يدلفون إلى القاعة، ويتقدمون بخطى حثيثة من بين ظهرانينا، يتأملون الوجوه قبل الرحيل إلى عمق الخشبة، هكذا يشتعل العرض المسرحي بالصمت في البداية، وكأن الصمت حياة بأكملها، تتكامل فيه المتناقضات، هو شعور بفراغ العالم من معناه والوجود والفكر من دلالتهما، بعدها يغيبون في الظلام، ليعودوا من جديد يحملون الكراسي البيضاء ويغطون في نوم عميق، هكذا تنطلق الحكاية كحلم أو كابوس مزعج يكسر كل الحواجز ويخترق عمق الذات، لتبوح بفرحها وألمها وإيمانها وجحودها، مسرحية «يحيى يعيش» التونسية التي استضافها المسرح الوطني محمد الخامس على خشبته، بتنسيق مع فرقة دابا تياتر ومؤسسة ابن رشد، لم تخلف الموعد وإن تأخرت ساعة على زمن العرض، لكنه كان لحظة مسرحية متميزة، بعرض نحته المخرج فاضل الجعايبي وكتبت نصه المسرحي الممثلة القديرة ورفيقة دربه جليلة بكار، موغلة في الكشف عن مأساة حقيقية لشخصية سياسية مرموقة، يتم إقالتها فجأة من منصبها السياسي، ووضعها تحت الإقامة الجبرية معلقة عليه حبل غسيلها السياسي الوسخ ولتُتهم هذه الشخصية بكل الأخطاء في المرحلة التي تحملت فيها المسؤولية . يمكن القول أن العرض المسرحي هو عبارة عن ترنيمة بأصوات مبحوحة، أثثت لمسرح سياسي محض، تحريضي وساخر، يرمم أشلاء الأحداث السياسية المنفلتة المريضة بشخوصها، الغير معنية بواقع شعوبها، هي فقط تعمق الجروح لحساب مصالحها الشخصية، تنهب، تكذب وتقتل أيضا، هي الدكتاتوريات التي عمرت في العالم العربي، تجعل من نفسها أيقونة الكل، تحيى وتعيش بعيدة عن شعبها أو بدون شعب إن اقتضى الحال، سوى أولئك الذين يتحذلقون ويبيعون ضمائرهم الرخيصة، فماذا يمكن لشخصية «يحيى يعيش» الذي خدم النظام طويلا أن يفعل بعد إقالته، وهو الذي تفانى في خدمته، يجد نفسه الآن ضحية ومراقباً في كل صغيرة وكبيرة، هو الذي صرح أكثر من مرة أنه مؤمن بالله ويدافع عن الحقيقة والحرية والكرامة. إن بساطة السينوغرافيا التي أتحفت العرض، والمبنية على الكراسي البيضاء والسوداء التي نراها في كل من البيت والمستشفى وحتى المطار، توحي بأماكن مغلقة، تبين مدى انغلاق النظام عن العالم الخارجي والذات نفسها، وتبرز مدى هيمنته في كل شيء. بمخبريه وجلاديه، إنه العالم المثالي الذي تعشش فيه الأنظمة الديكتاتورية، وما دلالة حرق المكتبة والكتب إلا رسالة على تجهيل الشعب، الغير المعني بالقراءة، حرق الكتب تعيدنا إلى التاريخ، ذلك أن النظام كان دائماً يخاف الكتب والمعرفة، يخاف الشعب المتعلم، يريده أن يغرق في جهله ليكون في يد النظام آلة طيعة تصلح للتصفيق فقط. «يحيى يعيش» صرخة في وجه الأنظمة العتية التي تخلت عن شعوبها وسحقته من أجل الاستيلاء على كل شيء حتى حريته، ماذا يتبقى له في النهاية سوى الجنون. «يحيى يعيش» تسلط الضوء على الإحباط العام بتونس والعالم العربي، تعري عن ذاك العماء السياسي وأيضا الظلم الاجتماعي، مما يندر بحدوث انقلاب في أية لحظة ضد الحياة الاجتماعية التي لم تعد تطاق. «يحيى يعيش» انتصار على الخوف وضد الأنظمة الاستبدادية ذات الحزب الواحد والفكرة الواحدة والرؤية الواحدة. في الختام أريد القول إن العرض وإن كان قد لامس أحاسيس الجمهور عامة، يبقى عرضا عاديا، لم يخلق المفاجأة مثل عروض المخرج السابقة، ويبقى أقل فنية، هذا إن لم نقل إن النص ابتلع كل الجماليات المتبقية. حيث كان البناء الدرامي مغلقا ودائريا، فكما ابتدأت بأغنية لعيد الميلاد، انتهت به المسرحية، كما أن الجو المشحون بالصور المرتعدة والقاسية المجسدة بأجساد الممثلين وبالضوء ، لم تكن بقوة الأحداث والتجديد والإبهار، وحتى اللعب المسرحي، جعل الممثلين يبقون على نفس الايقاع، لم نر تلك الطاقة المتحررة وتلك الجمالية الواعية التي تعودنا عليها.