انكبت ندوة نظمها المجلس الأعلى يوم الجمعة الماضي بالرباط في موضوع «وحدة مملكة من خلال القضاء» على مجموع التراث القضائي المغربي الذي حرسته الصحراء ذاكرة عن ذاكرة وجيلا بعد جيل وأحاطته بالعناية حفظا وتلقينا لكي لايتوقف أبدا في حمل القوافل وترحالها ولكي لايتراجع أمام زحف الغزاة والمستعمرين وأمام قسوة الطبيعة ومكر المتآمرين، بل استمر النظام القضائي على نفس الاصرار والانتظام جزءا من الجسد المغربي تأصيلا ومرجعا وثقافة ومذهبا وفق منظومة قضائية متكاملة. وتناولت الندوة القضاء في مرحلة ما قبل الحماية ومحور «القضاء في حقبة الحماية انطلاقا من مؤتمر الجزيرة الخضراء لسنة 1906 » ثم القضاء في مرحلة الاستقلال. وقد نظم المجلس الأعلى هذه الندوة تحت الرعاية الملكية اسهاما من المجلس في الدفاع عن الوحدة الترابية وتحصين مكتسباتها وحرصه على إبراز متانة الروابط الولائية بين ساكنة الصحراء وبين ملوك المغرب، إيمانا راسخا وثابتا بعدالة وشرعية الحقوق التاريخية للمغرب المتجذرة في أعماق التاريخ والذي يعد القضاء واحدا من تجلياتها الظاهرة للعيان والراسخة في الذاكرة الوطنية. وانعقدت هذه الندوة في غمرة النقاش الوطني العام الذي أعطى انطلاقته الملك محمد السادس في خطابه المؤرخ في التاسع من مارس الماضي، والذي اعتبر خطابا فتح المجال لخلق منهج تشاركي ديمقراطي من أجل إصلاح عميق للوثيقة الدستورية، وإصلاح شامل للقضاء والارتقاء إلى سلطة مستقلة، كما أتت هذه الندوة في أعقاب صدور تقرير الأمين العام للأمم المتحدة وقرار مجلس الأمن حول نزاع الصحراء اللذان يشكلان مرحلة مهمة في مسار قضية المغرب العادلة، كما تضمن تقرير الأمين العام تنويها خاصا بمضامين الخطاب الملكي للتاسع من مارس والمسيرة الاصلاحية التي يعرفها المغرب في مجال إقامة دولة الحق والقانون، إضافة إلى التنبيه للكثير من الخيارات التي يدافع عنها المغرب. وانطلقت الجلسة الافتتاحية بتلاوة آيات من الذكر الحكيم وبقراءة الفاتحة على أرواح ضحايا الغدر والعدوان الارهابي الذي تعرضت له مدينة مراكش، وتناول الكلمة خلال هذه الجلسة على التوالي السادة، محمد الناصري وزير العدل، مصطفى فارس الرئيس الأول للمجلس الأعلى، مصطفى مداح الوكيل العام للملك في المجلس الأعلى، وعبد الحق المريني مؤرخ المملكة. وتطرقت الكلمات المقدمة في هذه الجلسة الافتتاحية إلى عدة محطات في محاور وموضوعات مختلفة، يمكن اجمالها في مايلي: أولا الإشادة بالخطاب الملكي للتاسع من مارس التاريخي في تدشين عهد جديد للاصلاحات بالمغرب، ثانيا أهمية انعقاد هذه الندوة الوطنية من قبل المجلس الأعلى دليل على انفتاحه على المحيط ومواكبته لمواضيع ذات أهمية، ثالثا التأكيد على دور القضاء في الوحدة الوطنية، وتجلى ذلك في دور القضاء في الحفاظ على وحدة المملكة المغربية وتمتين الروابط الولائية بين ساكنة الصحراء وبين ملوك المغرب، رابعا مكانة القضاء كأساس للحكم ومصدر مناعة للدولة ورمز وحدتها واستقرارها وقوتها، خامسا الفقه الإسلامي ومذهب الإمام مالك بأصوله وأحكامه الذي شكل باستمرار مصدرا أساسيا للأحكام الصادرة في القضايا والنوازل ومرجعا لاغنى عنه في إصدار الفتاوى والاجتهادات سواء منها التي شكلت مرجعا للقضاء في إصدار الأحكام أو