إنَّ الكتابة عن شخص تعرفه فيها الكثير من المزالق و المخاطر التي يقع فيها الكتَّاب. و فيها الكثير من الفائدة أيضاً. و قد يتساءل المرءُ كيف يكون هذا ؟ في المزالق و المخاطر تكون الأهواء و العواطف و المعرفة المسبقة سبباً مباشراً لإطلاق أحكامٍ جاهزة لا يجد الكاتب صعوبة في صياغتها و تقديمها للآخرين دون كدٍّ ذهنيٍّ في قراءتها فنياً و تحليلها لتكون أقرب إلى الانطباعية العاطفية و ربما الإخوانية. هذا جانبٌ و أمَّا الجانب الآخر فقد تفيدك و تقدّم لك المعرفة الكثيرة ممَّا يفيد و يوضّح على عدّة مستويات معرفية،فتكون بذلك مساعدة على قبض المفاتيح. تلك المفاتيح التي تهيّئ للولوج إلى أعماق الأديب و نصوصه،شريطة أنْ يحسن استخدام أدواته النقدية و المعرفية و أن يحسن ضبط مشاعره.لأنّه أدرى بمعرفة طباع الأديب و ظروفه و مزاجيته و هذا ما يساعد على الاقتراب من حَرَمِ الإبداع. و إجراء المقاربة و المقارنة بين عالمه الإبداعي و عالمه الشخصي، و في هذه مغامرة خطيرة لأنَّ المعرفة الشخصية قد تضعف حالة الاقتراب و التعمق من أدب المبدع عن طريق إبداعه لا شخصه و هذه نقطة هامة و جديرة بالاهتمام. و أجزم بأنّها ضرورية و ذات قدرة على كشف المجهول في عالم المبدع المدروس تحليلاً و فكراً و ميولاً. هذه المقدمة القصيرة و التي أراها هامة و حسّاسة، و تصلح لموضوع يخصُّها و لندوات تتناولها توصيفاً و تحليلاً بما لها و ما عليها مع نماذج تطبيقية. بعد استفحال ظاهرة الكتابة عن المقرَّبين و لهم بعيداً عن الموضوعية و المنهجية، مع ذلك يجد المرءُ نفسه أمام مواقف تستدعيه إنصافَ و إكرامَ من يحترمهم و يعرفهم، و يجد فيهم ما يُقال و يفيد. فيتنامى لديه الإحساسُ بالمسؤولية،فيدفعه الواجبُ الذي يملي عليه رغبته، و ربمَّا يوخزه كيلا يقصِّر تجاههم و هنا تكمن الصعوبة و المهمّة المستحيلة التي تجعل الكاتب بين نارين.فعليه أن يوازن و أن ينصف و أن يكون قاضياً و يبقى صديقاً و كاتباً و يقيني انَّ المعادلة صعبة و قلّة من أجادوا بها و هم متسلِّحون بالنظرة الموضوعية و اليقظة الواعية. إنّي لأجِدُ نفسي كاتباً عن شخص أعرفه و أعتزُّ به و بعلاقتي معه.فمعرفتي الشخصية عمرها سنوات معدودة و لكنّها تعمَّقت أواصرها و كأنّها من الأزل.فتمتدُّ بعمقها و حرارتها إلى عالم أوسع و سنوات أطول. و كأنَّني أعرفه منذ ولدنا. الأديب يوسف طباخ طفلٌ صغيرٌ بقلبه و حبِّه و علاقاته رغم دخوله العقد السادس،فهو من مواليد حلب عام ألف و تسعمئة و خمسة و أربعين. عاش في حيٍّ شعبيٍّ بكلِّ ما تعنيه الكلمة و ما يحتويه الحيُّ من عادات و تقاليد و أعراف و تناقض و هو حيٌّ يجاور حلب القديمة و أسواقها.إن جالَسْتَهُ أو قرأته تجدُ نبض الأزقة و حميمية عشق الحجارة و البيوت في حديثه و طباعه و صياغته.سنوات الغربة التي ما زال يعيشها منذ ثلاثين عاماً تحضر في مسارِ حياته و دروب إبداعه.فاتِّساع المسافة و امتداد الزمن زاده تعلُّقاً بالمدينة التي أحبَّها لدرجة العشق و الهيام. و يفسِّرُ ذلك كتاباتُه من ناحية و علاقاته الوطيدة و المنوَّعة مع الكثير من أدباء حلب على مختلف ميولهم و إبداعاتهم.