لم تهدأ الحركة في الشارع طيلة الليل، كأنهم لا ينامون ?أقول مع نفسي. ومع الإشراقة الأولى أخذ المارة ينطلقون باتجاه أعمالهم، توقف أحدهم يتأملني ! كانت تلك واحدة من المرات النادرة أجدني فيها وجها لوجه مع بعض الناس. أجدني فيها موضع فحص من أحد الفضوليين. لست أدري ما الشيء الذي جذبني إليه وجعلني متميزا في نظره ! بالتأكيد إنها ليست آثار التعذيب البادية على روحي، أنَى له أن يراها. ورغم هذا توقف طويلا يتملى في طلعتي، وبعد لحظة أخذ يتطاول بأقدامه ويشرئب بعنقه. ماذا يريد؟ يريد أن يعرف ما هو أبعد، أن يتحقق من شيء غاب عنه. سبق أن عَبَرَ بعضهم قبل ذلك دونما اهتمام، لم يلتفتوا ولا هم توقفوا. كانوا يعبرون إلى جانبي ? مثلما عبروا بالأمس وقبل الأمس- وكأنني لست منهم، وغير موجود بينهم. كان هذا يريحهم ولكنه لا يريحني. هل تدري لماذا؟ وفي هذه اللحظة سمعتُ ? سمعتُهُ ولم أشاهده - أحد السكارى وهو يردد مع العتمة الشفافة :عشت كالتائه.. كالتائه.. لا أدري.. لمن أحيا.. الحياة.. لعله اليوم الرابع، لست متأكدا من شيء، وأنا منطرح هاهنا، منجذبا إلى الصور تعبر أمامي، صورة الرجال وهم يخرجون من دغل الأشجار المتوحشة لا تفارقه، كان ذلك مع هبوب النسمة الباردة، لم يكن أحس مثلها سابقا، لم يكن شاهدهم، ولم يبصرهم قط، ولا هو يعرفهم، لا يعرف أي واحد منهم. اقتادوه راجعين إلى الربوة. كانت السيارة تختفي خلف الأعشاب الكثيفة الملتفة حول الجذوع. إلى جانب الشجرة يقف الشاب قبالتي، عيناه تحدقان بفضول بالغ، يريد أن يتعرف على خصوصيتي دونما خجل. كانت ملابسي عادية، بل رثة، بها تمزيق عند الفخذ. لست أخجل من قول هذا، وإذا كانت هيأتي توحي بشيء، فليس الحزن وإنما المعاناة. وأنا كما يعلم كثير من الموتى لا أتورع عن فتح صدري واحتضان أكوام من الأحزان. وهذه ذراعي قد انبعجت من تحت كتفي ? ألا تراها؟ أخاطب الشاب أمامي- دون أن اشتكي مما تسببه لي من ألم. إنني مرتاح وأنا اتكئ هكذا عليها. كان نصف وجهي ينحني في هدوء ? كما في لوحات الحركة الانطباعية- على الجدار، بينما النصف الآخر ينظر في شرود إلى الشرفة القريبة. هل جربت أن تنظر في شرود؟ مرة أخرى أسأل هذا الواقف أمامي وأنا أدقق النظر إلى صدغه حيث اختفى جرح خفيف، لعله من بقايا أيام الطفولة، هكذا أردد مع نفسي. وهكذا أيضا قال الرجل وأخذ يدعسه من جهة الكتفين، كان يحشر الرأس بين الفخذين. بينما الآخر يحكم وضع الأصفاد في المعصم كأنه لا يثق في التكنولوجيا. تأوه ! عاد الذي إلى اليمين يلعن ويشتم وهو يضغط الرأس مزيدا جهة زهرة القرنفل، وانتظر يراقب ردود أفعاله. لم تكن له ردود أفعال، لم يصدر عنه أي رد فعل. وبعد أن أشبع جنوحه إلى التعذيب توقف، يذخر الطاقة إلى لحظة قادمة.. وهذا الذي على مقربة هو بدوره أشبع فضوله مثل سابقه، تزحزح قليلا، ثم مضى يكمل الطريق حيث يقصد. سمعتُه يهمهم بعبارة ذات نبرة احتجاجية، شابها قليل من الغموض. ولهذا لم أتبينها جيدا، فقط تتبعتُ معناها من