تخرجت من الجامعة، لم تجد عملا يناسب مؤهلاتها، وبعد محاولات متعددة رفعت الراية البيضاء واستسلمت للأمر الواقع، زميلاتها من أيام الدراسة وصديقاتها من بنات الحي انشغلن كل واحدة بمستقبلها وحياتها الجديدة، منهن من تزوجت وأنجبت أبناءها وتفرغت بالكامل للعناية بشؤونهم وانخرطت في حياة النساء المتحملات للمسؤولية، وأخريات وجدن وظائف تناسبهن أو لا تناسبهن وغرقن فيها. أصبحت لقاءاتها بهن محدودة حتى انعدمت فعوالمهن اختلفت وتعالت بينهن مع الأيام الحواجز الاسمنتية، وانكسرت الصداقة بسبب جليد الحياة. أحست بالعزلة والوحدة رغم أنها في أوج شبابها، كانت الأيام تمر ثقيلة وهي تقرأ نظرات الشفقة والتعاطف من معارفها وجيرانها وأقاربها وهي دون وظيفة أو زواج يقيها برودة النظرات وحر العبرات، لقد بقيت في نفس المكان وعلى نفس الحال، تغير العالم من حولها فيما الثبات كان نصيبها. كلما التقت قريبا أو بعيدا إلا ويطرح نفس السؤال، هل من جديد وهل سنفرح قريبا ونزغرد؟ كانت الأسئلة توقظ في نفسها ألم الجراح الساكنة، فهذه الزغرودة تخاصمها وتأبى أن تقترب من ميدانها. أصبحت صورتها وهي متزوجة وربة بيت هاجسا يلازمها باستمرار وحلم عزيز سكن أيامها ولياليها. تغذيه دعوات نساء العائلة وانشغالات الصديقات بحياة جديدة تبدو لها سعيدة ومريحة. وأخيرا طرق الباب رجل، يعمل في مدينة بعيدة لكن لا بأس فهو يعود إلى البيت في آخر الأسبوع، أهله يريدونها لتساعدهم على أشغال المنزل التي لا تنتهي لكن لا بأس كل شيء يهون إن اكتملت الصورة، وضع العريس المرتقب متواضع، لكن لا بأس بالصبر يتغير الحال وتنصلح الأحوال، فتحت بابها على مصراعيه واستقبلت ذلك الحلم الذي كانت تنتظره بفارغ الصبر. ستكتمل الصورة التي طالما انتظرتها وحلمت بها، لن تكون وحيدة في المشهد بل بجانبها زوج وأطفال ومستقبل مشرق وسعيد، ستنتقل إلى حياة جديدة ومثيرة وستتخلص من نظرات الشفقة وسيقبل بها المجتمع كإنسان له دور فعال وستفرح أمها وتزغرد عائلتها. لم تكن لها شروط بل قبلت بكل الشروط المطروحة عليها، انتقلت إلى الحياة الجديدة لتكتشف أن الصورة لم تكن واضحة، كانت مجرد حلم جميل لكنه خيالي، منعش لكنه غير واقعي. ودخلت في رحلة جديدة تبحث عن أبسط الحقوق التي فرطت فيها. يا ذا الزمان يا الغدار يا كسرني من ذراعي، نزلت من كان سلطان وركبت من كان راعي والمعنى: أن الأحوال والظروف تتغير وتتبدل، وتنزل من كان في المقام الرفيع وتجعل الضعيف مكانه. مثلت روحي مثل الحمام مبني على صهد ناره، من فوق ما باين دخان ومن تحت طاب أحجاره والمعنى: أن هناك نوعا من الناس صبور يتحمل ويقاسي نوائب الزمان، ولا يبوح بسره، ولا يتحدث على حاله، بل هو ملازم للصمت والسكوت على ما قدر له