تلك التي مثلت مضمون الاستشارات السلطانية التي كان سلاطين المغرب يعتمدونها ويصدرون ظهائر بإقرار إفادتها، سادسا أهمية احتكام المغرب إلى الشرعية الدولية عبر استشارة محكمة العدل الدولية بلاهاي وإقرار هذه الأخيرة بوجود روابط البيعة بين قبائل الصحراء وسلاطين المغرب، وإقرار هذه القبائل بارتباط عضوي بين الصحراء والسلطة المركزية، سابعا وحدة المنظومة القضائية بالمغرب شمالا وجنوبا عبر مراجعها وأحكامها وأشكالها وإسناد وظائفها بالظهائر الشريفة لأجل العلماء، وثامنا المسيرة الخضراء حدث تاريخي بامتياز في تاريخ المغرب، حققت من خلاله الوحدة الترابية من طنجة إلى لكويرة واعطت هذه المسيرة صورة لتلاحم الشعب باعتبارها مدرسة مضيئة في الوطنية وتقوية العزائم ورصد الصفوف ومشروعية المطالب. وفي محور ما قبل الحماية ترأس جلسته أحمد التطواني حيث تناولت العروض مواضيع «دور الأقاليم الصحراوية في الوحدة الوطنية» تقدم به عبد الكريم كريم، وموضوع «السيادة المغربية في الأقاليم» الصحراوية من خلال الوثائق تقدمت به الدكتورة بهيجة سيموه، و«دور القضاء في الصحراء والحفاظ على الوحدة المغربية» لشبيهنا حمداتي و«الروابط العضوية من خلال القضاء ووحدة المملكة، لعبد السلام فيغو. وشملت هذه المواضيع العناصر التالية، حرص الملوك العلويين على تعزيز الوحدة الترابية مع الأقاليم الصحراوية ودورها كمركز للنشاط التجاري، والحركة العلمية وأهمية دور القضاء في الحفاظ على وحدة المملكة والمذهب المالكي والثقافة العربية الاسلامية وتمتين الروابط الولائية، والتأكيد على وحدة المملكة وسيادة المغرب على صحرائه عبر العديد من الوثائق ومنها الظهائر السلطانية ونصوص البيعة والعقود والاتفاقيات، والتقارير والمعاهدات والأحكام القضائية والطوابع البريدية والسكوكات النقدية، والتعيين في مهمة القضاء في الصحراء يتم عبر ظهائر تتضمن حيثيات وأسباب التعيين منها المواصفات العملية والأخلاقية خاصة الإلمام بالفقه المالكي، وإصرار سكان الصحراء على إبقاء القضاء تابعا للخليفة بتطوان والحفاظ على طابعه الاسلامي وإفشال أسبتته من خلال مقاطعة المحكمتين التي أسستهما اسبانيا في العيون والداخلة وعدم رفع شؤون ساكنة الصحراء القضائية إليها، حيث لم يصدر أي حكم واحد بالقانون الإسباني. وتناول محور القضاء في مرحلة الحماية انطلاقا من مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 وترأس الجلسة عبد العالي العبودي، ومداخلات هذه الجلسة هي: «نماذج إدارية وقضائية بين شمال المملكة وجنوبها» لشيبة ماء العينين و«المقاومة المغربية الدبلوماسية والجهادية على ضوء عقد الجزيرة الخضراء وما بعده» للسفير عبد اللطيف ملين و «القضاء المغربي بالاقاليم الصحراوية أثناء الحماية» لأحمد السراج وتقدم عز الدين عسيلة بعرض بعنوان «اتفاقية الجزيرة الخضراء بين عامين السلطنة واستكمال الوحدة الترابية». وتضمن هذا المحور العناصر التالية، رصد المناورات التي كانت تحاك ضد المغرب من قبل الدول المستعمرة للنيل من وحدته الترابية، ترتب عنها إبرام اتفاقية سنة 1904 بين فرنسا وإسبانيا تم بموجبها إعطاء الحق لفرنسا لحفظ النظام في المغرب، ثم اتفقت فرنساواسبانيا بموجب اتفاقية سنة 1904 سمحت فرنسا لإسبانيا باحتلال