يحفل التاريخ الاسلامي بحياة عدد كبير من الفلاسفة الحكماء والاطباء والشعراء وغيرهم، غير أننا في الكثير من الأحيان لانسمع عن هؤلاء سوى الاخبار المتواترة التي لا تنفذ إلى العمق ولاتجلى حقيقة حياة هؤلاء الفكرية والأدبية والعلمية رغم أن مادة الإخبار موجودة وكثير منها رواها أصحابها كما نقدم اليوم مع الشيخ الرئيس ابن سينا الذي يعرف الجمهور العام أنه كان طبيبا ويعرف المتخصصون أنه كان فيلسوف وحكيما اهتم إلى جانب الطب والحكمة بمجالات أخرى. وحينما تروي الاخبار المتواترة التي لاتستند إلى النصوص في الإخبار عن حياة هؤلاء المفكرين قد يتبادر الى دهن المتلقى أن ذلك ضرب من الزيادة عن الواقع. وفي هذا الصدد وابتعادا عن هذه النظرة نورد في هذه الحلقة جزءا من حياة الشيخ الرئيس ابو علي الحسين ابن سينا كما رواها نفسه في كتابه الفلسفي كتاب النجاة في المنطق والالهيات. *************** قال الشيخ الرئيس: إن أبي كان رجلاً من أهل «بلخ»، وانتقل منها إلى «بخاري» في أيام نوح بن منصور. واشتغل بالتصرف وتولى العمل في أثناء أيامه بقرية يقال لها «أفشنة» وتزوج أبي منها بوالدتي، وقطن بها وسكن، وولدت منها بها، ثم ولدت أخي. ثم انتقلنا إلى «بخاري»، وأحضرت معلم القرآن، ومعلم الأدب، وأكملت العشر من العمر، وقد أتيت على القرآن وعلى كثير من الأدب، حتى كان يقضي مني العجب، وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين، ويعد من الإسماعيلية. وقد سمع منهم ذكر النفس، والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم. وكذلك أخي، وكانوا ربما تذاكروا بينهم وأنا أسمعهم وأدرك ما يقولونه ولا تقبله نفسي، وابتدأوا يدعونني أيضاً إليه، ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة والهندسة، وحساب الهند. وأخذ يوجهني إلى رجل كان يبيع البقل، ويقوم بحساب الهند حتى أتعلمه منه. ثم جاء إلى «بخارى» أبو عبد اللّه الناتلي، وكان يدعى المتفلسف، وأنزله أبي دارنا رجاء تعلمي منه، وقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه والتردد فيه إلى إسماعيل الزاهد. وكنت من أجود السالكين، وقد ألفت طرق المطالبة ووجوه الاعتراض على المجيب على الوجه الذي جرت عادة القوم به. فأخذت في تحقيق هذا الحد بما لم يسمع بمثله، وتعجب مني كل العجب، وحذر والذي من شغلي بغير العلم، وكان أي مسألة قالها لي أتصورها خيراً منه، حتى قرأت ظواهر المنطق عليه، وأما دقائقه فلم يكن عنده منها خبرة. ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي، وأطالع الشروح حتى أحكمت علم المنطق، وكذلك كتاب «إقليدس»، فقرأت من أوله خمسة أشكال أو ستة عليه، ثم توليت بنفسي حل بقية الكتاب بأسره. ثم انتقلت إلى «المجسطي» ولما فرغت من مقدماته، وانتهيت إلى الأشكال الهندسية، قال لي الناتلي: تولى قراءتها وحلها بنفسك، ثم اعرضهاعليّ، لأبين لك صوابه من خطئه. وما كان الرجل يقوم بالكتاب، وأخذت أجل ذلك الكتاب، فكم من شكل ما عرفه إلى وقت ما عرضته عليه وفهمته إياه، ثم فارقتي الناتلي متوجهاً إلى «كركابخ»، واشتغلت أنا بتحصيل الكتب من النصوص والشروح، من الطبيعي والإلهي، وصارت أبواب العلم تنفتح علي، ثم رغبت في علم الطب، وصرت أقرأ الكتب المصطفة فيه، وعلم الطب ليس من العلوم، فلا جرم أني برزت