حبي كله بذلته للخريف. ما بيننا من وصل لم ينقطع أبدا. ما بيننا من عشق ذاع صيته. ربيته، هدهدته، أودعته أسراري. أسكنت فيه من أحببتهم ومن أحبوني. تخِذته أبا وأما في غربتي عن الديار. جعلته لي وطنا بديلا. من أجله تنازلت عن سبق الأوطان. ذاك خريفي، فصلي، ووصلي. له بذلت كل الحب، حتى.. كدت أفنى،ويفنيني، حتى.. أظن طال العهد بنا هنا. إني مكثت طويلا ها هنا. بكيت، غنيت، رقصت ، وهنا شيعت إخواني، وخلاّني، على عهد الهوى، باق ما أراني. بالعظم بعض الوهن، كالقلب لا يخلو من شجن. أنت يا نبضي الذي لا يضرب أحيانا إلا بالحزَن. لكنني بالرؤية والوهم معا هنا باق طالما سلمت أن الخريف، هو البدء.. أخاف من المنتهى، أما النهايات فورائي، ويوما غنيت بأعذب لحن: « يا سيدي لأنت هو الوطن!» وماذا بعد ؟ ثم ماذا بعد؟! « خُلِق الإنسان ملولاً»(!) وأنا، أقلّ من إنسان، أراني، جسدي أحيانا لا يحتويني. وأكثر من إنسان، ما لأنه هو، ما أضيقه، لم يعد يسعني. لذلك لا خلاص لي إلا في كلمات؛ فأنا أكتب كي أخرج من ضيقي، لأخرج بحثا عن الاتساع، نحن المغاربة، حين نضِجُّ من بعضنا يغضب الواحد من الآخر، نصيح: نصيح في وجهه: أعطني الاتساع! وهناك قوم جاثمون علي أجسادنا يا قوم منذ كم أنتم جاثمون؟ أفلا ترعوون، ذات يوم تخجلون؟؟ وذا سبب آخر للجوئي إلى الخريف، وهذا قبل أن يهلّ وجهك، ومنذئذ وأنا أحيا،ما زلت أحيا، في انتظارات الربيع. طال العهد بي هنا حقا، في باريس، كما في هذي الأرض المسماة الدنيا. لست نادما على شيء، ولا راغبا في تكرار ما فات، كما لا أحب الإقامة في أي مكان أو زمان آخر غير ما كنت فيه وعرفت. هذه الأرض أدمنتُها، وتبقى مشتعلةً في حواسي، ولهفتي عليها لا تنتهي. عجباً، كلما اضطررت لمغادرتها أبدأ في النظر إلى الحيطان والأرصفة والأشجار، والهواء أتشممه، كأنها المرة الأخيرة، مثل محكوم بالإعدام سيجمع العالم في نظرة أخيرة قبل العدم. والخريف أيضا، صار عندي كل الفصول،إن عشت باقيها فلأعود إليه كي ألاقيه،أُفطّنه أن بيننا موعدا ثابتا ودائما لنمتحن وفاءنا،ونُديم بقاءنا،مدى المحبة الفسيح،حِضني له مفتوح. وها أنا،بعد أن طال العهد بنا هنا،وجربنا ضروباً من العيش،والليل،وطعوم الهيام والغمام،عرفت فيها طبع الأخضر، وسلالته الممتدة حتى أول سنبلة نمت في حقول الشاوية، وبعد أن رأيت منطقة النورماندي فصار كل حلم لي يخرج من عينيّ بدثار أخضر،أقصد الأصفر،يتخللان بعضهما،عاقدين قراناً فريداً تزفّهما الريح والتراب النديّ مثل مساء بَليلٍ على الشرفات وعيون عجائزَ يخاصرن أحلام أمس وهن المتعبات،هن عمّاتي»الليالي اللواتي سببت سقمي»،فأحتاج إلى قليل من الفرح،أو ما تيسّر منه،خبزٌ حلو منتزع من أيام ُمرة،قد نفرح يا قلبي مَرة،داومت ذاك الفصل أختزن فيه حتم الزوال،ورغبة البقاء،بالرغم، في هذا العالم المحال،داومت إلحاحي وها أنا بت أخاف اليوم من ثبات صفاتي،حتى قِدَمي صار جزءا من شهيقي،زفيري، من آثار خطواتي،لا أسأل هل أغيّر