الشمال والصحراء دون أن يتم التوقيع على هذه الاتفاقية من طرف المغرب، وقد ظل العلم المغربي رفرافا بجانب العلم الاسباني بطرفاية. وتأكيد وحدة المملكة من خلال إعداد ميزانية التقسم إلى شطرين نصف في الشمال والثاني في الصحراء والإشارة إلى الإصلاح القضائي خلال فترة الحماية الذي جاء بناء على مقاربة أجنبية فرنسية تمثلت في إنشاء محاكم عصرية يرأسها فرنسيون تعلموا وفق مرجعية وضعية خلافا للمحاكم الشرعية المؤطرة وفق أحكام الفقه المالكي، وفي 12 غشت 1918 صدر قانون الوضعية المدنية للأجانب المتعلق بتنظيم القضاء في منطقة الحماية . واستعمال عبارة «انا بالله والشرع» أمام محكمة الباشا والقائد تؤدي حتما الى نزع الاختصاص عن هذه المحاكم وتحال القضايا وجوبا الى القضاء الشرعي. وترأس جلسة فترة الاستقلال امحمد بوشنتوف وتم تقديم عروض لكل من محمد المعزوزي في «الوحدة الترابية وخطة العمل لتحقيق أهدافها» و «القضاء في الأقاليم الجنوبية للملكة بعد الاستقلال» لعبد الله الجعفري و «الوحدة الترابية والعراقيل الخارجية» لأحمد السنوسي و «دور الدبلوماسية المغربية في استكمال الوحدة الترابية بعد الاستقلال» لصالح الزعيمي وألقى الشاعر شيبة ماء العنين قصيدة شعرية بالمناسبة. وتضمن هذا المحور العناصر التالية، ففي سنة 1956 ومن خلال اتفاق مغربي فرنسي التزمت فرنسا بموجبه احترام الوحدة الترابية المغربية بناء على المعاهدات الدولية وفي نفس السنة طلبت فرنسا من المغرب الشروع في مفاوضات حول الحدود، وتسجيل الدور الذي قام به المغرب في دعم المقاومة الجزائرية ورصد الملابسات التي أحاطت بموضوع الحدود المغربية الجزائرية، وإرساء بنية إدارية مكلفة بشؤون الصحراء والحدود في شكل مصلحة في الوزارة الأولى ومواصلة المغرب للمقاربة السلمية في استرجاع مناطقه المحتلة عبر الدعوة الى تشكيل خلية للتفكير في مستقبل المدينتين السليبتين المغربيتين سبتة ومليلية والجزر الجعفرية والتأكيد على أهمية القضاء في المناطق الصحراوية، وتسجيل عدم استقلاليته وهيكلته بسبب غياب إدارة قضائية من موظفين مؤهلين وسجلات وذلك خلال مرحلة ماقبل مرحلة استرجاع الأقاليم الجنوبية. ومع بداية سنة 1976 شرع المغرب في إرساء إدارة قضائية وإحداث محاكم عصرية مزودة بأحدث الأليات والنظم المعلوماتية والموارد البشرية واللوجستيكية كباقي محاكم المملكة وتسري على قضاء هذه الأقاليم نفس الحقوق والواجبات كباقي قضاة المملكة، ونقض الجزائرلما تعهدت به الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بإعادة النظر مع المغرب في موضوع الحدود الشرقية وحرص الجزائر على أن تكون طرفا معنيا في موضوع الصحراء المغربية في الوقت الذي تدعي فيه أن الأمر يتوقف فقط على اتفاق بين المغرب وموريطانيا، هادفة بذلك إلى هيمنة تامة على شمال إفريقيا، كما فوجئ النظام الجزائري بالتوافق الذي حصل بين المغرب وموريطانيا على رفع موضوع الصحراء الى محكمة العدل الدولية حول الروابط القائمة مع قبائل الصحراء. والتأكيد على أهمية الأوراش التي فتحها جلالة الملك خاصة في مجال الجهوية الموسعة وترسيخ مبادئ الديمقراطية كل ذلك استقبله المجتمع الدولي بارتياح وتنويه لجدية مشروع الحكم الذاتي الموسع بالأقاليم الجنوبية كخيار ديمقراطي.