نشرنا في العدد المنصرم من هذه الصفحة الجزء الأول من مقال للأستاذ محمد بولمان، المحامي بهيئة مراكش، تحت عنوان: «بعض أوجه التضييق القانوني على الصحافة بالمغرب» ، وفيما يلي تتمة البحث: خامسا: غموض قانون الصحافة يتأكد لقارئ نصوص قانون الصحافة المغربي أن فهمها صعب جدا، من حيث تحديد الأفعال المجرمة بأركانها وعناصرها ومجال انطباقها، فالأمر يبدو مضببا تستحيل معه الرؤية في بعض الأحيان بالنسبة للمهتمين، بل حتى على فقهاء القانون المتخصصين في المادة، إن هناك من الفقه من يدعو إلى إلغاء تلك الجرائم الغامضة بغض النظر عن أهمية المصالح القانونية التي تقوم على حمايتها مادام أن المشرع نفسه لم يستطع تحديدها تحديدا دقيقا بإبراز معالمها وتدقيق ملامحها في عبارات مفهومة وواضحة يستطيع الجميع فهمها بمجرد قراءتها. سادسا: نماذج من الجرائم التي يلفها الغموض في القانون المغربي: - التحريض على ارتكاب الجنايات، والجنح وخصوصا التحريض على بعض الجرائم مثل القتل والسرقة والنصب والتمييز العنصري والكرامة والتحريض على الجرائم والجنح التي تمس السلامة الخارجية والداخلية. - الإشادة بجرائم القتل والنهب.... - حث الجنود وأعوان القوة العمومية على الإخلال بواجباتهم والخروج على طاعة رؤسائهم. - إثارة الفزع بين الناس. - المس العلني بشخص رؤساء الدول وكرامتهم والممثلين الديبلوماسيين... - الإخلال بالنظام العام وإثارة الفزع بين الناس بسوء نية. - الشتم. - حمل الناس على سحب الأموال من الصناديق العمومية، (الفصول من 38 إلى 53 من ظهير 958. سابعا: حرصا على حرية الصحافة في فرنسا: فتح هذا الغموض الباب واسعا لتحكم القضاء والنيابة العامة عن طريق تفسيره - الغموض - وعلى نحو يلائم رأيهم، - إرادة المشرع - وكان يقال في فرنسا بأن الإهانة - إهانة رئيس الجمهورية - إذا كانت صحيحة فهناك نص في القانون العام يجرمها كالسب، وإذا كانت قذفا فهناك نص آخر يجرم هذا الفعل، وهما نصان يكفلان الحماية الواقعية للرئيس، بشكل أوضح من النص المتعلق بالإهانة، حيث يسود الغموض وتتلاشى الحدود بين النقد المباح وغيره. وقد لطف من عيب هذا الغموض في التشريع الفرنسي ما صرح به كل من جورج بومبيدو وجيسكار ديستان وكذا فرانسوا متران أنهم لن يتمسكوا بتطبيق مقتضيات المادة 26 من قانون الصحافة في مواجهة الصحفيين لأنها غامضة في تحديدها لجريمة إهانة رئيس الجمهورية حرصا على حرية الصحافة. وفي النص المغربي نصادف الجريمة المنصوص عليها في الفصل 42 ويتعلق الأمر بنشر النبأ المزيف أو الكاذب إذا أخل بالنظام العام أو أثار الفزع بين الناس. إن فكرة النظام العام وإثارة الفزع بين الناس - في هذا النص - تبدو هلامية، ومن الصعوبة بمكان تحديدها والاتفاق على مفهومها للاحتكام إليه وقت التطبيق. ثامنا: بعض مظاهر التشدد الأخرى - في قانون الصحافة المغربي: من الأكيد أنه يجب أن تقدر العقوبة بما يناسب طبيعة الفعل المجرم وخطورته، فالمصلحة العامة تقتضي ذلك التناسب حرصا على الحريات والحقوق. إن العقوبة المتشددة أو المبالغ في تقديرها هي عقوبة عدوانية تمس أمن المواطن واستقراره. وعلى المشرع أن يحترم