فالبعد عن الوطن لم يكن إلاَّ جسداً و لفترات لأنَّه يزور حلب و يقيم فيها في الصيف و الشتاء لأيّام يراها من أجمل الأّيام رغم سحرِ السويد و رقيِّها و رغم الراحة المعدَّةِ له في مجال العمل.فهو يمارسُ حياته العملية كمختصٍّ بالعلاج النفسي و لسنوات طويلة و هو الآن مستشار في هذا الاختصاص الذي حظي به دراسة و اختصاصاً و خبرة من عدّة جامعات.فقد درس علم العلاج النفسي الاجتماعي في (( استوكهولم )) و من ثمَّ تخصَّص في أمريكا و لندن بالعلاج النفسي الأسروي. و يضاف إلى ذلك حملُه إجازة ليسانس في الفلسفة من (( استوكهولم )) و الماجستير منها أيضاً. هذا الاختصاص الدقيق العميق و الصعب و هذه التجربة الطويلة المعجونةُ بقسوة الغربة و هذه النشأة السحرية في حلب تشكل مخزونه المعرفيَّ على مستوى العلاقات العامة و الإبداع و النضج الفكري.و هي مبعث إيحاء و صراع في الإبداع و هذا ما يلمحه القارئ لكتاباته. أُقِرُّ بأنَّني تردَّدتُ بالاقتراب من إبداعه درساً و تحليلاً. و عندما حاولتُ غَيْرَ مرَّة كنتُ أتصوَّر ألغاماً ستقف أمامي.حاولتُ كثيراً تجاوزها و عَصَتْني الكتابة، و هربت منِّي مفاتيحها. و كنت أتهرَّب أحياناً مع إحساسٍ بالتقصير و الندم و في لحظة ما وجدْتُ نفسي محاصراً و لكن في حدود المعرفة و المحبّة و الموضوعية سأتناوله. أحبَبْتُ في الأديب يوسف طباخ حبَّهُ لحلب و لأصدقائه، و أحبَبْتُ فيه عفويته الشخصية و الإبداعية و هي عفوية لا يبدو عليها الضعف و الاستكانة، و هي عفوية مُصانة و مُسَيَّجة بوقار اختصاصه و تجربته و حبِّه فتراه يحسن التحكم بإيقاعِ سيرِ حديثه و قصصه و يحسن إدارة دفّةِ الحوار على مستوى الجلسات و هو ذو حسٍّ مرهف يخفيه و يتحكَّمُ بإيقاعهِ. و لا غرابة في ذلك.فهو باحثٌ و دارسٌ في قوانين علم المناظرة. ثلاثون عاماً من الغربة قد تقطع الإنسان من جذوره و عن جذوره و لكنَّني وجدْتُ في (( يوسف طباخ )) الحرصَ على التمسُّكِ بهذه الجذور فكأنَّه شجرة برِّيّة ازدادَ تشبثُها بالأرض مع شدَّة الأنواء و يذكِّرني بالفنان المبدع ((سامي برهان )) الذي تنقَّل و عاش في بلاد الغرب رسَّاماً و فنّاناً و محاضراً و باحثاً و لكنَّه يأسرك بثقافته العربية الناضجة و الواعية فمثل هؤلاء بحاجة لمن يجري معهم الحوارات و يقيم الندوات ليقدِّموا خلاصة تجربتهم الغنية بالنافع المثمر... الأديب يوسف طباخ أديبٌ له حضورُه الأدبي و الإبداعي في وطنه الأمِّ و في المهجر و هذه نقطة مشعَّة و جديرة بالتوقُّف لأنَّه يؤدِّي دور الوسيط بين ثقافتين يتقن لغتهما إتقاناً بليغاً.فهو عضو في اتحاد الكتاب السويديين و عضو في اتحاد الكتاب المغتربين في مركز الكتاب السويديين. و في الوطن الأم هو عضو في اتحاد الكتاب العرب و عضو في نادي التمثيل العربي / حلب /. و له مشاركات في عدَّة منابر ثقافية / في جامعة حلب و جمعية العاديات،و اتحاد الكتاب و نادي التمثيل العربي../. هذا التعريف يكشف مدى تفاعله مع الحرف و لغة الضادِ و تحسب عليه و لصالحه تلك الجسور التي بسطها و نصبها بين جامعة حلب و جامعة ستوكهولم عن طريق تهيئة و إقامة لقاءات متبادلة بين وفودِ كلِّ منهما.و قد أحضر معه وفداً من المغتربين العرب المقيمين في السويد.