ممن نتعلم «فقه الحياة»، وكيف السبيل للوصول إلى هذا الفقه المنشود، الذي من خلاله يستطيع المسلم أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا. هل نتعلم «فقه الحياة» ممن يتمسك بأدلة الشرع فحسب؟ أم نتعلمه ممن يتمسك بأدلة الشرع مع النظر كذلك إلى الواقع؟. هذه الأسئلة وما يتفرع عنها من قضايا، وما يتعلق بها من مسائل وإشكالات، هي موضوع «المائدة الفقهية» الدسمة التي يقدمها العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوميا على قناة «أنا» الفضائية (التردد 12226 أفقي نايل سات) طوال شهر رمضان، وذلك من خلال برنامج «فقه الحياة»، والتي ستعمل «المساء »على نشرها بشراكة مع قناة «أنا» اعتبر العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أن الاهتمام بالقرآن الكريم تزايد في السنوات الأخيرة، لكنه شدد على أن ذلك ليس كافيًا، لأن الله أنزل القرآن كي يحكم حياتنا، وليس لنتبرك به ونعلقه في صدور الأطفال والحوامل، مؤكدًا أن القرآن يجب أن يكون هو الدستور الذي ترجع إليه الأمة في عقائدها وشرائعها وأخلاقياتها وآدابها ومفاهيمها. ومع أن العلامة القرضاوي وصف سيد قطب بأنه كان «رجلاً قرآنيًا»، مشيدًا بتفسيره «في ظلال القرآن»، إلا أنه حذر من أن الكتاب ينضح بفكرة تكفير المجتمع، مرجعًا ذلك إلى كون قطب كتب معظمه في السجن، ووقتها كان الشيوعيون والعلمانيون يسيطرون على الإعلام والثقافة في مصر. وتطرق العلامة القرضاوي، في حلقة الأمس من برنامج «فقه الحياة» الذي يبث يوميا على قناة «أنا» الفضائية ويقدمه أكرم كساب، إلى المحاذير والمزالق التي يقع فيها بعض من يتعاملون مع القرآن الكريم، معددًا منها: اتباع المتشابهات ورد الآيات المحكمات، وسوء التأويل، والاستشهاد بنص صحيح في غير موضعه، والجهل بالسنن والآثار، والثقة بالإسرائيليات التي وردت في بعض كتب التفاسير، وادعاء النسخ دون برهان. وانتقد القرضاوي إقحام البعض أنفسهم في تفسير القرآن من دون علم أو دراية، أو حتى معرفة باللغة العربية والسنن والآثار، محذرًا مما يسمى بالقراءات الجديدة للقرآن لأنها تأتي بما يتنافى مع ما أجمعت عليه الأمة يقينًا، بينما يجب ألا يزايد أي شخص على الأصول والفرائض التي أجمعت عليها الأمة، لأن الأمة معصومة لا تجتمع على ضلالة، في حين أنه لا عصمة لأي عالم ولا حتى للصحابة والأئمة الأربعة. - قبل أن ندخل في محاذير ومزالق التعامل مع القرآن الكريم، نعود إلى ما تناولناه سريعًا في الحلقة الماضية بخصوص تفسير سيد قطب رحمة الله عليه «في ظلال القرآن»، وقد بينتم فضيلتكم الجانب المشرق فيه، لكن العمل البشري لا يخلو من هنات؟ > بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا، وأسوتنا، وحبيبنا، ومعلمنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد... لا شك أن الشهيد سيد قطب رحمه الله كان رجلاً قرآنيًا، وكان له مع القرآن وقفات قبل تفسير الظلال، وله كتابان معروفان في هذا الأمر: «التصوير الفني في القرآن»، و«مشاهد القيامة في القرآن» ومن يقرأ هذين الكتابين يعرف أن سيد قطب أديب، وناقد، كما أن له شعرًا معروفًا، إذ كان يعتبر من الشعراء الوجدانيين، حتى ضمه الدكتور محمد مندور إلى جماعة أبوللو، وله كتاب متميز في أصول النقد الأدبي.. كل هذا جعله حين يقبل على الوقوف مع القرآن في الظلال، يقبل عليه وهو مزود بسلاح ليس موجودًا عند غيره، وظهر هذا في تأثير الظلال الأدبي والنفسي والبياني، على من يقرؤه. لكن كل عمل بشري لابد أن توجد فيه هنة من الهنات، والذي يؤاخذ على هذا التفسير، رغم ما فيه من فوائد، وأنا ممن ينتفعون بهذا التفسير ويرجع إليه بين الحين والحين، أن الشهيد سيد قطب كتب معظمه وهو في السجن، وحين كان الشيوعيون، والماركسيون، والعلمانيون، واللادينيون، متربعين على عرش وزارة الإعلام، ووزارة الثقافة والإرشاد في ذلك الوقت، هذه الأشياء أثرت في الموقف الفكري لسيد قطب، لذلك تجد الكتاب ينضح بفكرة تكفير المجتمع، وأنا آسف أن أقول هذا، لولا أن الأمانة اقتضتني إلى أن أقوله، وأنا ذكرت هذا في مذكراتي «ابن القرية والكتاب»، واضطررت أن أذكر هذا برغم والله حبي وإعزازي وتقديري وإعظامي لسيد قطب ولموقفه حين قدم رقبته فداءً لدعوته ولم يتزحزح ولم يتململ ولم يتملق ولم يغير موقفه أبدًا. هذا موقف بطولة، انتهى به إلى موقف الشهادة في سبيل الله، ولكن الحق أحق أن يتبع ولا مجاملة في الحق، فمن يقرأ الظلال عليه أن يحترس من هذا النوع من الفكر، فقد يؤثر على الإنسان تأثيرًا مباشرًا، وقد ينضح عليه نضحًا غير مباشر، وكل واحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا محمد صلى الله عليه وسلم. - لكن فضيلة الشيخ أليس كل التفاسير لها وعليها، يعني مثلاً القرطبي أليس له وعليه في «أحكام القرآن» ؟ > نعم هناك أخطاء جزئية لكل مفسر، ولكن الخطأ في الظلال هو في الاتجاه حيث إنه محمل بفكرة كلية حول المسلمين الحاليين وأنهم كفار لا مسلمين. - حتى في الطبعات التي نقحت فيما بعد؟ > الطبعات التي نقحت فيما بعد هي التي تحمل هذا، أما الطبعات الأولى لم يكن فيها ذلك، وأنا عندي الطبعة الأولى التي طبعها الحلبي، وتتضمن الأجزاء الأولى من القرآن، وليس فيها أي شيء، إنما بعد ذلك ما أظن أحدًا طبع الكتاب وحذف منها شيئًا. وبشكل عام، الظلال يجمع ما بين كونه كتاب تفسير وكتاب دعوة وكتاب سيرة نبوية وكتاب حركة وكتاب ثورة، بمعنى أنه يدعو إلى النفس الثورية، التي ترفض الباطل وتقاوم الضلال وتغرس حب التضحية في سبيل الله، والكتاب ثورة عظيمة من غير شك، وأدعو الله أن يغفر له وأن يأجره أجر المجتهدين إذا أخطأوا. اتباع المتشابهات - نعود فضيلتكم لموضوع الحلقة.. ذكرتم أن من محاذير ومزالق التعامل مع القرآن: اتباع المتشابهات ورد المحكمات، ما معنى هذا؟ > هناك نصوص محكمات، بمعنى أن دلالاتها صريحة واضحة، لا تحتمل أوجهًا، وهناك نصوص تحتمل أكثر من وجه، والزائغون دائمًا في فهم القرآن، أو في فهم العقيدة، أو في فهم الشريعة يتبعون المتشابهات. أضرب لك مثالاً، من الأشياء التي قامت حولها معارك فكرية في العصر الحديث، مسألة الربا، فهذا الموضوع وجدنا الزائغين يعتمدون على المتشابهات ويتركون المحكمات، فهناك آية في سورة آل عمران تقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فقال