إذا كان الخيال يُسعف بضماده الأبيض الذي يُرمم الرؤوس، فحتماً سيصوِّر أو يزين لي دون تدخل من الشيطان، أعضاء لجنة تحكيم أية جائزة، الذين ينكفئون في كواليس الموت على أعمال الناس بحسناتها وسيئاتها، أشبه بصُنّاع قنبلة موقوتة بالمفاجأة، ما أن ينفَضُّوا عن آخر لَمْسة في كرتها المعدنية، حتى تنفجر بكل ما أوتيت من دوي صاعق في العالم؛ هكذا ينهرق الحبر نازفاً بجرائر الكتابة، وينتثر شظايا الكلام بلغوه وغلوائه الأمَّار بسوء الأنفس، شاهراً منجل السؤال: هذه الجائزة.. لمن جائزة؟؛ إننا إذ نؤشر بِوَيْلِ الأصابع إلى لجنة تحكيم جائزة نوبل للآداب، نرتاب دائماً حسب قول الكاتب الفرنسي «نيلس.س.أهل» في حساباتها المعقدة التي تراعي التوازن من حيث اللغات أو التناوب(...)؛ ومعلوم أن الكثير من الخبراء، وممن امتطوا خيل الرهان، قد اتفقوا هذه السنة على بعض الأسماء التي كان سيطالها استحقاق نوبل؛ منهم الشاعر السوري الكبير «أدونيس»، تتويجا للغة العربية، خصوصاً بعد أحداث ربيع الثورات؛ والمبدع ذائع الشعبية «هاروكي مواكامي» من اليابان التي لم تحظ بنوبل إلا مرتين منذ 1901؛ ناهيك عن الكُتاب الأمريكيين ؛ «توماس بينشون» «فيليب روث»، «كورماك مكارثي» أو «جويس كارول أواتيس»، الذين يقطرون بالترشيح منذ سنوات عديدة لهذه الجائزة العالمية؛ بل لم يسلم من إشاراتها الخلاَّبة، حتى المغني الشهير «بوب ديلان» المُوثَر لدى بعض صُنّاع الكتب البريطانيين؛ انتظروا ، كدنا نستسلم لممحاة النسيان التي تلحس الأدمغة، ولا نذكر المعني بالجائزة الكبرى، الشاعر السويدي «توماس ترانسترومر» الذي لم يبرح السباق أبداً، منذ مستهل التسعينيات؛ حتى أتته مشيقة في خفة البجع، يوم الخميس 6 أكتوبر 2011؛ ضدّاً على كل مُتَوَقَّع؟؛ مع هذه الجائزة المخاتلة، لا شيء أكيد؛ أو لنقُل بمعنى آخر، إن اختيار الأكاديمية السويدية هذه السنة، يسجِّل دونما شك، عودة الاعتبارات الأدبية فقط؛ لن نزلق في مزيد من صابون الارتياب الذي يطفئ بالإثم السقيم، ألق الحياة، في جمهرة الأشياء العظيمة؛ فلا مراء أن ذا التتويج، للشاعر السويدي «توماس ترانسترومر»، كان عادل الموازين؛ فهو أحد أهم الشعراء في النصف الثاني للقرن العشرين؛ اغترف معين العلم من الجامعة، ولم يكن أبداً بالشاعر المغمور؛ ولد توماس عام 1931، ولم يَأْلُ حبراً في الحكي عن شبابه، وشغفه لعلم الحشرات (الأنتومولوجيا)، ونتائجه المدرسية التي كانت دائماً متوسطة، وقد أصدر هذه السيرة الذاتية في كتاب موسوم ب «ذكرياتي تراقبني» (دار لوكاستور أسترال، 2004)؛ اكتشف الأدب في سن الخامسة عشرة، والشعر تحديداً؛ فكتب نصوصاً حداثية، مفتوناً بالشعراء الكلاسيكيين، خصوصاً باللسان اللاتيني؛ وفي جرة قلم خاطفة، انصقلت لغته وانمازت، وهو لمَّا يتجاوز سن الثالثة والعشرين، حين اندلق عام 1954، بأول أضمومة شعرية، تكتنف سبع عشرة قصيدة؛ وهو طالب في جامعة استوكهولم، حيث أحرز بعد عامين ، شهادة في علم النفس؛ تأتلق نصوصه الشعرية، بجمالية بساطتها وشفافيتها، وبشعوريتها الحميمية، وثرائها الإستعاري؛ وتنجلي هذه التوصيفات ، منذ بيته الشعري التدشيني الأول في السبع عشرة قصيدة، مما يتناغم مع كل مستقبله الإبداعي، حيث نقرأ؛ الْيَقَظَةُ قَفْزَةٌ بِالْمِظَلَّةِ خَارِجَ الحُلُم.. إنها دوخة البدهي، الكثافة المعقدة لبلاغة الوضوح، والتي قد تتبدّى بدئيا مبتذلة؛ هكذا تنبري أصالة الصورة؛ ويحضرنا هنا تذييل كتبه الشاعر «رونود إيغو» ل «الأعمال الكاملة» لتوماس ترانسترومر، وتحتوي مضموم الأعمال الشعرية التي كتبت ما بين (1954/1996)، وقد صدرت عن دار «لوكاستور أسترال» عام 1996؛ ورصد «رونود إيغو» في التذييل، تلكم البساطة الاستيهامية، الشبه سردية، للشاعر السويدي؛ إنه تمرين على التوصيف غير المستقر للمادة، هذه الحالة حيث التجربة تعلمنا أنها في الجوهر؛ بينما تتبدى القصيدة في الظاهر، راصدة للواقعي، وتنضوي في حركة سردية تَدُلُّ وتحصي؛ خطوة.. خطوة؛ كلمة.. كلمة، ما هو منذور للرؤية، لدى الشاعر كما القارئ؛ إن هذا الأسلوب، يكشف في بضعة أسطر، ما يهرب منا؛ البياضات والشقوق التي نرصدها، والأعماق تحت السطح أيضا؛ إنه شاعر من زمننا، يستقل القطار والمترو، ينام أحيانا في غرف الفندق، ينظر عبر النافذة، يزور الكنائس، يسمع الموسيقى، يتأمل الطبيعة، ويسافر كثيرا؛ إن هذا الكاتب السويدي، إنسان لكل الأزمنة، ولما هو أبدي يكتنف المتحوِّل والسيَّار؛ رَاءٍ لتمَفْصُل الزمن، عابراً أو ثابتاً؛ للحظة أيضا، للتاريخ، للأسطورة في ذات الآن؛ لنجزم إن العادي يغدو خارقا في لغة الشاعر، ويصير المفرد كونيا؛ وليس ثمة ما أرصعه شمع ختام لا ينطفئ، في الذيل الطاووسي لهذه الورقة، سوى التصريح بفصيح كَلِمٍ ألمع من الذهب، أن أبلغ معنى توحي به جائزة تحتفي بالشعر، هو رد الاعتبار للإنسان في زمن استفرغه من كل القيم الجمالية والشعورية، حتى غدا في عداد المفقودين؛ فهل نعرف أنفسنا يوما بالشعر..؟