فزاروا الوطن و حضروا المحاضرات و تعرَّفوا على معالم الوطن فتواصلوا مع الأدباء الدكاترة و في حلب و دمشق و هذا مكسبٌ و إنجازٌ شخصيٌّ له،ينمُّ عن إحساس و مسؤولية قومية تختلج في جوانحه.و توطيداً لهذه الأواصرِ أحضر معه الكاتب السويدي المعروف (( نيكلس رودمستردم )) و حاضر في المثقفين و تحدَّث عن تجربته و حبِّه لأبي العلاء المعرِّي الذي زار ضريحه و قال فيه قصيدة بليغة و موحية.و هذا الأديب السويدي ترجم يوسف طباخ أعماله إلى العربية.. فترجم رواية (( القمر لا يعرف )) و هي رواية ذات عمق نفسي و اجتماعي و تقترب من مناخات المجتمع الأوروبي الذي يعاني الفراغ الأسري،و تبرز العلاقات الأسرية و خطورة الانفصال و الابتعاد و ممَّا قاله الناقد (( نضال الصالح )) في هذه الرواية و على غلافها الأخير : (( يصوغ الروائي السويدي " نيكلس رودستروم " في هذه الرواية عالماً فيَّاضاً بالرهيف تماماً من قاع الروح.و يرتدُّ بنا إلى سنوات الطفولة الأولى مكوِّناً الأشياء بإيقاع سيمفوني يستغور نبضها كما يفعل ذلك بخصائصها المادية"القمر لا يعرف " واحدة من أكثر النتاج الروائي العالمي الذي يحفر حضوره في الذاكرة و الذي يُطَوِّحُ بإنجازات هذا النتاج،و يعيد تشكيلها من جديد عبر بنى و تقنيات سردية حداثية تفتِّتُ الزمن لتنتج زمنها الخاص.تقول ما بدَّده الوقت على غفلة منَّا،لكنَّها تكنِّي عنه،تهجس بالأجناس الإبداعية جميعها لتبدعَ نصَّها المغاير )) الكلام للناقد نضال الصالح فيه الكثير من التكثيف و العمق و الملامسة،و إضافة لهذا أقول: إنَّ الرواية هُيِّئ لها مترجمٌ مُلِمٌ باللغتين و بشكل جيد و يملك من القدرة الإبداعية لأنّه روائيٌّ و قاصٌّ قبل أن يكون مترجماً فلابدَّ أن يضفي عليها شيئاً من وعيه اللغوي و الأدبي.و هذا ما ساعدَنا على التجاوب معها.ففيها من عبق الشرق أسلوبُها الرشيق و من الغرب أفكارُها التي أحسنَ تقديمها. لم يكتفِ الأديب يوسف طباخ بترجمة الرواية السابقة بل ترجم رواية ثانية للروائي نفسِه (( بينما الزمن يفكر في أمور أخرى)) و ممَّا جاء في توطئة الكاتب المترجم:و بعنوان " إلى القارئ " (( دوَّنْتُ خلال ما ينوف على السنة و أنا أترجم هذه الرواية خواطر حضرتني،كما سجَّلت ملاحظات قصدْتُ آنذاك أن تتضمَّنَها مُطَوَّلة لبعض ما أَسَرَ فكري الذي حسبْته يتحرَّرُ أحياناً بانشغال في أعمالٍ أدبيَّة أخرى غير الترجمة،أمَّا غايتي فقد كان من جملتها أن أبين ما حوته الرواية من ريادة أدبية معاصرة استحقَّ مؤلِّفها " نيكلس رودستروم " جائزة " أوغست ستريندبرغ " و هذا يدلُّنا على حسنِ اختيار المترجم الذي بدا منهمكاً في أعمالٍ إبداعية أخرى.و ممَّا جاء على الغلاف الأخير و قد دوَّنه الكاتب محمد كرزون : (( عندما يترجم يوسف طباخ نصَّاً فإنَّه يستحضر ثقافة اللغتين معاً.و لأنَّه قد أوتي حظّاً وافراً من كلتا الثقافتين،فإنّك سرعان ما تدرك أنّه لم ينقل النصَّ نقلاً و حسب.بل أضاف على النصِّ نكهة اللغة المنقول إليها،دون أن يغمط اللغة الأصلية حقَّها، و بالمحصلة فهو يضيف على النص بَدَلَ أنْ يجتزِئَهُ،و تلك ميزة نادرة في الترجمة إلى العربية..