الملامح. وما كان شوَشَ علي الأمر هو جماعة من الرجال كانوا على مبعدة في دكان يخرجون منه بضاعتهم، يتهيأون لسوق الخميس، هكذا تفكرت، كانوا يحملون ويضعون الصناديق والأشياء دون ترتيب، ودون مراعاة لأحد ! أنا كنت متعبا وشبه نائم، أريد أن أستريح قليلا، لكنهم كانوا يعملون كأنهم وحدهم في خلاء المحروسة المثقوب. قليلا يطلع النهار ويعم الضياء. العابرون يطرقون الأرض بالأحذية مسرعين. كانوا يعبرون في صرامة، يعبرون متجهمين، يعبرون متدثرين بالخوف من الرؤساء والمديرين، يعبرون في حذر أن تفلت منهم مصالحهم، ما أن يدركوها حتى تفلت أكثر، ويعاودون السباق إلى ما شاء الله. يغض الطرف عنهم، الوجه إلى الحائط البارد، العتمة سوداء والنسمة قارسة، تلسعه في الأطراف، يحسها ولا يراها. من اليسار تأتي روائح عطنة. يزداد اضطراب خواطره. نشف الريق في حلقه. كيف له أن يخرج من هذا الصمت القاتل ! اغتنم الفرصة للتحرك فاذا بالواقف خلفه يصفعه على القفا. تألمت، كان ألمي باد? للعين المجردة. جثم غير بعيد ينظر إلى ألمي. لستُ أدري هل عرفني؟ إنه الطفل المشتغل عند النجار. كان يمضي مبكرا إلى الورشة. كان شاهدني وشاهدته. كان استشف من هيأتي ما ارتاح له، حاولت أن أعابثه بتقليد صوت الطائر، جذبه أحد رفقائه: دعه.. إنه السكير، تعود أن ينام في أي مكان. وغادروا جميعا وتركوا الباب مواربا، قبل أن يجيء حارس المساء ويحكم إغلاقه بالرتاج، كلاك ، كلاك... زعقت سيارة على إحدى السيدات. انتبه مجموعة من الأطفال ينتظرون سيارة النقل المدرسي. انفزع أحدهم حين عاد الزعيق. بعدها مباشرة فتح صاحب ?التيليبوتيك?، دخل رجل بجاكيتة وكاسكيت على رأسه، لا علم لي بما فعل، ثم خرج. وأثناء مروره وقف طويلا على البعد مني. في العينين نظرة جارحة. فكرت لا شك أنه رجل أمن، لعله يحمل صورة لأحد المشبوهين. أنا لست مشبوها ? قلت له- عليك أن تطمئن. لم يكن هو الوحيد. كثيرون يحتفظون برجل الأمن في داخلهم، في مكان ما من الدماغ. هذا ما اجتهدت فيه مدينة المحروسة. أعرف أحدهم يحرص على رجل الأمن في داخله ويحدب عليه في حب وحنان، ويرفض له أن يغادر ولو من باب ضيق، يهبط سُلَما معدنيا حلزونيا، كاد يتعثر، درجات أخرى ثم دخلوا به ساحة كالملعب. العفونة في كل مكان. هنا يتم ترويض الحيوانات التي في الطريق إلى الانقراض- سمعه يقول. الأقدام تغوص في سائل لزج. الأصوات انكتمت إلا من التأوه. الضوء الباهت يوصله إلى الدهليز المعتم. في أحد المكاتب أمامه رجل بنظارة سوداء. قال: انت .. ع.ع ؟ بتردد: .. أنتم تعرفون .. قال : من زمن .. ونحن نبحث عنك .. تساءل: أنا .. لماذا ؟ قال : كفاك افتعالا.. اعترف خيرا لك. عاد يتساءل : كيف ؟ بأي شيء ؟ قال: تريد أن تعرف لماذا ؟ اندهش : أنا لم .. قال : هذه الأوراق ! آثار الدم ! .. وفكر ربما كان على علاقة بالهجوم على الباستيل، أو كان له اتصال بالعشرة أيام التي هزت العالم، ربما يكون وراء التحضير للاجتماع السري مع كرومويل، ولعله شارك مع الحركة الشعبية في الجبال والأدغال، ويُعتقد أنه الزعيم المفترض لقبائل الهون، وعلى أقل تقدير أليس ينتمي إلى غلاة أصحاب حمدان قرمط، بل يقال إنه من الثلاثة المدبرين لعملية الفرار من الأرخبيل، وإنه أقام ردحا من الدهر في قلعة المنفى.. انفتح الباب الثقيل. تردد الصدى في الفراغ. وقف ينظر حواليه كالمذهول. انتبهت إلى ملابسي، انفزعت بجنون، من أين هذه الدماء! لذت بالصمت والخوف. ما كان لي أن أتكلم، وتقول الفتاة لصديقتها : لقد كان قاسيا معك، ما كان عليه أن يفعل! ثم توقفتا عند ?البوتيك? إلى جوار بائع الأثاث المستعمل. دخلت الأولى، وعادت لتفتح الهاتف وتتحدث مع صوت في الطرف الآخر: آلو، أنا نُهى.. نعم ، أنا قادمة ومعي نسرين ! كانت تتحدث بانفعال. اقتربتا مني، وأمسكت إحداهما بالأخرى : ياه .. انظري ، هل عرفته! إنه رجل الأمس صاحب النكتة البذيئة ! ما لهم يتحلقون حوله ؟ قالت الأخرى. عَبَر إلى جوارهما بضعة فتيان، يتحدثون عن العثور على جثة شاب مقتول تحت الجسر جهة ?سيدي علي?. يقولون بأن رجال الدرك يحققون اللحظة مع أهله وأصدقائه.. وتقدم بائع متجول يدفع عربة عليها الخضر، أحاط به بعض الزبناء. سقطت من أحدهم ورقة نقدية من فئة عشرين درهما، قال : هل تريد أن تقول شيئا؟ كان عاجزا عن الكلام. عاد يكرر عليه، ما لك منكتم، ماذا تريد أن تقول ؟ كرر ذلك مرتين. تحدث مع نفسه بصوت منخفض لا يسمعه أحد، كان يود نزولا عند قواعد اللياقة أن يبعث بأشواقه ومودته ضمن رسائل إلى أصدقائه في المحروسة حرسها الله.. انفجر صارخا في وجهه: تستهزئ بنا، سوف يكلفك ذلك حياتك. ولم يرد أن يكلف نفسه مزيدا من الانفعال بعد هذا التعذيب. لكن أحدهم تحرك من جهة المكتب ومضى إلى الزاوية واستخرج من الجدار صندوقا معدنيا، وأخذ يستعرض ما به من العصي والسلاسل والأطواق والأصفاد والكمامات.. ركبني رعب مهول. بدرت مني التفاتة بالخيال. كنت أفكر أنني قريب من المنعطف، بعده يلوح البيت على مرمى البصر. كانت الأمطار تساقطت بشدة. كنت كالمشدود بين هاويتين. بعد قليل نفضت السماء دكنتها واستعادت صفاءها، تَبَدَتْ معها الطريق سالكة، وهو لا يزال منطرحا على الأرضية الملطخة يتأوه ويتعفن، رفسه صاحب الحذاء الثقيل، كانوا أمامه يتبادلون الهمس والنظرات والتهديدات. صفعة ذات شحنة كهربية عالية. مال وجهه مزيدا إلى الجهة الأخرى. تبول في سرواله. انكمش منخذلا. سقطت الدموع من عينه. سقط الدم من أنفه. تهاوى ساقطا على الأرضية اللزجة. وإذا به بين الحياة والموت، يقف بين ثلاثة أشخاص: قال الثالث : أين أخفيت الممنوعات .. وآلة الطباعة ؟ قال الأول : اعترف بالمنسوب إليك.. أفضل من .. قال الثاني : تناور كعادتك.. يا ولد ال... وعندما عادت الزوجة والأولاد، وجدوا رائحة الموت فاحت والجثة متحللة على الرصيف، وليست تثير أي شعور لديهم، ولم يصدر عن أحدهم أدنى إحساس. ركدت المشاعر في الأسفل كالمستنقع. وجلسوا ينتظرون شاحنة الأزبال التي تمر مع الفجر كي يتخلصوا من الجثة، من جثتي .