فيه في أقل مدة حتى بدأ فضلاء الطب يقرأون عليّ علم الطب، وتعهدت المرضى، فانفتح عليّ من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لايوصف، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه وأناظر فيه، وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة. ثم توفرت علي العلم والقراءة سنة ونصفا، فأعدت قراءة المنطق، وجميع أجزاء الفلسفة، وفي هذه المدة ما تمت ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغلت في النهار بغيره، وجمعت بين يدي ظهوراً، فكل حجة كنت أنظر فيها أثبت مقدمات قياسية، ورتبتها في تلك الظهور، ثم نظرت فيها عساها تنتج. وراعيت شروط مقدماته، حتى تحقق لي حقيقة الحق في تلك المسألة. وكلما كتب أتحير في مسألة، ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس، ترددت إلى الجامع، وصليت، وابتهلت إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق، وتيسر المتعسر، وكنت أرجع بالليل إلى داري، وأضع السراج بين يدي، وأشتغل بالقراءة والكتابة، فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف، عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إليََّ قوتي، ثم أرجع إلى القراءة. ومهما أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها، حتى إن كثيراً من المسائل اتضح لي وجوهها في المنام. وكذلك حتى استحكم معي جميع العلوم، ووقفت عليها بحسب الإمكان الإنساني، وكل ما علمته في ذلك الوقت، فهو كما علمته الآن، لم أزدد فيه إلى اليوم، حتى أحكمت علم المنطق، والطبيعي، والرياضي، ثم عدلت إلى الإلهي. وقرأت كتاب «ما بعد الطبيعة» فما كنت أفهم ما فيه، والتبس عليَّ غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظاً، وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به، وأيست من نفسي. وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه. وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين، وبيد دلال مجلد ينادي عليه، فعرضه عليَّ، فرددته رد متبرم معتقد أن لا فائدة في هذا العلم. فقال لي: اشتر مني هذا، فإنه رخيص، أبيعكه بثلاثة دراهم، وصاحبه محتاج إلى ثمنه، فاشتريته، فإذا هو كتاب ل «أبي نصر الفارابي» في أغراض كتاب «ما بعد الطبيعة»، ورجعت إلى بيتي، وأسرعت قراءته، فانفتح عليَّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه كان لي محفوظاً على ظهر القلب، وفرحت بذلك، وتصدقت في ثاني يومه بشيء كثير على الفقراء، شكراً لله تعالى. وكان سلطان «بخارى» في ذلك الوقت نوح بن منصور، واتفق له مرض تلج الأطباء فيه، وكان اسمي اشتهر بينهم بالتوفر على القراءة، فأجروا ذكري بين يديه، وسألوه إحضاري، فحضرت وشاركتهم في مداواته، وتوسمت بخدمته، فسألته يوماً الإذن لي في دخول دار كتبهم ومطالعتها، وقراءة ما فيها من كتب الطب، فأذن لي. فدخلت داراً ذات بيوت كثيرة، في كل بيت صناديق كتب منضدة بعضها على بعض، في بيت منها كتب العربية والشعر، وفي آخر الفقه، وكذلك في كل بيت علم مفرد. فطالعت فهرست كتب الأوائل، وطلبت ما احتجت إليه منها، ورأيت من الكتب ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس قط، وما كنت رأيته من قبل، ولا رأيته أيضاً من بعد. فقرأت تلك الكتب، وظفرت بفوائدها وعرفت