نلتقي حول حمامة. لا أدري هل من الصواب ان نتحدث عن حمامة واحدة. أم عن حمامتين يفصل بينهما قرن ونيف. حمامة تحدث عنها المفضل أفيلال حوالي سنة 1861 ، سنة أو أكثر بقليل، بعد احتلال اسبانيالتطوان في «حرب الستين»، كما تسمى في النصوص القديمة. وقد ورد ذكر لفظة «حمامة» في قصيدة شجية ذات 42 بيتا أنشأها الشاعر بمناسبة ذلك الاحتلال. وهناك حمامةليست اقل شهرة، رافقت جل أعمال مبدع آخر من تطوان هو أحمد بن يسف. وكان الشاعر محمد الطنجاوي قد رأى في حضور الحمامة في لوحات بن يسف أنه بمثابة توقيع الرسام للوحاته. إذن نحن امام حمامة، ومبدعين، ومدينة.
المفضل أفيلال، في حد ذاته، يحيل على عدة آفاق: أفق أفيلال الشاعر والمفكر، أفق عصره المليء بنكسات طبعت حياة بلد كان قد دخل في فترة الاحتضار، أفق إسبانيا / المغرب، وحرب تطوان، وأفق تطوان، المدينة نفسها، وما مثلته منذ أن نزل بها الغرناطيون وأعادوا لها الحياة، طيلة ما ينيف عن 560 سنة قبل الآن. ويحيلنا أفيلال أخيرا على أفق تطاون البهية، التي كانت حتى «حرب الستين» عاصمة للدبلوماسيا المغربية، منذ إنشاء منصب وزير البحر، وتكليف عامل تطوان بالتواصل مع مندوبي الدول المعتمدين لدى ممثل السلطان. افسح المؤرخ محمد داود في معلمته «تاريخ تطوان»،خمسين صفحة للمفضل أفيلال، تضمنت ترجمة مطولة هي بمثابة توليف خاص. ووصفه بأنه فقيه، مشارك، مدرس، خطيب، أديب، رحالة. وهذه الصفة جميعا تشهد عليها مآثره المكتوبة هي الدفاتر التي يقول عنها داود إنها «مكتوبة بخطه الحسن»، وفيها أودع أفيلال انتاجه الأدبي وسجل بها أطوار حياته، وما قام به من الرحلات، مع معلومات وطرائف أدبية. ولم ينتبه الى براعته في تزيين الكتب وبعض الوثائق التي كان يحررها، برسوم وأشكال منسقة، سوى حفيده التهامي أفيلال الذي عرف الجمهور الواسع بتلك اللوحات الفنية الجميلة التي تجعل المفضل افيلال مصنفا في عداد المبدعين التشيكليين. وقد فصل القول في هذا الجانب في بحث مركز الرسم بوعبيد بوزيد. مدير متحف تطوان للفنون الجميلة. وأثنى داود المؤرخ المتعطش للمعلومات، على ما دونه أفيلال، فقال: وكان معتنيا بالكتابة والتاريخ، وترك بما كتبه في دفاتره ماعرفنا بتاريخ حياته وأحوال عصره وحوادثه، مما لم نقف عليه عند غيره. ولو كان يقول داود كل طالب علم قد فعل مثله لكان تاريخنا حافلا بالأخبار والفوائد. (ص 322 من المختصر) ونعرف أن أفيلال ولد سنة 1239 (حوالي سنة 1824) وعاش 63 سنة إذ توفي سنة 1304 (1887). وذكر داود أن أفيلال ساح في مختلف مدن المغرب ونواحيه. مثل فاس ومكناس ومراكش ووزان وشفشاون وسبته. ودون رحلته المكناسية نظما في حوالي 120بيتا. ومن مؤلفاته تقييد عن حرب تطوان، كان بمثابة يوميات لوقائع الحرب، وهي أحد مصادر ثلاث اعتمدها داود في رصد وقائع «حرب الستين» والمصدران الآخران هما مؤلف مغربي مجهول ومصدر إسباني. وتميز تقييد أفيلال برصده لحالة المدينة عند إعلان الحرب من قبل الإسبان وتحركهم من سبتة، وبعض الوقائع المهمة قبل الاحتلال. والذي يهمنا هنا هو قصيدته الشهيرة التي مطلعها: يادهر قل لي على مه / كسرت جمع السلامة وفيها ورد البيت الذي تردد على كل لسان: تطوان ماكنت إلا / بين البلاد حمامة وللمفضل أفيلال قطعة أخرى في نفس الموضوع، ومطلعها: جاد الزمان على الأحبة بالمنى / رغما على أنف العدا فلنا الهنا وذكر داود أن هذه المقطوعة أنشأها الشاعر حينما قوي الرجاء في استرجاع المدينة، كما أن له قطعة من الملحون، ومطلعها: صبرو الحكام ربنا / مولى الملك حكيم وذكر داود منظومات أخرى في نفس الموضوع لثمانية شعراء من تطوان. ويظهر أن الآراء اختلفت بشأن البقاء في المدينة تحت الاحتلال أو الهجرة منها، وهو ما يذكر بالنقاش المماثل الذي كان في الأندلس حينما لاحت علامات قرب انقراض الوجود الإسلامي في العدوة. ونلمس مما دونه أفيلال وما تضمنته قصائد قيلت بالمناسبة، أن السلطة حاولت أن ترغم الناس بالقوة على عدم المغادرة. ونقف من جهة أخرى على معلومات بشأن تصرف الجيش الذي أوتى به للرد على الزحف الإسباني ولكن رأى الناس منه ما لايسر. وتفيد تقاييد كتبها شهود عيان أن أفرادا من ذلك الجيش نهبوا السكان واعتدوا على الملاح طلبا للمال والحلي، وكان ذلك عاملا إضافيا حث الناس على المغادرة. وكان الأمير العباس شقيق السلطان قد قرر أن يسجن كل من أخرج أهله من تطوان. وحين استفحل الأمر كتب أفيلال: فلما رأيت جميع من يتصرف في تطوان طبع الله على قلوبهم وأعمى أبصارهم، خرجت من بينهم وذهبت لبني صالح، جبل مشرف على المرسة والمدينة، وثم الى بوسملان، ومنه إلى بني حسان، ثم شفشاون. وكان ذلك في الشهر الثالث للحرب. يوم 19 يناير 1860. وفي 22 يناير عزل القاضي عزيمان لأنه أفتى للناس بإخراج أولادهم. ولكن ع. س. بن ريسون جمع علماء المدينة فأفتوا بوجوب الهجرة وبإبعاد الأهل والولد والمال عن موطن الخطر. وكان جيش السلطان يسلب الفارين. وسمي هؤلاء بالمهاجرين، وسمي الباقون في المدينة بالمتخلفين، أي الذين تخلفوا عن الهجرة. ومن هؤلاء فئة عرفت بالمتنصرة ممن خالطوا المحتلين. أما أحمد بن يسف. فحمامته مصورة، وهو أيضا يحيل على نفس الآفاق التي يحيل عليها سلفه: أفق المبدع التشكيلي، وأفق عصره وهو الوقت الراهن. ولكن، إذا ما اختلف مجال الإبداع واختلف عصر المبدعين فإنهما معا يشتركان في أنهما يحيلان على تطاون البهية، وأيضا على العلاقة مع إسبانيا. بين الحمامتين بون يقدر بأكثر من مائة سنة. فحمامة أفيلال ولدت حوالي سنة 1860. إذ يقول هو نفسه: هل للوصول سبيل / فالهجر أكمل عامه وأما الحمامة المعاصرة فقد ولدت عبر ريشة الرسام بن يسف فيما بين تطوان التي تخرج من مدرستها للفنون الجميلة، وإشبيلية التي استقر بها سنة 1967. وقد أقام معارض مستقلة وأخرى مشتركة فيما بين 1962 وزمن التحاقه بإشبيلية. وهو وحده الذي يمكن ان يحدد لنا تاريخ ظهور الحمامة أول مرة، في أعماله التشكيلية. وحينما تكرر ظهور الحمامة لاحظ الشاعر الإسباني طينو كروث ان الحمامة بنت زمانها. فقد رأى فيها ملامح من دمشق وفلسطين ومصر وتطوان، وهي إحالات تذكر بالنشيد القومي الشهير، الذي يقف أحد أبياته بمصر فتطوان. ويقول بن يسف إنها حمامة تتكرر، ولكنها تخضع لعدد من التحولات، وتتحكم فيها زوايا نظر تتكامل، بيد أنها لاتتشابه أو ينسخ بعضه بعضا. لقد عرفت به وعرف بها، حتى قيل إنه رسام اليمام. وقال بذلك شعراء ونقاد، وكثير من الشعراء تحدثوا عن أعمال بن يسف، وعدوه يرسم شعرا. وقالوا إن حضور الحمامة في اعمال بن يسف إشهار لقيم الحرية في وجه الاستبداد. وهو شخصيا يقبل القول بأن الحمامة هي عينه الثالثة التي يرى بها. ويزيد إنها حاسته السادسة. نضجت حمامة بن يسف في الثمانينيات، حيث بدأت تحتل مكانا ثابتا في أعماله منذئذ، وهي تعبر عن أحواله الداخلية في هدوئها وفورانها. ولكنها لكل تأكيد حمامة تعانق دائما، هناك في الأعالي، القضايا الملحة على حاضرنا. في لوحة المسيرة الخضراء (1983) ارتقت الحمامة الى مرتبة الرمز الوطني السامي. إنها حمامة منطلقة، تأبى أن