طبعي،هل أبيع وشم لحمي، هل أنفخ في المزمار أستجدي موائد الطغاة،على غرار خلق باع روحه،داس ظله،صار ضاربا للدفوف، مُتاجرا في الأحياء وترا ث الأموات. كلما أقبل الربيع أقول يا فلان تبدّل، غيّر جلدك، حوّل دربك، لكن لا تتبدل. شُمَّ الوردة كما لم تشمَّ نبتا من قبل، واغسل طرفك بأحلى ما في الأرض من الطَّلّ، كلما أقبل الربيع اهتاجتْ فيك الأشواق، تتحيّر أين ستمضي، لمن ستروح، فتنة تتلو أخرى، فكيف تبوح؟! نجم يتلو نجما، والليل عناق. تعود تقول أنا أنتظر ما لا أعرفه، ما لا يتمثل بعد مرآى ومسمع. ما لم يخطر يا صاح على البال. أنا ابن الطبيعة وأرفض انسيابها أمامي،أريد أن أكون في معتركها،في خضم تشكلها لا وهي اكتملت. أعترف،من شدة فتنتها أغلق عيني أحيانا، يُغضى البصر منها حقا فيما أسترق البصر إلى ما قبل وما بعد. أنكمش في الزمهرير مختبرا صلابة عظمي، وأتعرّى في الحر أوشك أن أذوب. سأتحرر تماما من جسدي لو حدث هذا،لأرجع إلى الأصل الأول منه قدمت،في غيابه أتملّاه،وأوشك أدركه،وحين يقبل الربيع أحس به يعاتبني كيف أسعى إلى العدم وهو يتبرج لي في بدر التمام. أجيبه بأنه يزاحم الأمل، يطرد من الجفون الأحلام. خذ، إننا نحلم على الأغلب في فصل الشتاء. كل واحد يدخل إلى مغارة ذاكرته، ويمشي في دهاليز سريرته، يستنبت التراب، ويستشف ما في تضاعيف الغمام، يستحلب آخر ذرة من الأوهام،يتزود من غده بليلته، في الصباح ربما ينسى،ربما يسعفه الحلم، طيش الليل، ليواصل دربه، أو سبيلا تقود إلى حتفه، وأنا بكثافة الغيم فوق رأسي، السماء الرمادية هامة، والرعد علامة على أن القيامة في الأرض،أيضا، قائمة، أخوض في الهواء البارد والماء الجامد، أتأفف من النهار المدلهم، أرتعد لليلة الظلماء،وما أنفك أتناقض مع حالي،فهكذا خلقت هواي سكنى الفرق والنقض، والإبرام عندي هو النهاية،هو الاكتمال، والموت منتهى الكمال! ارتعشت كأنما فاجأني، وهو حولي، منذ بضعة أيام، منذ أسبوعين. كنت لمحته يحوم من بعيد، يناوش برسله الطيور، وهي تعود إلى عناوين تعرفها، ومواعيد ستجدد فيها اللقاء، وشجرة في الحديقة نتراقب من شرفتي أنا وإياها، وطير بعد ُطوير يقطع منها عودا إثر عُويد ليصنع العش الذي ستبعثره الريح مرة أخرى في فصل الشتاء القادم، كالذي مضى، وهكذا... لكي يمضي الشتاء لابد أن يرحل عن القلب. الفصول لا نشاهدها، أو تجلياتها كما تهبها الطبيعة فقط، بل نحتاج إلى أن نحس بها. هي لا توجد إذا لم تدخل من العين، ولم تنفذ تحت المسام، تسمع لها أحيانا غليانا في الدم، وألوانا على البشرة، وأصواتا جائعة أو نابحة، أو جريحة تنادي، تتناجى بكل الرغاب، قبل أن تهب عصفا، وتخرّ وريقات منهكة على الأرصفة ثم تتفتح زهيرات بأجمل ما في الأرض من ألوان. لكي تعرف أي فصل حقا،عليك أن تتخذه عشيقة أو خليلة. بأن تخلص في هذا العشق، وتتعلم مثل أي طفل يدخل الروض أبجديتَه، والطريقة الصحيحة للنطق باسمه. لك بعد ذلك أن تتخذ نبرة خاصة بك في طريقة نطق اسمه، تناديه