مبدأ التناسب وعدم الغلو في تجديد العقوبات، ففي جريمة التحريض مثلا نلاحظ أن المشرع المغربي لم يلتزم بهذا المبدإ عندما اعتبر هذه الجريمة قائمة حتى ولو لم يكن للتحريض مفعول - الفصل 39 عدل وتمم بالقانون رقم 77.00 . ومن ناحية المنطق القانوني فإن التحريض باعتباره صورة من صور الاشتراك في الجريمة - كما هو منصوص عليها في الفصل 129 من القانون الجنائي المغربي - لا يعاقب عليه بل لا تتحقق له الصفة الإجرامية إلا بثبوت وقوع الجريمة المحرض عليها. فالمقصود من تجريم التحريض ليس هو فعل التحريض لذاته وإنما الآثار المترتبة عليه، باعتباره عدوانا على المصلحة العامة يقتضي العقاب. ثم إن تجريم التحريض في المادة الصحفية باعتباره فعلا مجردا من أي تجريم لذاته ودونما التفات كذلك إلى توفر أو عدم توفر سوء النية يتعارض مع المنطق القانوني السليم ولا تسمح به قواعد العدالة. كما يظهر عدم التناسب في هذه الجنحة في كون المشرع حدد لها عقوبة قاسية تتراوح بين سنة وثلاث سنوات سجنا وغرامة تتراوح بين 5000 درهم و10.000.00 درهم بالرغم من أن فعل التحريض المجرد في حد ذاته لا يقبل أصلا التجريم كما سبق ذكره. ويبدو التشدد أو التضييق على حرية الصحافة ظاهرا - كذلك - من خاصية الغموض التي أصبحت لازمة للتشريع المغربي كما سبقت الإشارة إليه والتي تتيح للقضاء إمكانية التشريع عن طريق إدخال أفعال غير مجرمة إلى مجال التجريم. في هذا السياق يقول الدكتور محمد الإدريسي العلمي المشيشي في معرض تعليقه على الفصل 38 من قانون الصحافة المغربي مايلي: «يتسم - هذا الفصل - بالصرامة لأن العقوبة اللاحقة بالمحرض هي نفس عقوبة الجريمة التي حرض عليها، وتظهر الصرامة في كون هذه الجريمة لم تتم، وإنما توقفت عند مرحلة المحاولة» - الدكتور محمد الإدريسي العلمي المشيشي القانون المبني للمجهول - إن الغموض لا يسمح للصحفي باختيار الفعل الذي يريده حيث إنه قد لا يريد، ولا يقصد على الإطلاق فعلا معينا ويجد نفسه مدانا ومعاقبا عليه من أجله. وفي جريمتي القذف والسب، بالرغم من أن المشرع حاول التعريف بهما في الفصل 44 من قانون الصحافة، فإنه في فصول أخرى استعمل مصطلحات أخرى هي نفس الموضوع دون أي تعريف لها كالمس، والمس بالكرامة، والشتم والإهانة الفصل 71 فهل هذه المصطلحات تعني نفس ما يعنيه القذف والسب كما تم تعريفهما في الفصل 44 المذكور أم انها تتعلق بجرائم أخرى لا علاقة لها بالقذف والسب؟ إذا كان الأمر كذلك فما هي الحدود والفواصل القانونية بين هذه الأفعال المصطلحات جميعا؟ إنه نوع آخر من التشدد أو نوع من التضييق على حرية الصحافة: تاسعا: خصوصية الإثبات في جرائم الصحافة: يستخلص من مقتضيات المادة 49 ما يلي: أ) إنه يمكن إثبات صحة ما يتضمنه القذف إذا كان يتعلق بالمهام لا بالأشخاص وكان موجها إلى الهيئات والمؤسسات والإدارات العمومية أو وزير أو عدة وزراء أو موظف، أو أحد رجال وأعوان السلطة العمومية أو كل شخص مكلف بمصلحة أو مهمة عمومية مؤقتة كانت أو مستمرة أو مساعد قضائي أو شاهد من جراء شهادته أو مديري أو متصرفي كل مقاولة صناعية أو تجارية أو مالية تلتجئ علنيا على التوفير