عبدا لجبار خمران ، قاص مغربي مقيم بفرنسا ، خريج المعهد العالي للفن المسرحي، مفتون بالخشبة ، وبالقصة القصيرة جدا.،ولأنه أصدرمجموعته القصصية الأولى «قوارب بيضاء» عن مؤسسة سندباد للنشر والإعلام بالقاهرة ، كان لنا معه هذا اللقاء : عبد الجبار، هل تسمح لي بركوب قواربك البيضاء؟ لك أن تركبها بيضاء وتجلس فيها على كرسي بهي أزرق.. باسم الله مرساها ومجراها فأنت، عبد الله، الساعة ربانها.. وستتسع، حتما، لك وللقليل من الملائكة التي تحفك.. حروف القوارب أسماك ملونة لصنارة أسئلتك.. عسى أن تلبي أفق انتظار ركاب/قراء مارين منها وبها.. ما لون القارب الذي عبر بك من المسرح إلى القصة القصيرة جدا؟ قارب بلون قبعة الراوي وزوادة حكاياته التي لا مناص لمنصة المسرح من سحرها.. إنه قارب السارد والحكايا، منارات محيطاته ضوء الورق الكاشف لحلكة ركح الحياة. تُجوزت العلبة الإيطالية وخرج الممثلون إلى الشوارع والساحات.. حُطم رأس النص المسرحي وتقدم الإرتجال أمام الخشبة.. تم تكسير الجدار الرابع.. فكك التجريب مكونات اللعبة المسرحية وصهر ذهب مكتسباتها وسبكه عروضا واشكالا فرجوية حديثة.. لكن الحكاية والراوي ظلا ركيزة للمسرحيين وسحرا وفتنة للصغار والكبار من جمهور الفن الرابع. لا أرى في الحدود الفاصلة بين الأجناس ضرورة لتأشيرات كتلك التي تحول بيننا وتطبيق حقنا الطبيعي في التنقل، فالأرض ليست لأحد.. الأرض لمن لا يملك مكانا آخر.. كما قال أحمد بركات الشاعر الذي يحمل الوردة التي توبخ العالم. لكل جنس أدبي إبداعي ماهية لا يتحقق إلا بها.. ورحابة الكتابة بأفقها المفتوح دعوة للإقامة في غابة عذراء حيث لا جدران ولا سياج ولا خنادق. وحتى لا يقتلنا الضيق الذي ندد به المسرحي فواز الساجر نحاول فتح نوافذ وأبواب أخرى.. القصة القصيرة جدا أصبحت أكثر رواجا وانتشارا، كيف تقرأ مستقبلها؟ هي التي تقرأ مستقبلنا، بمعية أخواتها من الأجناس الأدبية والإبداعية الأخرى. إنها قادمة.. تمزق الحجب وتترسخ وتتكرس وتنمو، ومن لم ير ذلك الآن فلن يراه أبدا، لأنه لن يكون موجودا عندما يبلغ ذلك آفاق البداهة.. والعبرة بقصيدة النثر التي قيل فيها، وما يزال، ما لم يقله لا مالك ولا ابن حنبل في الخمر، وسُخر من كتابها ودعاتها بحدة لم تتوفر للجاحظ نفسه وهو يسخر من البخلاء. أما ابن الجوزي فقد كانت شفقته على الحمقى والمغفلين، أكثر من شفقة أولئك الذين يقيمون اليوم في أبراجهم النقدية ويرشقون بنبال بالية كلاسيكية الصنع كل جديد.. القصيرة جدا صيغة وجنس أدبي كسابقيه، ليست العبرة في الأدب بالطول او القصر بل بالنفاذ والعمق والتأثير في النفوس وجعل العالم اقل ذمامة.. أو على الأقل فضح ذمامته، وذلك اضعف الإيمان.. وشخصيا لا أستطيع ان أنسى العديد من النصوص القصيرة جدا المؤثرة في الفكر والنفس، في حين لا أذكر -مثل العديد من القراء- بعضا من تلك الروايات الطوال المحشوة بالكلمات والتعابير مثلما تحشى الأرانب بالملوخية في الطبق المصري الشهير.. يرى البعض أن الكتابة هواء، ويرى آخرون أنها ماء، قل لي: لم الكتابة ؟ ولماذا تكتب؟ ألم ير فيها أحد نارا؟ أعتقد ان الكتابة في فهمي المتواضع، محاولة للفهم والتحليل والتساؤل وصياغة المعادلات النفسية و الإجتماعية والفكرية والسياسة... التي تحكم ثوابت ومتغيرات الكائن البشري في علاقته مع العالم والأشياء والآخر والمجتمع...الخ . فعلى المستوى الشخصي أزداد معرفة وفهما بعد الكتابة وأثناء تحققها كفعل وليس قبل ذلك.. وكلما استعصى علي أمر كتبت فيه وعنه، أو هكذا يتهيئ لي، فللكتابة مكرها بكل تأكيد.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى بماذا يمكننا ان نواجه كل هذه الرتابة وهذا القبح الطافح إن لم يكن الإبداع كلما استطعنا إلى واحدة من تجلياته سبيلا.. الكتابة ببساطة ملاذ وحرقة وماء العين عندما تجف من الدموع. والسؤال الأصعب هو لمن نكتب؟ متى نقرأ لك عملا صادرا عن دار نشر مغربية؟ سأعمل على أن يكون الزمن قصيرا جدا بين القوارب البيضاء وإصدار آخر عن دار نشر مغربية، ولما لا إلقاء مرساة القوارب نفسها في مرافئ دار نشر مغربية. الهجرة ماثلة في قصصك ، كيف تعايشت ما يناهز العشر سنوات مع إقامتك بفرنسا؟ وهل أثر الوضع على كتابتك؟ تعايشت مثلي مثل الكائنات التي تدفع بها الظروف إلى الإقامة في أرض أخرى.. الهجرة حالة وجودية لا تخص الإنسان وحده.. هي من حيث كونها فعل إنساني وحق طبيعي تضع الفرد أمام تحديات و تجارب، محفزات ومعوقات.. إنها فعل باتجاه الآخر المختلف، وفي الآن نفسه فعل باتجاه اكتشاف الذات، التي تتموضع في سياقات اجتماعية وفكرية غير تلك التي ولدت فيها وتعودت على فك شفراتها الثقافية.. فمعلوم أن أبسط رد فعل إنساني وعفوي، وليكن الضحك مثلا: تكتشف في بلد الاستقبال بالملموس العوامل النفسية والاجتماعية والحضارية المتحكمة في الوعي واللاوعي الجمعي الذي يصدر عنه. هناك إحساس بالغربة طبعا، لكن الإغتراب إحساس أعمق وأكثر أثرا، ويمكن أن تحمله معك وفيك وانت داخل الوطن.. ألم يقل الإمام علي «الفقر في الوطن غربة». وأثر الوضع الذي يعيشه الكاتب يتجلى في الكتابة طبعا، بل هو كامن وراء فعل الكتابة ومحفز لها.. فالكتابة تصدر عن الذات وعما يؤثر في كيمياء تشكلاتها.. يقال إن القصة القصيرة جدا «مظلة في قبر»، وأنت ماذا تقول؟ وقيل أيضا إنها مثل فيل يبدو عن بعد وهناك من رآها طوفانا ويقطف بها الأحلام.. وهي كراسي زرقاء على مد البصر ورقص تحت المطر.. إنها كلمة الدقيقة الأخيرة، وهي التي تبقى أصواتها عندما نموت.. إنها منتوجات مصنع الفراشات... هكذا قال أصدقاء الحروف ومبدعو القصيرة جدا .. وسيقال ويقال.. وأقول معهم انها قوارب بيضاء تزيد المحيط سعة وأحلاما ورؤى. القصيرة جدا تُفقد الأرض جاذبيتها.. وتكثف الأحلام و عوالم الروح والجسد.. مسرح، قصة قصيرة جدا ، أين أنت منهما؟ ومن الأقرب اليك؟ عندما استيقظتْ فيّ القصيرة جدا، كان المسرح ما يزال هناك.. المسرح جنس إبداعي متوج يستحق مملكته المترامية السحر و المعرفة والجمال.. إنه ملاذي الأول، والقصة القصيرة جدا طفلة في غرفتها لُعبٌ «سردية» هي نواة لابتكارات نحتاجها.. ولها القدرة على أن ترصد ما يحدث في نفس الدقيقة بمدينة مثل كركاس، كما فعل الفنزويلي «أرماندو خوصي صيكيرا» في مجموعته «الكوميديا الحضرية».. ما لا نستطيع عرضه مسرحيا نقوله سردا قصصيا. هكذا أنوس بين المسرح والقصيرة جدا. آخذ من كثافة ووخز وشغب الأخيرة، وأستقي من الركح ما يزيد حوار القصيرة جدا مع العالم وهمّي سعة وأفقا أكثر رحابة.. شهريار، التوحيدي.. أتراك تلتفت للماضي حين يعجز الراهن عن البوح ؟ الزمن في تعاقبه كلّ ووحدة واحدة.. نقسّمها إجرائيا حتى نتمكن من ضبطها ومعالجتها وسردها تاريخيا. والقضايا الإنسانية كالحب؛ الموت؛ الوجود؛ الألم؛ المعرفة...الخ في جوهرها العميق هي نفسها في كل الأزمنة والأحقاب.. وبالتالي التفاتنا للماضي نوع من إسقاط الضوء على الحاضر، خدمة لقراءته.. ولأجل استشراف المستقبل وتجاوز المطبّات التاريخية والحياتية والمعرفية. تبعا لذلك، المسألة دورة زمنية واحدة.. وكم من الكتاب القدامى أكثر حداثة ممن يعيشون بين ظهرانينا.. أجل قد يعجز الراهن عن البوح وقد يكون الماضي أكثر سطوعا وقد نفيد منه بالقدر نفسه أو أكثر مما سنفيد مما سيأتي. لكن يجب ان يكون ذلك كله في بوثقة خدمة النص وموضوعته.. وختاما، ما معنى أن تكتب القصة القصيرة جدا..؟ أن تكتب قصة قصيرة جدا معناه أن ترسم الحياة بما قل وأدهش.. وان تحاور الذات بما قصر ووخز.. وقلت مع أصدقاء يكتبونها ذات استطلاع أتحفتنا بإنجازه صديقي عبد الله المتقي رفقة كوثر النحلي : من هبات القصيرة جدا أيضا، تذكرة سفر مع قوافل التجلي والتلغيز والعجائبي.. العالم مليء بالثقوب والتناقضات والمفارقات الصارخة.. والقصيرة جدا تساهم بشكل ممتع وفعال وواخز بحروفها ومكرها في ملئ بعض من هذه الثقوب..