من منا لا يعرف "الكسال"، الإنسان الكادح الغلبان الذي يعاني من اجل رغيف الخبز لأسرته، الصبور الذي يتحمل ويقاسي نوائب الزمان ولا يبوح بسره، ولا يتحدث على حاله، بل هو ملازم للصمت والسكوت على ما قدر له، لاشك أن كل واحد منا يختزن في ذاكرته برؤى ما عن هذا الرجل الذي يشقى ويتعب داخل قيض الحمام و رمضائه، يستنفذ طاقته وقواه وسط المستحمين وأوساخهم، ومهما اختلفت الرؤى المخزونة عن هذا الرجل، فبدورنا في جريدة العلم سافرنا إلى الحمام وحاولنا أن نقارب رؤانا عن هذا الرجل، مسلطين الضوء على حالته الاجتماعية والاقتصادية باعتباره إنسانا مهددا في سلامة جسده، وفي هذا التحقيق حاولنا أن نجالس بعضهم علنا نستشف من جلساتهم صورة كاملة لمهنة اقل ما يقال عنها أنها صعبة جدا وخطرة جدا، وذلك بشهادة من قضوا سنوات في هذه المهنة في تحد وصبر وإصرار على التكيف مع مشقة العمل، وكيفما كان الحال فمن أراد منكم أن يستحم استحماما حقيقيا فعليه "بالكسال" أما الثمن فكما العادة في جميع مهن الهامش، أمر لا يمكن الاختلاف بشأنه، أنت وأريحيتك. ******************* كم كنا نفرح ونحن صغارا، كلما حان وقت الذهاب لحمام الحومة كما نسميه مصحوبين بأفراد العائلة، أو مع الأصدقاء وحتى بمفردنا، فالمتعة كانت لا تضاهيها متعة حين كنا ننبطح لنتزلق فوق أرضه المبلولة بالصابون، الحمامات تخفف توترات النفوس وتخلصها من خمولها وكسلها خاصة بفضل تدليك (الكسال)، وبقدر ما كنت افرح لذهابي بمفردي أو رفقة الأصدقاء سنوات الستينيات بقدرما كنت امقته بشدة رفقة جدي رحم الله لسبب وحيد، حيث كان يقوم بحك جسدي بمشط دون أن يعير اهتماما للألم الناتج عنه ودون أن يحفل بصراخي وهو يقوم بتمرير المشط على أطرافي ولست ادري ما الذي كان يدفعه لهذا، أما اليوم وفي مثل هذا السن حيث يتقدم بنا العمر، لن أخفيكم سراً انه كلما دخلت حمام الحومة الحامي بصهده يتملكني ذلك الشعور المريح، ففي الحمام تزول الفوارق الاجتماعية والطبقية..هكذا إذن أتخيل الحمام وصهد الحمام الذي يتوفر على ثلاثة أقسام، الأول ،والأوسط وبيت "السخون" أو" تافضنة" كما يسميها أهل البهجة الذي يضم "البرمة"، تزداد درجة الحرارة به كلما انتقلنا من قسم إلى آخر، وكنت ولازلت كلما دخلته اختار القسم الأول حيث الحرارة أقل من القسم الأوسط واقل بكثير من ذلك الذي تفيض من " تافضنة"، ومنذ عقود وحتى في زمننا هذا كانت ولازالت هناك حمامات منتشرة في الأحياء، واغلب المغاربة رجالا ونساء يذهبون إلى الحمام مرة واحدة على الأقل في الأسبوع، وقد كانت الحمامات التقليدية منذ القدم في بيوت مظلمة أشبه بالدهاليز، ماؤها شديد الحرارة، حيث لا يستطيع المستحم المكوث فيها كثيرا، يدخل المستَحم إلى "الكلسة"ويودع حوائجه لدى "الكلاس" في مكان خاص ويدخل الحمام ليغسل بدنه، بخار الماء الساخن يحجب الرؤية، السقف تتجمع به بعض قطرات الماء البارد، لتسقط الواحدة تلو الأخرى، سقوطها يشعرني بالقشعريرة وسط هذا الحمام الأشبه بجهنم. الخوف من المستقبل و ضياع العمل بالحمام من اكبر هواجس المشتغلين به كان بوجمعه منهمكا في تمرير قفاز"خرقة" سوداء على ظهر رجل ، كان منبطحا على إسفلت الحمام.. بوجعه "كسال" مشهور بهذا الحمام، وزبناؤه كثر، وحسب بعض المستحمين يكفي أن تمنحه عشر دراهم