الحقيقيّون عن معنى سامٍ وجميل تُؤْنسه لغة مشرقة ومعبرة.. في شعر حبيبة الصوفي صيحات نقد لاذعة، وبوح إنسانيٌّ يتجاوز ذاتها ليعانق ذات الآخرين، وبسرعة متناهية تجعلك تتعاطف مع موضوعاتها، فأمامنا صورة الزوج البائس الذي لا يستطيع أن يتجاوز أزمة فقره : ( الزوج الذي..! ) أريد اليوم أن أحكي لكمْ ما كان يلقاني بفقرٍ عاشه عمري سما بالصبر وجْداني ولكن زوجتي صاحت : زمانُ القهر أعياني وثارت: لم أعد أقوى على فقر وحرمان وجاء الردُّ من جرحي : معاشي قدْرُ إمكاني ومهما ضاقت الدنيا فلن يهتزّ إيماني ص70 تؤكد الشاعرة في هذه القصيدة مقدرتها على توظيف الحالة وصياغتها بأسلوب بسيط ولكنه متوهج بإيقاعه وتصاعد الحالة النفسية، وهذا نهج لا يستطيع عليه إلا القليل من الشعراء الذين يملكون الموهبة ويدعمونها بالحرفة، فالشاعرة لا تلتزم شكلا شعريا محدّدا، فهي تنوع بين العمودي التام والمجزوء وبين التفعيلة وتنوع في قصائدها التي تتراوح بين القصر والتوسط والتي تنسجها على حدث وتنهيها بقفلة قاسية ولكنا نيّرة وساطعة للمدى، وهذا ما يفسر تجاوب الشاعرة مع حالتها التي تقبض عليها بهدوء وثقة، ولا تكدّ ذهنها في ملاحقتها والجري وراءها، ويقرّب هذا الحكم إلينا مقطوعتها / عند اللقاء / وهنّ عرفنني عَلَناً لأني عرفت باسمه بين النساء وبين أضالعي ناقوس حبٍّ يرنّ لسيدي عند اللقاء ص92 ومن القضايا الإنسانية القريبة من معاناة المرأة ظاهرة الشك ّبعقم المرأة والتي يعيشها الرجل دون علم منه بأنه السبب، فتأخذنا الشاعرة إلى هذا المناخ النفسي القلق والمعبأ بالخوف والضعف : زوجي بدا يتوعّدُ بالبين صار يهدِّدُ للعقم ثار يلومني يا ليته لا يحقد مالي يد ٌفي محنتي واللهُ وحده يشهد كلُّ الدروب سلكتها فالعقم عارٌ أسود والنسلُ عنده سنّة محمودة تتجدّد والإبن شرط لازم..! والعيش دونه يفسد وتزوّج الأخرى التي تحيا ببيتي وترقد ومضى الزمان، ولم تلد فالعيب فيه مؤكد وأنا الولود وعندها حلمي غدا يتجسّد ص72 وللقضية الفلسطينية التي هي قضية العرب نصيب وافر وهذا ما جعل الدكتور عبد الكريم الداجوني يقول في شعرها القومي : (( يمكن القول هنا أن الشاعرة المغربية حبيبة الصوفي في تماهيها مع الفعل الفلسطيني من خلال عدة قصائد، تحاول أن تضع بصمة فاعلة ومؤثرة في قصيدتها القومية حين لا تبتعد أي ابتعاد عن الغناء الثر لفلسطين، وهي في هذا البناء المتلاحق لقصيدة فلسطينية تحاول أحيانا أن تقارب القصيدة الفلسطينية ))ص66/مرايا تعكس امرأة/ فالشاعرة توزِّع حبّها ومشاعرها على كل ما هو إنسانيّ وطنيّ قوميّ، وتحسن التعبير بلسان المرأة، وتقدر على تمثل الحالة الخاصة بالمرأة، وهذا دليل على أن الأدب النسوي بشكل عام له خصوصيّتُه ومجالاتُه التي يصعب على الرجل اقتحامها والخوض فيها أو النجاح فيها، فها هي تتكلم باسم أم الشهيد وقد أهدَت ْقصيدتها إلى كل أم فلسطينية مع حبي : إنني أم الشهيد / ص67 فتذكر فيها : / وتركْتني../ أطوف على صدر المدينة / بدم.. وزيت / لونا ًبكيت / شكلا عديم الطعم ميت / كبدا دفينة / شيء يصارع قامتي../ لا أنحني../ قدَّمْت قرباني الثمين / للأرض.. مرفوع الجبين / في موكب الفرح الحزين / سأقدّمُ القربان من حين / لحين / روحا حميمة / من أجل أن تحيا فلسطين / العظيمة./ وتركتني أمّا لآلاف / الشباب / حتى الحجارة والتراب / الكل أقسم للأبد / كلُّ النساء.. أو الرجال../ أو الولد../ فتعدَّدت ْأسماؤهم لكنهم / الكل – واحد – في العدد /. ( مرايا تعكس امرأة ) ص67. وينمو لديها الحسُّ القومي الثوري، فتتدفّق مشاعرُها قوية في قصيدة ( سأصنع يوم النشور ) الواردة في ديوان (مرايا تعكس امرأة) فالعنوان يرسم ملامح الغضب ويعطي فسحة من الأمل والتفاؤل : / وما عاد للقول عندي كلام / فإنّي َنسر يَزودُ على أرضه لا ينام / ولن أتحوّل يوما فراشا / ويوما غرابا، ويوما حمام / فمن جبهة الأفْق أعلن أني : / أعاني من الجرح كلّ الجراح / فهل تدركون أنين النسور ؟./ يهزُّ السماء، يهزُّ الجبال، يهزّ البيوت، يهز القصور /. يهز من الأرض صدر المساجد / صدر الكنائس.. صدر القبور / يزلزل بالعُرْب قلب العدو / كل المجالس، كل الصدور / ص71. إننا أمام جملة شعرية موحية بدلالتها وقوية بوقعها على النفس التي استسلمت للراحة والنوم، فالشاعرة تتسلح بالثورة والتحريض والتفاؤل ولكنها تملك حاسة التأثير بالآخرين والتقاط الموقف المناسب، في قصيدة ( في الانتخاب ) من ديوان ( مرايا تعكس امرأة ) تُكثِر الشاعرة من تقديم الصور العارية والمواقف التي تعرِّي المجتمع والواقع الاجتماعي والسياسيَّ الفاسد، فتعرِّي التجّارَ بأصوات الناس والمختفين وراء المصالح الخاصة والمتاجرين بأمنيات البسطاء : / صُورٌ تهزُّ القلب تمنحه اكتئاب / يا موسم الأسماء – للمترشح – الشهم السحاب / هذا يقول بأنه – سبع الوغى -/ ذاك يلوك الشَّْدْق يذكر أنَّه / - الرجل الصواب / والآخر – المزهوُّ – يقسم أنه خير الممثِّل للشريعة والكتاب/.. إلى أن تقول : / فاز – المرشح – واختفى / عن حيّنا - / بدرا أضاء لحاجة / لمّا قضاها وانتهى / حتما توارى أسدل الآن الستور/ خابت ْأماني الكلّ / ضاع الحلم بالقلب الكسير / إلا القليل من الرجال الأوفياء لوعدهم / فخرِ البلاد – وعزَّة الوطن الكبير / فالصدق كان ركابَهم / والاستجابة.. والضمير / ص92. ربما يقول قائل : في النصوص نثرية مباشرة، وهذا صحيح وواضح ,ولكن هذه المباشرة ترتدي ثوبا فنيا، وهذه النثريّة لقربها من حياتنا اليومية، وما ذُكِر يُعتبَر أسلوبا تنحو به الشاعرة للتعبير، ويعتبر سمةً من عالمها الشعري الغني، وهذا اللون الانفعالي والموجَّه إلى فئات الشعب، يحتاج لمثل هذا الأسلوب، فالشاعرة لا يهمّها أن تكتب للنخبة وهذا استنتاج من قراءتي للديوانين وليس نتيجة تصريح منها، فالأدب رسالة والأديب خير حامل لها. فقال مصطفى غلمان : (( إن شعر حبيبة الصوفي لم يكتفِ بالصنعة اللغويّة لتتولّى عنه كل شيء، ولم يضطهد فكرة بعينها، ولا راح يجوب مطاف الأسطورة والخيال الفج ِّالبديء على حساب الواقع الحادث, بل شعرٌ مرصوص البنيان، أصيل الوجدان..)) ص13 (مرايا تعكس امرأة) هذه العفويّة والبساطة وهذا الوضوح يُغنينا عن البحث في الحداثة والتجديد والجري وراء تكلُّف الجديد النافر والجارح للحواس، ومن المؤكد أن الشاعرة لا تشغل بالها بهذه القضايا، ولا يُقلقُها شيء ٌسوى هذا الهمِّ العام والقضايا المصيرية، فتؤدّي رسالتها على أكمل وجه بعيدة ًعن الضوضاء ,وقريبةً من الواقع والبوح والشعر، فأنت أمام شاعرة تسلِّمك القصيدة مع مفاتيحها ,ولكنها تترك في قصيدتها أشياء تحتاج لوقفة رغم أنها تبدو جليّة ومفهومة، فأسلوبُها من السهل الممتنع ,وتذكِّرنا بأسلوب البحتري وأبي العتاهية ونزار قباني، وليست نسخةً عن أحد بل هي نسيج موهبتها وثقافتها، فتراها مستقلّة بشخصيّتها وهذا ما نبحث عنه في وقتنا الراهن، بعد أن ذاب الفن والإبداع وكاد ينصهر بالمقولات والإيديولوجيا والمذاهب والردَّة عن أسلوبنا لعربي الرصين.. وأترك هذا المقطع من قصيدة / غَيْرة / في خاتمة الدراسة لتكون مسك الختام وفاتحة التفكير في شعرها :
/ أدينُ لحبِّكَ بالورد / بالشوك، بالشعر، بالبرحاء / وبالأمنيات تغازل عشقي / ومن لهفتي أنجمٌ وفضاء / وإنّ اعتراف النساء تنازلهنَّ / عن الكبرياء / أحبّك جدا، يجوع فؤادي إليك / ويظمأ للحب في راحتيك / وها قد جعلتُه يكره حبا / يصادر نبضي عذابا عناء../ أشمُّ – روائحَ – حبٍّ جديد بأفقك شعرا / وفي نغمٍ مخمليِّ النداء / فلا تجعلنّي يموت اصطباري / ولا تدفعنّي لحبٍّ جديد / يعبّد أرصفتي بالوفاء / بروضة شعر.. وجدول ماء / فصبري قليل / ولستَ نهاية هذا الوجود / ولستَ الإله الذي يرزق الحبّ حين يشاء.. ص23(مرايا تعكس امرأة).