الفيلم الأمريكي «شجرة الحياة» (138 دقيقة) الذي فاز هذه السنة بالسعفة الذهبية بمهرجان «كان» يعرض حاليا في بعض القاعات السينمائية ببلادنا، و قد كان منتظرا أن يقدم في أول عرض له خلال الدورة السابقة من هذا المهرجان، و لكنه لم يكن آنذاك جاهزا. الممثل و المخرج و السيناريست الأمريكي تيرانس ماليك هو الذي كتبه و أخرجه، و هو فيلمه الخامس إذ سبق له أن أنجز أفلام أخرى من بينها فيلم «العالم الآخر» (2006) الذي كتبه و أخرجه و أنتجه، و فيلم «الضفة الأخرى» (2005) الذي قام بإنتاجه. الفيلم الجديد يشترك في بطولته ثلاثي متكون من الممثل المشهور براد بيت في دور الأب «أوبريان» و الممثلة جيسيكا شاستاين في دور زوجته التي رزق معها ثلاثة أبناء، و الممثل المقتدر شين بين في دور ابنهما «جاك» الذي كان طفلا وأصبح رجلا، و تجدر الإشارة إلى أن الأطفال الذين شخصوا أدوار الأبناء الثلاثة للسيد «أوبريان» و زوجته كان أداءهم تلقائي و جيد و مقنع رغم كونهم لم يسبق لهم أن مثلوا من قبل. القصة عبارة عن فلاش باك لطفولة «جاك» الذي كان يعيش خلال فترة الخمسينيات في «طيكساس» رفقة شقيقيه الصغيرين في أسرة أمريكية مكونة من أم (ربة بيت) تغمرهم حبا و عطفا و حنانا، و أب (مهندس) يحبهم أيضا و لكنه أناني و قلق و سلطوي و صارم في تعامله معهم لكونه مهووس بضرورة نجاحهم في مستقبلهم، و كان «جاك» هو أكبر أبنائه سنا (في سن المراهقة) و هو الذي كان يكابد الجزء الأكبر من معاملته الصارمة. سينقلب مجرى حياة هذه الأسرة كليا بعد حدث تراجيدي مفاجئ فقد فيه «جاك» شقيقه الأصغر، و هي مأساة مفجعة أدخلت كل أفراد هذه الأسرة عامة و الأم خصوصا في حزن كبير و معاناة نفسية عميقة و طويلة المدى لم ينساها «جاك» طول حياته و مازال يتذكرها و هو على وشك أن يصبح هو أيضا أبا.. تبدو هذه القصة عادية و مستهلكة و بسيطة بمضمونها و نوعها و لكنها متناولة بطريقة فلسفية مركبة و عميقة مما يجعلها صعبة الفهم من المشاهدة الأولى، إذ تم استعمالها كسبب للحديث عن الحياة و الموت، عن ولادة الكون و الكرة الأرضية بسمائها و غيومها و بحارها و براكينها و كوارثها و كائناتها النباتية و الحيوانية و البشرية من الحمل إلى الجنين إلى الولادة و ما بعدها من عناية و تربية و مسؤولية. الحكي لا يعتمد على الحوار أساسا، بل يعتمد على الصور أكثر، و هي صور طبيعية شاعرية و شبه وثائقية مرتبطة بالكون والوجود و بالخالق و المخلوق، و مصحوبة بموسيقى تصويرية منسجمة معها و مؤثرات خاصة مقوية لها. القصة تبدو في هذا الحكي مفككة و مشتتة، و لكنها محبوكة و متماسكة بقوة، تتطلب من المشاهد تركيزا للربط بين أحداثها المبعثرة و فهمها، هي قصة بدون مفاجآت و لكنها مثيرة للفضول و التأمل، تتوالى و قائعها بإيقاع بطيئ إلى حدود الملل خلال النصف ساعة الأولى. يدخل هذا الفيلم في إطار أفلام المؤلف بالمفهوم القديم و الأصلي لسينما المؤلف و ليس بمفهومها الجديد و المميع، و هو ليس تجاريا و غير موجه لكل المشاهدين و لن يروقهم كلهم، هو فيلم يكرم الحياة و ينتقدها في آن واحد، يجمع بين الواقعي و الفانتاستيكي، بين الفيزياء و الفلك و البيولوجيا و الدين و الفلسفة و الفن، فيه عواطف و أحاسيس و تساؤلات يتم طرحها دون الإجابة عليها، تساؤلات عن الخالق و المخلوق، عن السعادة و الشقاء، عن الدنيا و الموت و الحياة التي ترحم البعض و لا ترحم البعض الآخر، تغني البعض و تفقر البعض الآخر ، حياة يموت فيها طفل صغير غال و بريء ليعيش أفراد أسرته بدونه طول العمر ألما و تعاسة و حزنا. أحد الزجالين المصريين كتب منذ ما لا يقل عن ثلاثين سنة للفنان عبد الهادي بلخياط أغنية مستهزئا بالحياة يقول مطلعها : «بيسموها الحياة... و هي من البداية بداية النهاية...نهاية المأساة...، جينا لها غصبا عنا...نزلنا نبكي فيها من لحظة الولادة». البداية عند هذا الزجال هي الولادة، و النهاية عنده هي الموت طبعا.