والقرض. ب) يجب أن يتوفر الصحافي قبل القيام بالنشر على الحجج التي تثبت صحة الوقائع التي يتحدث عنها. ج) يستثني من هذه القاعدة القانونية أي من إثبات صحة الوقائع: القذف، إذا تعلق بالحياة الشخصية للفرد إذا كانت وقائع القذف قد مر عليها أكثر من عشر سنوات. إذا كان القذف يتعلق بجريمة شملها العفو أو تقادمت أو انمحت برد الاعتبار أو المراجعة. إنه يمكن تقديم الاثبات المضاد. كما يستخلص من الفصل 73 أنه: يتعين على المتهم تقديم الاثبات المتعلق بصحة الوقائع التي من أجلها وجه القذف. عليه خلال 15 يوما الموالية لتوصله بالاستدعاء للحضور أن يعلن إلى وكيل الملك أو الى المشتكي في محل المخابرة معه حسبما إذا كانت الدعوى قد أقيمت بطلب من وكيل الملك أو من المشتكي ما يلي: عرض الوقائع المشار إليها في الاستدعاء والتي يريد إثبات صحتها أو حقيقتها كما جاء في النص. نسخة من المستندات. الإشارة الى أسماء ومهن وعناوين الشهود المراد الاعتماد عليهم في إقامة الحجة، مع تعيين موطنه المختار لدى المحكمة وإلاّ ترتب عن ذلك سقوط الحق في اقامة الحجة. ** * *** *** تؤكد هذه المقتضيات أن المشرع يفترض الإدانة في الصحفي المتهم بجريمة القذف في حق ذوي الصفات العمومية السابق ذكرهم. وانه بدلا من أن يحمل النيابة العامة عبء إثبات تلك الجريمة بعناصرها المادية والمعنوية، كما توصي به القواعد العامة، ألزم الصحفي بإثبات براءته في خروج واضح عن قرينة البراءة كما نص عليها الفصل الأول من قانون المسطرة الجنائية الحالي. وهكذا إذا أراد الصحفي أن يعفى من العقاب أي أن يكون نقده الموجه الى من أشير اليهم أعلاه مباحا، وليس قذفا عليه أن: 1) يثبت صحة وقائع القذف لا غير بالرغم من أن هذا التكليف مخالف لقواعد ومبادئ التشريع الجنائي. 2) يثبت بالإضافة الى ذلك حسن نيته. ونعتقد خلافا لما يراه البعض حول التكليف الأول في علاقته مع شرط اثبات حسن النية أن إثبات صحة الوقائع كاف وحده لإباحة القذف دون إثبات حسن النية، وإنه إذا عجز الصحفي عن إثبات ذلك أو كانت حجته قاصرة فيكفيه إثبات حسن نيته على نحو ما استقر عليه الفقه والقضاء في فرنسا طبقا للقواعد العامة في الإباحة 454 BARBIER CG) : OP . CIT: P ،أي عليه أن يثبت أنه كان يعتقد صحة تلك الوقائع بناء على أسباب يقبلها العقل، وأن يثبت كذلك أنه عمل ما في وسعه لتحري الدقة والموضوعية في الخبر الذي تم نشره من طرفه. وإذا كان المشرع المصري لم يكتف بإثبات صحة الوقائع للإعفاء من العقاب بل أضاف إلى ذلك اثبات حسن النية، أي على الصحفي أن يبث صحة الوقائع وأن يثبت بالإضافة إلى ذلك حسن نيته ولا ينفعه إثبات أحدهما دون الآخر على نحو: «فإذا كان القاذف لا يقصد من فعله إلاَّ التشهير والتجريح وإثارة الضغائن والأحقاد الشخصية فلا يقبل منه إثبات صحة الوقائع التي أسندها إلى الموظف وتجب إدانته حتى ولو كان في مقدوره إثبات صحة ما قذف به كما تقول محكمة النقض المصرية 14 2 32 من مجموعة القواعد القانونية الجزء الثاني رقم 339 بالصفحة 496 . وخلاف ذلك نرى أنه طالما كانت وقائع القذف صحيحة فإنه لامجال لمؤاخذة الصحفي حتى ولو كانت غايته من ذلك النشر تتعارض مع المصلحة الشخصية لذلك الموظف المسؤول. إن اشتراط إثبات حسن النية إضافة إلى إثبات صحة الوقائع من شأنه إضعاف دور الصحافة في الرقابة على اعمال الحكومة والإدارة وموظفيها وهو من أجدى وأهم أدوارها في المجتمعات الديمقراطية. ونتساءل هنا لماذا المشرع أباح توجيه النقد إلى الموظفين العموميين؟ ألا يعتبر اشتراط اثبات حسن نية الصحفي إضافة إلى إثبات صحة الوقائع تناقضا بين مبدأ الإباحة وتطبيقه! ومن الناحية القانونية الصرفة إذا كان المبلغ عن حدوث جريمة لايعاقب، إذا كانت الوقائع التي بلغ بها صحيحة بغض النظر عن سوء أو حسن نيته فلماذا يعامل الصحفي معاملة أسوأ ويلزم باثبات حسن نيته إلى جانب إثبات صحة الوقائع؟ لانشاطر محكمة النقض المصرية رأيها أعلاه ولو أنه مبني على ما هو منصوص عليه في القانون المصري، لأنه يكفي ليكون النقد الموجه الى ذوي الصفات العمومية صباحا اثبات صحة الوقائع لأن المجتمع لاتهمه علاقة الصحفي بالمسؤول موضوع القذف المباح، أي لاتهمه حسن نية او سوء نية الصحفي بقدر ما يهمه الخبر الذي يشترط فيه أن يكون صحيحا لا كاذبا، ذلك أن نشر القذف المباح باعتبار صحة وقائعه وسلامتها من شأنه تنوير الرأي العام بما يجري في الادارات العمومية بفعل رؤسائها حتى تتم معالجته في أقرب الأوقات إذا كان في حاجة الى ذلك، وهي غاية أسمى من حماية الموظف المخل عن طريق إلزام الصحفي بإثبات حسن نيته إلى جانب إثبات صحة الوقائع. والقول بغير ذلك أي ازدواجية الإثبات لإعفاء الصحفي من لاعقاب حسب ما ذكر أعلاه من شأنه إسعاف دور الصحافة في الرقابة على أعمال الحكومة وهو من أبرز وأهم أدوارها في المجتمعات الديمقراطية كما سبق بيانه، ثم ان اباحة انتقاد ذوي الصفات العمومية فيما يقومون به من أعمال قد تكون ضارة بالمصلحة العمومية مع اشتراط حسن نية الصحفي قد لايوفي بالغاية من تلك الاباحة التي كما حددتها محكمة النقض المصرية في التوصل الى محاكمة هؤلاء ذوي الصفات العمومية وتطهير المصالح من شرورهم محكمة النقض: 7 فبراير1973 رقم 695 لسنة 39 قضائية مجموعة الاحكام القانونية في: 25 عاما الجزء الثاني بالصفحة: 731. ونتساءل مرة أخرى: ما دخل حسن نية الصحفي أو سوء نيته؟ ولماذا الاهتمام بهذا الأمر مادام أنه يكفي لتحقيق الرقابة على تصرفات ذوي تلك الصفات والحد من عبثهم بالمصالح العامة أن تكون وقائع القذف صحيحة وسليمة؟ إن المشرع أصبح مجبرا على الانصات لنبض الشارع مباشرة من خلال نداءاته الصادقة الملحاحة، ومن خلال شعاراته الهادفة بعد أن كان ذلك الانصات ممكنا من خلال الصحافة فقط لو أنه أي المشرع سارع قبل ذلك إلى «الإفراج » عن حرية التعبير بواسطتها بإصدار قانون ينظم ممارستها ويحميها بكيفية ألطف مما عليه الأمر في القانون المطبق حاليا المتسم بالكثير من التضييق والتشدد والغلو. واذا كان لابد من تقييد لحرية التعبير بما فيها الصحافة فإنه يجب أن يكون ذلك التقييد محددا بنص القانون وأن يكون ضروريا دون أن يشكل عائقا أمام الممارسة الفعلية والمسؤولة لتلك الحرية، مع اعتبار التقييد استثناء لايتوسع فيه، ولا يلجأ إليه إلا عند الضرورة المجتمعية.