بها، ُتدَلِلّه، تداعبه، ستغضب منه وينقلب مزاجك لانقلابه،وأن لا تسلوّه،أو ستسلو الزمان كله. لن يبقى العمر عندئذ سوى توالي الأيام تتعاقب فوق جسدك لتحرثه بالتجاعيد وتهريه بالهرم. بينما إحساسك بالفصل يقظة دائمة للعمر، مصارعة للزمن بأنك حي، ولا تستسلم للتكرار والتشابه. وفي الخريف، مثلا،أوه،ها نحن نعود إلى الخريف رغم خِرَفه تظل أنت العاشق يقظاً، منتبها في حذر دقيق متى وكيف تِدبُّ الهشاشة في الأغصان، ُتحيل أوراق الشجر، ترقص واهنة من أثر أخفّ هبّة، وتتوجع صامتة لدى ارتطامها بتراب كثيرا ما تسحقها فوقه خطوات اللامبالين من بشر لا يعشقون،وهو يدوسون على النمل وأوراق الشجر،وحَبق القبور،وضوء القمر يغلقون دونه الشبابيك ، ويحهم ، كيف لا يبصرون؟! في البداية أنشرح لقدوم الربيع، من غير أن يرضيني تماما رحيل الشتاء، وقبله أيام احتضاره. هناك دائما ولادة تعقب الاحتضار،عناد الحياة على الاستمرار، ودليلها بأن الموت ربما ليس نهاية كل شيء. لا أذكر كم شتاء تكومت هنا في باريس، بين مدنها، أرض المطر والغيم، وأمسك بتلابيبي الصقيع. لكن،هنا شعرت ووعيت بأن فصل الشتاء سكنى: بمساحة وجدران ونوافذ وسقف وبرد ودفء.. هو المكان الذي يحتوي الجسد، يجعله يلتمّ، ويتكاثف، يطوي أعضاءه وهو يلمها في عناق، في شكل رحم. هو العودة إلى مسكن الولادة الأول، إلى سُرّة الأسرار. فصل الشتاء رحمُ الطبيعة والصيفُ فضيحتُه، همجيته، العري الكامل، وتفكك العناصر، وسيطرة الضوء الواحد، اللون الموحد، والبشر الهائم على وجهه ليروي عطشه حينا، ومستعرضا حينا آخر غواية جسد، هو في نهاية المطاف، آيل إلى التفسخ. يأتي الربيع قبل ذلك مثل هدنة مؤقتة،لم لا خدعة سكينة وجمال عابرين. يجذبك إلى الدَّعة،وكلما تفتح برعم استيقظت فتنة نائمة.. الربيع لاتحتويه ولا تختصره كلمات. هو صفات/صور/نبرات/روائح/ ألوان على امتداد مسافات/خلجات وارتعاشات/همسٌ نديٌّ/ بوحٌ سرّيّ/ عند المومنين تبتل وخشوع لمزيد صلوات/؛ صور،إذن،تتفتق بأفعال وبعدها. الربيع يحدث، وكل صورة من عديد مشاهده حدث بذاته،وهو،أيضا،كالأطفال يكبرون أمامك دون أن تعرف كيف ولا متى كبروا. تستيقظ كل صباح فتلاحظ زيادة في الطول،نموا للأطراف، بحّة في الصوت،وأنت لا تكاد تصدق.هم لا يعرفون،لا يعنون بعجبك،الربيع كالأطفال يختال بصباه،يتقافز بأصواته، يثِبُ بألوانه، ويعتدي صدفة بحُسنه، من غير أن يعبأ أو يتوقع أي حساب، فهو طفلٌ،غِرٌّ،مشاغب بالزقزقة والتغريد والنقيق ورفيف الفراشات، لا يلتفت لمن يتغزل بجماله، كغانية تسحب سالفها، أشجار تتدله أغصانها، وهي تدري وكأنها لا تدري،أنها تجر قبيلة متغزلين خلفها، وشعراء تروبادور،يعزفون على نياط القلب لحن الهوى والسرور، يا ذوات الحور، انظرن ما فعلتن، وهن يمضين ساليات كعشب ناعم، في حبور!! بذا يضايقني الربيع،بالأحرى يربكني، يتجلى وهو يتثنى ويتغنى، ومع أول ريح أخاف على عوده أن ينكسر، عوده الطري الذي كنت وانكسر، العمر قبله انهمر، بأي