و لكن الميّزة الأهم هي اختيار النصّ،لم يشأ يوسف طباخ أن يختار لنا نصّاً يلائم هوانا و نمطَ حياتنا و سلوكنا و يترجمه إلى العربية بل اختار ترجمة تحمل خصائص و هويّة الحضارة التي ينتمي إليها،و لذلك فإنَّه يغني المكتبة العربية بدل أن يضيف إليها نصّاً له أكثر من شبيه فيها،و بالتالي فإنَّه يغني الحصيلة المعرفية للقارئ العربي )) هذه الأحكام و هذا التحليل الذي سطّرَه " محمد كرزون " بدقة و عناية فيه الكثير ممَّا يقال عن الترجمة و دورها.فاختيار النص و جدَّتُهُ و طرافته و غناه أمرٌ بالغ الأهمية و إتقان اللغة بكلِّ جوانبها و دقائقها أمرٌ دقيق و رائعٌ و إنِّي أرى المترجمَ يوسف طباخ امتلكه مع كثيرٍ من الوعي.و له الدور الكبير في فتح نافذة واسعة بين الأدب العربي و الأدب السويدي.و قد ترجم عدداً من سلسلة (( أبو صوفة )) و هي سلسلة موجَّهة للأطفال من تأليف الفنان السويدي (( أولف لوفغرين )) و جاءت مصحوبة بصور أنيقة معبِّرة.و للأديب يوسف طباخ ترجمة لمختارات شعرية للشاعر السويدي (( نيلسن فرلين )) و فيها اختيار جميلٌ و دقيق.و جاء الاختيار مرفقاً بترجمة جميلة تليق بلغة الشعر،و تقترب من المناخات الشعرية و أوزانها.و ممّا وردَ في قصيدة (( كان باستطاعتي )): إنَّني جوّال،و ما ضيرُ ذلك ؟ كان في استطاعتي أن أكون قسِّيساً كان في استطاعتي أن أكون تاجراً فلّاحاً أو حتّى وحشاً كان في استطاعتي أن أكون سنونو، صلّاً أو غراباً ينعق غراباً..أو ربَّما زهرةً أو لمسة شمسٍ في كتاب.. حسناً،الغرب يبدأ باتجاه الشرق و الشمال يختفي في الجنوب إنَّني متعبٌ بَرِمٌ ضجرٌ مُنْهَكٌ من كلِّ هذه الأمور في فمي طعمُ أضْألِ الأمور.. و في قصيدة صغيرة بعنوان (( جوع )) تبرز براعته في الاختيار و حسن التمكن من اللغة الشعرية المعبِّرة: الجوعُ و الكراهية عظيمان بلى،يا رفيق في بعض الأوقات نحقد نفكِّر بالمحار و فتائل اللحم النفيسة و سقيفة نقضي يومنا فيها و كؤوس فاخرة و صحون فضة بلى.يا رفيق في بعض الأحيان نحقد.. الجانب النفسي و المكابدة و حالات القلق و عدم الاستقرار هي جوانب شعرية و نفسية معاً و لذلك أرى قدرة المترجم على الاقتراب منها لأنّها تمثِّل إحدى حالات يعيشها في الغربة شخصاً و معالجاً و أديباً. و للطباخ ترجمات عن اللغات الانكليزية إلى السويدية فترجم قصصاً لكلٍّ من (( مورافيا ،و همنغواي،و تشيخوف..)) و يمكن أن يقال الكثير عن الترجمة و ما فيها من إبداعٍ و دور و تواصل و ما فيها من مغامرة و آراء و تأثير.و ما هذه الترجمة إلاَّ بدافع الإحساس القومي الذي يحمله في داخله.فهو رجلٌ يمتح من موروث ثقافي بالغ الأثر و التأثير.فتراه منهمكاً في القضايا الثقافية العربية و متابعاً جاداً لها.و ينشر نتاجه بين آونة و أخرى في الصحف و الدوريات المحلية كالأسبوع الأدبي و الموقف الأدبي و الجماهير و الفينيق و بالإضافة إلى ذلك قدَّم للمكتبة العربية مجموعة من الأعمال الإبداعية على مستوى القصص و الرواية. و كتب للصغار و الفتيان و الكبار.. و هذا يدلُّ على مخزون ثقافي و إبداعيِّ لا يمكن كتمانه و مصادرته بالصمت المطبق.و إبداعه القصصي يعكس تجربة طويلة فيها الحلو و المرُّ و فيها شريطٌ من الحكائية المعبِّرة و الجاذبة..