هؤلاء: إن الربا المحرم هو ربا الأضعاف المضاعفة، أما الربا إذا كان 5% أو 10%، 20% فهذا ليس محرمًا، وناقشهم شيخنا العلامة الشيخ محمد عبد الله دراز في رسالته عن الربا، والتي قدمها إلى أحد المؤتمرات الغربية ممثلاً عن الأزهر، وذكر فيها أن هؤلاء عكسوا الموضوع؛ لأنهم يقولون إن القرآن جاء في تحريم الربا وتحريم الخمر بنصوص متدرجة، ومع ذلك النص الأول جعلوه الأخير، في حين أن النصوص الأخيرة حكمت على هذا النص. وإذا سرنا حسب ما يقول هؤلاء فهذا معناه أنه لا نحرم الربا إلا إذا كان ستمائة في المائة، وليس عشرة في المائة، ولا عشرين في المائة فقط، وهكذا يصبح كل الربا الذي في الدنيا حلالا، لأنه لا يوجد أحد يعمل ستمائة في المائة، ولا خمسين في المائة. - لكن فضيلة الشيخ لماذا لا يقبل الخلاف هنا؟ > الخلاف لا يعد معتبرًا إلا إذا كان له حظ من النظر، ولكن للأسف بعض الناس قالوا هذا؛ لأن قضية الربا شغلت العلماء والمفكرين والمهتمين بالشأن الإسلامي، فمنهم من قال هذا، ومنهم من قال: إن ربا الجاهلية غير الربا الحالي، ومنهم من قال: ربا الاستهلاك غير ربا الإنتاج، ومنهم من قال إن ربا الضرورة غير ربا الاستمتاع.. إلى آخره، وكل ذلك محاولة لتبرير الواقع الاستعماري الرأسمالي الذي ابتلي به المسلمون في ديار الإسلام. سوء التأويل - هل تعتبرون سوء التأويل من ضمن المزالق أيضًا؟ > قطعًا، فالتأويل معناه عند الأصوليين وغيرهم أنك تخرج باللفظ عن ظاهره لقرينة معينة، بمعنى أن اللفظ ظاهره شيء وأنت تريد به شيئًا آخر، وباب التأويل ليس مفتوحًا لكل واحد، ولكن يجب أن تكون هناك قرينة مانعة من أن نأخذ بالظاهر، والتأويل ممكن يدخل فيه التحريف، بحيث يخرج بالألفاظ عن معانيها. ونحن لا نمنع التأويل كمبدأ، فهو مرجع يلجأ إليه المفسرون للقرآن، ويلجأ إليه شراح الحديث، ويلجأ إليه الفقهاء في استنباط الأحكام، ويلجأ إليه الأصوليون في تقرير الأدلة. - لو تذكرون فضيلة الشيخ مثالاً على سوء التأويل؟ > سوء التأويل درجات، فعندك تأويل القرامطة والباطنية الذين أسقطوا دلالات الألفاظ، كأن اللغة مائعة رجراجة، ليس له أية قاعدة، فيتحدثون كما يشاؤون، والإمام الغزالي ذكر في فضائح الباطنية أشياء عجيبة، في تفسير الصلاة والصيام، وفي تفسير الكعبة والبيت، وهذا نوع من التأويل خرج نهائيًا عن المقصود. وهناك تأويل الفلاسفة، الذين أولوا القرآن حتى أولوا آيات البعث، والحساب، والحشر، والجنة، والنار؛ لأن عندهم أن البعث روحاني وليس جسمانيًا، فالأجساد لا تبعث، وليست هناك جنة يأكل فيها الناس ويشربون، ويتمتعون بالحور العين. إذن ماذا عما جاء في القرآن عن ذلك؟ كله أولوه، فهذا تأويل هائل. ثم هناك تأويل المعتزلة وهم دون هؤلاء، حيث قالوا في قوله تعالى (وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) إن (نَاظِرَةٌ) تعني منتظرة كما في قوله تعالى (فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ)، يعني منتظرة بم يرجع المرسلون كما قالت بلقيس، لكن «ناظرة» في هذا الآية غير «إلى ربها ناظرة»، ففي الأخيرة واضح أن النظرة بالعين.