غزارة، بأي طوفان، ثم تبجّل، َنضَج كُمّثرى وطفر، ثم هاج الجسد، قلت أنا العصف والريح الصّرصر، وفجأة انتبهت حولي، الأحبة ها هم رحلوا، الديار خلت الديار، لا وَقْعٌ ولا أثر، أكُلُّ ذاك الربيع كان وهماً، حلماً عابرًا في الكرى، أم نزوة الشباب والبطر؟! إنك ستنتظر وتنتظر،أعلم أنك تكره هذا،إنما عليك أن تتعلم لا كم،بل كيف تنتظر. انتظارك طال،سيطول،وما ينقصك هو إتقان تعلم صبر الكيف. منه،مثلا،أن الربيع ليس فصل مواقيت،ولا فوح ورد،اعتدال هواء، ولا الفراغ المتراقص الصاعد بين أرض وسماء. لا ولا أنثى مضرجة بالحياء، ولتكن شهوانية كالجحيم، هِمت بها، وعلى صدرها الغض نمت يوما، بكيت أمس، تهت في لحظها كأنك في الفلوات،وها الربيع حل، وأنت تسمع مثل الفحيح مثل نداء بأسماء كل من أحببت، واسمها تصرخ من أنت ؟ ما الربيع؟ من أنا لأظل جسدي وقلبي لا يستريح في أي صقع، بين دعد وسند، هند وأسماء؟! قلت لك تعلّم أن تتعلم كيف الصبر، ونوع السؤال، قلت، إنما هل تسمعني/ أم أنت سافرت كالعهد بك يا ظلي وسميّي، وضعفي، فرعي وأصلي، في سؤال المحال، هو ذا أنت على كل حال،هو ذا أنت، أليس كذلك يا أنا،أم ماذا ونحن نقرع ملحاحاً باب الله:هكذا، أكل انتظاراتنا، في الفصول، وبعد الربيع ليست سوى إلى هذا الزوال؟! ما بي هوس شخصي في النهاية ،وقبل البداية، فانتظارات الربيع، هي كذلك انتظارات جيلي،من الكبر والشساعة،والآمال،حدا يدفع إلى اليأس،يأس مهول،فات الفجائع الشكسبيرية، ومن المفارقة أنه كلما تضخم زدنا انشدادا إلى انتظاراتنا الحمقاء،رغم أن العمر يقصر، وذكرياتنا بما كنا ورغبنا فيه تتباعد وتفنى، لننسى، ورغم هذا نتفانى لنبقى، متعلقين ببصيص أمل. فهذا العربي الذي هو أنا، ونحن، ليس غير ذبالة أمل، والذبالة لا بد ستنطفئ، بحكم أنها تذبل، وفيما هي ترتعش تقطر بالصمغ لتضيء ما حولها؛ إنا نحن الذبالة، الصمغ،الضوء في آن، فأي معجزة هذه، أي خيال ومحال؟! في هذه اللحظة بالذات، الساعة الثامنة مساء، من يوم الإثنين الخامس عشر من مارس من عامنا 2011،الربيع في باريس، حيث ما زلت أقيم، يتمخض في الأفق وبين جنبي، رغم أن زفيره يتعرض لاختناق متقطع بسبب غيوم ما تنفك تُغير على سماء باريس قادمة من الغرب،من المحيط الأطلسي، وقد تعودنا أن تحدث هذه الغارات في هذا الشهر، أعتبرها عناد فصل الشتاء يرمي ذخيرته الأخيرة من المطر والبرد،وهي غيرة من الفصل القادم ينتظر فيه الباريسيون حياة جديدة. لأعترف بأن هذا ثانوي عندي، فالحقيقة تكمن في سر وسحر الإنتظارات، فإذا جاء الربيع انكشف السر، وسيتجلى السحر بجميع وجوهه، سيفتح أحضانه وأبهاءه.. ويتم العناق. أما في هذه اللحظة، وأنا اخط كلماتي هذه، وأرغب أن أبقيها معلقة، فالربيع محجوز هذا العام بين قوسين،بالضبط مثل حياتنا،أعمارنا وتاريخنا،آمالنا وانتظاراتنا التي طالت، طالت، طالت، لكم طالت!!!! فأين أنت أيها الربيع؟ لكم أريد أن أطوي الصفحة كاملة،إنما ليس قبل أن يأتي الربيع... فتعال...بحقك...تعال.