أو أكثر بقليل لينزع عنك الأوساخ وخلايا جسدك الميتة، كثير من المستحمين يرون أن "الكسال" ضروري في المجتمع "فأحيانا يجد المرء نفسه متعبا وعاجزا عن حمل الكيس أو "الخرقة" لتنظيف بدنه وسرعان ما يجد أمامه رجل الخلاص الذي يغنيه عن عناء "التنظيف" وإزالة الأوساخ، وهو "الكسال"، يقول بوجمعه الكسال المتحدر من مدينة الجديدة انه اعتاد على العمل المظني معتبرا أن في ذلك أجرا كثيرا وتواب كبير وتقول خدوج الطيابة أنها تختلف خدماتها عن الكسال، فهي لا تقوم بمساعدة النساء على تنظيف أجسادهن فقط، لكنها أيضا تقوم بخدمة الزبونات بدءا من تخصيص أمكنة لهن، وكذا توفير المياه الساخنة ثم سهرها على إزالة أوساخهن وتسريح شعرهن إلى آخره، ومن خلال زياراتنا لبعض الحمامات الشعبية التي تعتمد في تسخين المياه على (الفرناتشي) بواسطة الخشب، لاحظنا أن أغلب "الكسالة" لا يتجاوز مدخولهم اليومي مبلغ 50 درهم في اليوم الواحد او 70 درهم في اقصى الحالات، فهناك من يمنحهم 10 دراهم، وهناك من يتجاوز ذلك بقليل، ميلود كسال قضى سنوات كثيرة من عمره لم يتذكر عددها في ممارسة هاته المهنة وبأكثر من عشرة حمامات بمدينة الجديدة ونواحيها، يقول إن هذه المهنة أنهكته وأضعفت طاقته وهو باستمرار يبحث عن منفذ آخر للرزق دون جدوى، ومع ذلك يقول ميلود " أني أخدم الرجال بالحمام وكما يقال سيد القوم خادمهم، ويضيف لا أشعر بالخجل وأنا أمارس هذه المهنة الشريفة التي وفرت لي طرف ديال الخبز حلال باش نعيش الزوجة والأولاد" بينما علال الذي قضى في مهنته أكثر من خمسة عشرة سنة لا يخفي خوفه الدائم من المستقبل، يقول علال " نخاف أن يأتي يوم نجد أنفسنا فيه خارج الحمام، فلا ضمان اجتماعي يمكن أن يوفر لنا العيش بعد انتهاء مدة صلاحيتنا ولا صحة لنا بعد ذلك تمكننا من الاشتغال في مهنة أخرى.. حمامات الصونا سحبت الزبائن الاثرياء وحرمتنا من اكرامياتهم لكن الخوف الكبير هو أن البعض أصبح يفضل حمامات الصونا التي تتوفر على مدلكين يعملون بأدوات عصرية في "التكسال"، لكن الفئة التي تتوجه إلى هناك ميسورة الحال، إذ تؤدي مبالغ مالية مهمة من أجل ذلك وهي نفس الفئة التي كانت فيما مضى تمنحنا مقابل خدماتنا نقودا وإكراميات محترمة. الكسال هذا الرجل الذي يقضي يومه وليله وسط صهد الحمام، ويكرس أيامه لينظف أبدان الناس دون كلل ولا ملل، يمتلك طاقة تمكنه من قضاء أطول مدة ممكنة في "تافضنة" أو بيت السخون، التي تجذب مرضى الروماتيزم إلى التمدد قربها أو التمتع بنوم خفيف وسط بخارها، إنه "الكسال" الطارد للعياء وعدو الأوساخ والخلايا الميتة، يعرفه الأطفال والشباب والشيوخ ، اشتهر باسم "الكسال"، وعاش سنوات وهو يزيل الأوساخ من الأجساد الممدة في الحمام مقابل دراهم معدودات، يأخذك للبيت الأشد حرارة وينظف الأرض بالماء الحار لتستلقي على الأرض مدة 5 أو 15 دقيقة ، ثم يدهن جسمك بالصابون البلدي وتمكث مستلقيا كل حسب تحمله للحرارة، ثم يغسل الجسم بالماء الفاتر ثم يأخذك للقسم الاوسط من الحمام ويبدأ بحك الجسم بالكيس لمدة تقارب 20 دقيقة، سألته عن الثمن فأجابني بأن أجرته ليست محددة، فهناك من يمنحه 15 او10 درهم، وآخر يمده ب 20 وقليل من يتجاوز ذلك، فمدخوله من الحمام قد يفوق 50 درهما لكن أيام السبت والأحد وكذا الأعياد الدينية