في إبداعه تنعكس مهنته و اختصاصُه في علم النفس الاجتماعي. و كيلا أظلم الأديب فهو بدأ النشر منذ عام ألف و تسعمئة و سبعين. هذه السنوات الحافلة بالتجربة و التحصيل و العمل و التواصل و النشأة الأولى تشكِّل عالمَهُ الإبداعيّ. فهو يشكِّل حالة من الحالات الجميلة في أدب الاغتراب. فلم ينقطع و لم يذبْ و لم يستسلم للواقع الجديد، بل قام بعملية دمج متوازن ساعدته على ذلك علاقاته الثقافية المتواصلة على مستوى اللقاءات من ناحية و على مستوى القراءة و المتابعة من ناحية أخرى. فقدَّم للمكتبة العربية رواية (( أبو زكي و كلب السلطان )) و مجموعة قصص (( عناصر المؤامرة )) و في جعبته الكثير ممَّا تجود به موهبته. رواية (( أبو زكي و كلب السلطان )) يذكر المؤلف أنّها لليافعين و القارئ لها يجدها صالحة للأطفال و للكبار. و هي رواية مقسَّمة إلى عناوين مترابطة و متشابكة ضمن حبكة متينة متواصلة. فيها شيء من الحكاية و السرد و فيها شيء من الخيال و اللامعقول و أشياء من الواقع. فهي مزيج متآلف و متلاحم و جَدْتها تستدعي الذكريات لتعكس حالة من حالات الحنين لعالم بريء نقيٍّ عاشه الكاتب يدَّعي أنَّ المدينة موغلة بالبعد المكاني و الزماني و أعتقد أنَّها حلب، لأنَّه في التفصيلات يوصلنا إلى كثيرٍ من معالم حلب و أزقَّتها و أسواقها و أحاديثها المتداولة. و هو يقرِّبنا إلى السيرة الذاتية و لكن بعيداً عن المباشرة و اعتماداً على الفنِّ و الخيالِ و الرمز. فيتَّكئ على السرد التاريخي الأقرب إلى الأسطورة و القريب من الواقع معاً، و بلغة بسيطة جديرةٍ بالمكان و الزمان و الأشخاص.و هي لغة صافية. و القصة فيها من الرمز و الإيحاءات الكثير ممَّا يكتشفه القارئ. و يكتشف القارئ تلك الجمل القصصية التي تكتنز معارفه النفسية و إلمامه بخفايا النفوس.:(( أحسَّ السلطان بسائل لزج على ظاهر كفّيه، انكمش وجهه قرفاً، و برم شفتيه مُتَقَزِّزاً و هو ينظر إليهما. انهال فجأة، على ثياب رئيس وزرائه الحريرية و هو يتفتف..)) إنّه مشهد فيه الكثير من الأشياء المعبِّرة على مستوى الفعل القصصي و دلالاته، و على مستوى الملاحظة الحدسية و الذهنية. و يبرز مقدرة الكاتب على رصدِ الحدث بدقَّة متناهية.. و هذه إحدى سمات أسلوبه في الكتابة القصصية. إنَّه يعتمد على الإيحاء و الإلمام بالحدث من كلِ جوانبه و لكن على القارئ أو المستمع أن يفكر في كلِّ كلمة و فعلٍ عنده. يعتمد على ذكر حادثة طارئة و قاسية لها وقعها في النفس و تبدو غريبة المناخ الاجتماعي بداية، ثمَّ تتداعى لديه الأحداث و المشاهد و الذكريات، فتتداخل الأحداثُ قديمها و حديثها و تكاد تنقطع عمَّا يجري لنصل في النهاية حيث بدأ مع نهاية و قفلة مفتوحةٍ و ربَّما صاعقة و لكن بأسلوب سهل شائق مدروس. فالصعق على مستوى الحدث و ليسَ على مستوى اللغة.تجد نفسك أمام نهاية مفتوحة و متعبة تتطلب منك التفسير و العودة إلى القصة من جديد. فقصصه للقراءة أكثر منها للاستماع رغم ما يملكه من جاذبية القصِّ في القراءة. و كثيراً ما ترى الحدثَ يجري في الغرب ثمّ يصحبك إلى الشرق عن طريق الذكريات و المنولوج و التداعي... و يربط الشرق الذي عاش وترعرع فيه إلى اليفاعة و أول الشباب و ما فيه من حرارة البيئة و النشأة بالسنين الأخيرة و ما فيها من معاناة بدت تظهر على صفحات قصصه الأخيرة و هو ينظر إلى أولاده و قد