مرتبة كل رجل في علمه. فلما بلغت ثمان عشرة سنة من عمري، فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج. وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء. وكان في جواري رجل يقال له: أبو الحسين العروضي. فسألني أن أصنف له كتاباً جامعاً في هذا العلم، فصنفت له «المجموع»، وسميته به، وأتيت فيه على سائر العلوم سوى الرياضي، ولي إذ ذاك إحدى وعشرون سنة من عمري. وكان في جواري أيضا رجل يقال له: أبو بكر البرقي خوارزمي المولد، فقيه النفس، متوحد في الفقه والتفسير والزهد، مائل إلى هذه العلوم، فسألني شرح الكتب له، فضنفت له كتاب «الحاصل والمحصول» في قريب من عشرين مجلدة. وصنفت له في الأخلاق كتاباً سميته كتاب «البر والإثم». وهذان الكتابان لا يوجدان إلا عنده، فلم يعر أحداً ينسخ منهما. ثم مات والدي وتصرفت بي الأحوال، وتقلدت شيئاً من أعمال السلطان، ودعتني الضرورة إلى الإخلال ب «بخارى» ، والانتقال إلى «كركانج». وكان أبو الحسين السهلي المحب لهذه العلوم بها، ووزيرا، وقدمت إلى الأمير بها، وهو علي بن مأمون، وكنت على زي الفقهاء إذ ذاك بطيلسان وتحت الحنك، وأثبتوا لي مشاهدة دارَّة بكافة مثلي. ثم دعت الضرورة إلى الانتقال إلى «نسا»، ومنها إلى «بارود»، ومنها إلى «طوس»، ومنها إلى «شقان»، ومنها إلى «سمنيقان»، ومنها إلى «جاجرم» رأس حد «خراسان»، ومنها إلى «جرجان». وكان قصدي الأمير «قابوس»، فاتفق في أثناء هذا أخذ قابوس وحبسه في بعض القلاع، وموته هناك. ثم مضيت إلى «دهستان» ومرضت بها مرضاً صعباً، وعدت إلى «جرجان»، فاتصل «أبو عبيد الجوزجاني» بي وأنشأت في حالي قصيدة فيها بيت القائل: لما عظمت فليس مصر واسعي لما غلى ثمني عدمت المشتري قال أبو عبيد الجوزجاني صاحب الشيخ الرئيس: فهذا ما حكى لي الشيخ من لفظه، ومن ها هنا شاهدت أنا من أحواله. كان ب «جرجان» رجل يقال له: أبو محمد الشيرازي يحب هذه العلوم. وقد اشترى للشيخ داراً في جواره، وأنزله بها، وأنا اختلف إليه في كل يوم، اقرأ «المجسطي» وأستملي المنطق. فأملى عليَّ «المختصر الأوسط» في المنطق، وصنف لأبي محمد الشيرازي كتاب «المبدأ والمعاد»، وكتاب «الأرصاد الكلية» ، وصنف هناك كتباً كثيرة ك «أول القانون» و «مختصر المجسطي» وكثير من الرسائل، ثم صنف في «أرض الجبل» بقية كتبه. وهذا فهرست كتبه: كتاب المجموع. مجلدة الحاصل والمحصول. عشرون مجلدة. الإنصاف، عشرون مجلدة. البر والإثم . مجلدتان. الشفاء. ثمان عشرة مجلدة. القانون. أربع عشرة مجلدة. الأرصاد الكلية. مجلدة. كتاب النجاة. ثلاث مجلدات. الهداية. مجلدة. الإشارات. مجلدة. كتاب المختصر الأوسط. مجلدة. العلائي. مجلدة القولنج. مجلدة لسان العرب. عشر مجلدات. الأدوية القلبية. مجلدة. الموجز. مجلدة. بعض الحكمة المشرقية مجلدة. بيان ذوات الجهة. مجلدة. كتاب المعاد. مجلدة المبدأ والمعاد، مجلدة. كتاب المباحثات. مجلدة. ومن رسائله: القضاء والقدر. الآلة الرصدية. غرض قاطيغورياس. المنطق بالشعر القصائد في العظمة والحكمة في الحروف. تعقب المواضع الجدلية. مختصر أوقليدس. مختصر في النبض. بالعجمية. الحدود. الأجرام السماوية. الإشارة إلى علم المنطق أقسام الحكمة في النهاية واللانهاية. عهد كتبه لنفسه. حي بني يقظان. في أن أبعاد الجسم غير ذاتية له. خطب الكلام.