يتجاوز مبلغه اليومي أحيانا 100 درهم، لكن بالمقابل يسهر على نظافة الحمام طيلة مدة اشتغاله، فليس وحده من يقوم ب "تكسال" الزبناء، فهم "كسالة" يتناوبون على حك وتدليك المستحمين الراغبين في الاستفادة من خدماتهم، ويقول أيضا " في مهنة (تكسالت) لا نعيش سوى مع (الحباب) البسطاء أمثالنا، لكن الآخرين الذين يتعففون عن منح مبلغ 20 أو 30 درهم، فأظن أنهم يمنحون أكثر في حمامات الصونا التي يتقاضى فيها المدلك مبلغا محصورا ما بين 200 و400 درهم الدراسات الغربية اثبتت فوائد الحمام حمام الحومة التقليدي يساعد على الاسترخاء والإحساس بالانتعاش بفضل البخار وما يعنيه من فتح المسام والتخلص من الخلايا الميتة، وقد كشفت دراسة طبية حديثة أجراها فريق من الباحثين اليابانيين من جامعة " كاجوشيما " باليابان أن حمامات الماء والبخار الساخنة لا يقتصر دورها على الاسترخاء فقط بل قد تفيد القلب أيضا. وبينما يَعتقد الأطباء في الدول الغربية أن حمامات الماء الساخنة خطرة على مرضى القلب ، إلا أن الأطباء اليابانيين عادة ما يصفونها كعلاج لهؤلاء المرضى. فقد أظهرت الدراسات السريرية اليابانية، أن الحمامات الساخنة حسنت قدرة المسنين على ممارسة وتحمل التمارين الرياضية بصرف النظر عن كونهم مصابين بأمراض القلب أم لا. وقال الدكتور ميجيومي شيمودوزونو، المشرف على الدراسة ، إن غمر الجسم في حمام مائي ساخن لمدة عشر دقائق فقط، كان كافيا لرفع الأداء على المشّايات الرياضية وتقليل الشعور بالإجهاد والتعب وتخفيف آلام الأرجل بين ال 16 رجلا وامرأة، من المسنين الذين كان بعضهم مصابا بأمراض القلب، أو ارتفاع ضغط الدم والبعض الآخر غير مصاب، ممن شاركوا في الدراسة، وكما أشار في بيان له أمام الاجتماع السنوي للأكاديمية الأمريكية للعلاج الفيزيائي وإعادة التأهيل، إلى أنه كان يعتقد أن على مرضى القلب تجنب الحمامات الساخنة لأنها تسرّع نبضات القلب، ولكن الحال ليس كذلك في اليابان حيث تكثر الينابيع الساخنة، ويرى أن الحمامات الساخنة ليست فقط آمنة على القلب ، بل يبدو أنها مفيدة له أيضا، لأنها تعمل على توسيع الشرايين، مما يساعد في تدفق المزيد من الدم إلى عضلة القلب، مشيرا إلى أن غطسة قصيرة في حمام مائي تبلغ درجة حرارته 41 درجة مئوية لمدة عشر دقائق مثلا، تحسن قدرة المرضى على تحمّل التمارين وتزيد شعورهم بالراحة والنشاط. وخلاصة القول إن الكسال الذي فرض عليه العمل مضطرا وسط أوساخ الناس ، وجعل طاقته وصحته في خدمتهم ، يبقى دوره أساسيا وهاما في المجتمع المغربي، إذ لولاه لما استطاع المرهق والمتعب والمريض الاستحمام كما ينبغي وهو يعرض خدماته في الوسط الساخن، ومعلوم أن الحمامات كانت في الأصل تستخدم من قبل المغاربة الذين تفتقر منازلهم لأنابيب المياه، و كانت موجودة بالمغرب منذ القديم على غرار الحمامات التركية، ومازال الحمام يستخدم حتى الآن للشعور بالرفاه والطهر أو كعلاج لحالات مرضية معينة ، ولكن التركيز الرئيسي هو على الاسترخاء ونظافة البدن وترك البشرة ناعمة وشعور مجدد على الجسم وتنشيط الدورة الدموية، لقد عاودت الحمامات التقليدية احتلال إهتام العديد من زبنائها القدامى الذين تخلوا عنها في وقت مضى حيث احتوت منازلهم حمامات واكتشفوا فيما بعد أنها لا تعوض الحمامات الشعبية.