انخرطوا في المجتمع الغربي السويدي و هذه حالة تبعث فيه الصراع و القلق و الخوف عليهم... إنَّ تجربته القصصية تشكِّل ملمحاً جديراً بالدراسة لأنَّها تعكس إحدى تجارب الأدباء المغتربين. هذه التجربة التي تضجُّ بالألم الخفيِّ حيناً و البادي في أكثر الأحيان. فصورة الوطن و الأهل ماثلة في كلِّ إهداءات كتبه التي ترجمها و ألَّفها و تُطِلُّ علينا من نسيج قصصه و من ثنايا الأحداث. ففي رواية (( أبو زكي و كلب السلطان )) دخول إلى أعماق الواقع السياسي و الاجتماعي و النفسي المرموز بحرفة و براعة. فضياع كلب السلطان محور القصة و محرِّك أحداثها و كاشف رؤية مؤلفها في القضايا الكبرى المصيرية التي انشغل عنها السلطان بضياع كلبه و شغل معه كلَّ رجالاته. و هي رواية جديرة بالقراءة و التحليل و لا أظنُّ أنّها للفتيان فحسب بل تصلح للكبار و الصغار كما ذكرت سابقاً. و لم أطَّلِع على مجموعته (( عناصر المؤامرة )) و أغلب ظنّي أني قرأتها مسودّاتٍ و استمعت لبعضها منه و لا تختلف عن منهجه القصصي الذي ينسجه بحرفة و قد خصَّها الناقد الأستاذ زياد مغامس بدراسة منشورة على صفحات جريدة الجماهير الحلبية عدد 2/12/1998. و تناول فيها البنية الفنية، و أشاد بتماسك القصص و النسيج القصصي المحكم. و أبدى إعجابه بمقدرة الأديب يوسف طباخ مبيِّناً الكثيرَ من الجوانب الفنيّة الساطعة. و توقف عند ظاهرة الاسترجاع التي تكشف معاناته كمهاجر يعيش حالات من الصراع و ما يعتمل في وجدانه كمهاجر حمل ذاكرته المتيقظة إلى بلادٍ بعيدةٍ و لكنّها بقيت منهلاً غزيراً و غنيّاً فيقول عن المجموعة (( لكن هل هذا هو كلّ ما في المجموعة ؟ بالطبع لا فهي تتحدَّث عن أشياء كثيرة أخرى و تنفح المتلقي كمّاً من المعلومات حول معاناة المهاجرين النفسية الناتجة عن البعد و عن المفارقة بين شيئين يتشابهان شكلاً و يختلفان مضموناً. فهنا عمل و هناك عمل و لكن عملاً عن عملٍ يختلف )) إنَّ واقعية الكاتب واقعيَّة فنِّيّة و لا تطغى على النصِّ بل نراها مسربلةً بجمل غريبة عن التركيب العربي و هذا عائد لتأثره من اللغات الأجنبية و طول ممارستها. إنَّ دراسة الجانب الفنّي في قصصه و تراجمه بحاجة لدراسات أعمق و أطول و هدفي من الدراسة التعريف و التبسيط. و الكتابة في الإبداع لا تنتهي إلاّ بتوقف سحب الإبداع و شحِّها عن المبدع..إنّنا أمام أديب التزم رغم البعد، و اقترب من الواقع رغم بعده. و عشق أمّته شعباً و موروثاً و أرضاً. و هذا الحبُّ منحوت و مطبوع في صفحاتٍ كثيرة خطَّها و نشرها. و ما زالت تحفر في ذهنه الذي ارتوى من مصادر متنوعة و غنيّة فجعلت منه أديباً ناضجاً يحمل في الغربة نبض الوطن و الأمة. أعتقد أنَّنا بحاجة لدراسة أدب مهجري آخر غير الذي نشأ و ترعرع في الأمريكيّتين، و قد أخذت الدوريات تستقطبه و تغذّيه و تفتح لها أبوابها. و ربّما كانت من صنعه ليكون أكثر تواصلاً و أعمق صلة و أسرع تداولاً مع أهله في البلاد العربية. و هي دعوة لاستقطاب هذه الأقلام و إقامة الندوات و الأمسيّات لها و تقديم أعمالها للدراسة و التحليل. سيبقى الأديب يوسف طباخ عندليباً من عنادل العربية التي تغرِّد و تحاول التحليق في سماءٍ معكّرةٍ بهموم الغربة و موحية بآلام البعاد...