تدور إلا في فلك الرموز العليا. إنها تحلق فوق الرؤوس، وتكاد تكون هي التي تعلم الطريق للمسيرة. إن بن يسف، بتفوقه الحرفي، وبشاعريته التي تتجلى في ريشته وفي كلمات، يتمكن من أن يحلق في أجواء يتقنها هو وحده. مرة سمعت استاذنا المهدي المنجرة يصفه بأنه عبقري من معدن نادر. وقال «أحيانا يتصور نفسه وكأنه هو بن يسف». وبن يسف متكلم بارع وكاتب له عمود أسبوعي في جريدة أندلسية. وقد أحسن التعبير بطلاقة وتلقائية في الحديث المطول الذي نشرته «الاتحاد الاشتراكي» طيلة شهر رمضان الماضي، الذي تحدث فيه عن مسيرته الفنية، وعن النقد، وعن آرائه في الحياة، وفي الفن، وعن المدينتين اللتين يعيش فيما بينهما. إحداهما تمثل خزانا للذاكرة والثانية تمثل فردوس الأحلام، وكان الحديث نصبا بديعا، هو ثمرة متكلم له ما يقوله، ومحاور بارع، ومؤطر حرص على أن تكون المادة التي وصلتنا، ممتعة وغنية. فتح أحمد بن يسف عينيه في بيت أندلسي هاجر الى تطوان. وفيه أبصرت عيناه مفتاحا لبيت قديم في قرطبة. ولما استوى عوده عاد الى عاصمة الآندلس على جناح حمامة. والعلاقة بينه المكانين علاقة انتماء أو تجديد للانتماء. أنجز في إشبيلية مأثره ستخلد الى الأبد اسم التطواني الأنيق، الذي آوه لزمن طويل ميصون ديل مورو. أعني جدارية مائوية فريق سبيلية ك.ف. وقد قيل عنها إنها أضحت الآن إحدى ثلاث معالم يحرص السواح، من زور إشبيلية، على أن يتصوروا معها، الخير الدة، والكاثار، وجدارية بن يسف. تحدثت عن الحمامتين، وقليلا عن المبدعين، بعد الحمامة والمبدعين، كان لابد من الكلام عن تطوان لنعرف سبب الجزع الذي أحسه المفضل أفيلال، وهو يرى أن مدينته تسقط. ولنر أيضا كيف أصبحت المدينة الملهمة للرسام بن يسف، أفيلال هاجرها لأنه لم يكن يريد أن يراها إلا كما عشقها. وبن يسف قال صراحة إنه لم يعد يجد فيها إلا بقايا أطلال من زمن زاهر. الحديث عن المدينة التي قال عنها الحلوي إنها «ضمت إلى الباقة العطرا» بالنسبة لبن يسف ولجيلي، هو حديث عن الطفولة، عن محراب، عن حديقة، عن منبع للإلهام . منذ أن كتب محمد الصباغ «كرهتك ياتطوان» لم أسمع إلا من بن سيف أن «تطوان هي حبه الذي يكرهه». سأختم لأبدا هذه المسامرة بسؤال: ماهذا الحب الذي يمتزج مع الكراهية؟ هامش فأورد مثلا لمحمد القيسي الذي وصفه بالفقيه ومن عدول تطوان. ومطلعها: تصبر بحكم الله في القوم إد جرى / عليهم بأنواع الوبال المحتم وقال داود إنها في 107 أبيات وذكر أيضا قطعة لمحمد السلاسي، من عدول تطوان، ومن المتخلفين بها لدى الاحتلال، ومطلعها: أيا درة البلدان حل بك البلا / فصرت لأهل الكفر مأوى ومنهلا وهي في 32 بيتا. كما ذكر قطعة للشيخ المكي بن علي بن ريسون. وهي في 42 بيتا، ومطلعها: قد أصيبت تطواننا الغراء / بدواهي ليس عندها دواء وذكر أيضا قطعة لم يعرف ناظمها ، وهي في 13 بيتا، ومطلعها: أروم سلوا والزمان يعوقني / واطلب قربا والمصائب تقصيني ولناظم مجهول من المتخلفين، قطعة في 13 بيتا مطلعها: لئن خيم الهجران وانكشف الأمر / وأصبح في الإعراض عن وجهك البدر وللفقيه أحمدالجندي قطعة في 15 بيتا، مطلعها: فأهل تطوان هاجروا لبارئهم / والعز في الهجرة والقرب والنظر وذكر أخيرا لمجهول قطعة مطلعها: يآل تطوان لازالت محاسنكم / يسمو بها الدهر والعليا تساعدكم هذا المقال نتاج لقاء أقيم يوم الثلاثاء الماضي في الصالون الأدبي «عش الحمامة» الذي يديره الأستاذ الشاعر التهامي أفيلال بمنزله في الرباط، وقد بدأ مشروع هذا الصالون باستضافة الفنان أحمد بن يسف.