من أصداء ما عاد من مفردات المعجم العربي ليروج من جديد فجأة في سوق المبادلات اللفظية على الصعيد الإقليمي بعد فقدان للصلاحية دام أربعين سنة التي هي عُمر الرسالات السماوية والأرضية، وردت كلمة "ثورة" عشر مرات في نص "بيان" السيد عبد الواحد الراضي الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي وازت به جريدة الحزب، في صفحتها الأولى، نصّ الخطاب الملكي لتاسع مارس 2011 حول مراجعة الدستور. فما سر هذه الكلمة الفَيْنَقية التي تظهر وتختفي كثعلب محمد زفزاف، والتي استعادت روحها وشرعيتها في قاموس حزب القوات الشعبية بعد خمسين سنة من صدور "الاختيار الثوري"؟ هل معنى هذا أننا مقبلون هذه المرة على تعميم الحزب لطبعة ثانية من "الاختيار الثوري" في إطار التعددية الجديدة، أم أن للألفاظ، حينما تروج أو يعاد ترويجها، قيمة تبادلية كعملة صعبة في ميدان الخطاب السياسي يصعب على السياسي مقاطعتها كما يصعب على الشيوعية مقاطعة الدولار الامبريالي باسم المبادئ؟ "الثورة" في العربية لفظ مؤنث. وإذا أخذناه وقلّبنا تصاريفه على ظاهر لفظه، راودَنا فضولُ اعتبارِه مؤنثا للفظ الثور، بكل ما يرمز إليه الحيوان من عنف "ثوري" وقوة بركانية متفجرة تصوِّرها مشاهدُ الكوريدا رمزيا من خلال طباق التضاد القائم بين لوني الحمرة والسواد، وكما صورها الروائي الصفريوي الأصل، والمولد والهوى، جبرائيل بن سمحون في قصته (العائد)، كتجسيد رمزي في شخص ثور آبق من حظيرة انتظار المجزرة، لثورة غضب نقمة دفينة عبر سنين في أعماق مالكه المتربص به، ألا وهو الجزار الصفريوي اليهودي "عيوش" الذي كان الصفريوِيُون يتغنون في أعراسهم بأغنية ("يا مسعودة يا خضرت لعينين") الموضوعة كلماتها في شأن زوجته المغبوطة (مسعودة) من طرف ابن باشا المدينة، والتي كان يغنيها ذلك الفتى تحت نافذة تلك الحسناء اليهودية التي كان قد أصبح هيامُه بها قصيدة رومانسية متداولة في أوساط أبناء وبنات الملّتين في حاضرة "حب الملوك"، وذلك دون أن يستطيع الجزار أن ينبس ببنت شفة كما يفعل كل حرّ في الجاهلية والإسلام حينما يتشبب أحدهم بحَرَمه، فاكتفى بالدأب على تفريغ نقمته في الانهماك على فرم اللحم على ظهر الوظم بين سحب دخان حشيش "السبسي". وسواء أكانت بين الثور و الثورة علاقة اشتقاق، كتلك القائمة بين الدور والدورة، أو الهر والهرة، أو المرء والمرأة، أم كان الأمر مجرد اتفاق طريف لا تخلو علاقته الاشتقاقية من دلالة ثقافية في باب الذهنيات، فإن كلا من لفظي الثور والثورة مقترن، من حيث مفهومه، بالعنف والغضب والهيجان والتفجير الكارثي للقوة الخام. ففعل (ثار) مقترن بالبراكين والزلازل والتسوناميات، والنقع، والغبار، والعواصف والعواطف، وكل مظاهر العناصر المتفجرة والمدمرة. وهي بالذات المفاهيم المتكاملة التي ارتبطت في ذهنيات الغالب والمغلوب، والقاطع والمقطوع، بآلية أي تجديد ممكن لهياكل تدبير الشأن العام في المدينة لدى العقليات التي لا تتصور هذه المدينة إلا مجرد "دولة" يُشتق مفهومُها من (دال/يدول) و(زال يزول) حسب الخطاطة الخلدونية، أي حلبة يتخاتل فيها القاطع والمقطوع، والغالب والمغلوب، ويصبح التاريخ فيها تعاقُبا يحُل فيه الغالبون محل المغلوبين، والقاطعون محل المقطوعين، وينتهي فيها بالضرورة مشوارُ كل قاطع إلى مصير المقطوع، وكل غالب إلى مصير المغلوب، وبذلك لا يمكن تصور التاريخ إلا تناوبا لدوري القاطع والمقطوع، على شكل تصريف مستمر لفعلي (دال/يدول)، و (زال/يزول) اللذين يشكلان مصدر اشتقاق مفهوم "الدولة" في تلك العقليات هي الأمور، كما شاهدْتَها، دولٌ من سره زمن ساءته أزمان . وبما أنه بضدها تُعرف الأشياءُ، فلننظر في شأن اشتقاق كلمة Révolution عند قوم الفرانصيص الذين اعتُبرت ثورتهم ذات أبعاد كونية. إنها كلمة مركبة في لغتهم من كلمة Evolution، التي تفيد هندسيا في لغتهم حركة تتطورُ دائريا ودوريا حول مركز فعلي أو تقديري. وتتصدر هذه الكلمة زائدة صرفية هي /ré-/، الدالة صرفيا في تلك اللغة على العَود والعِيد والمعاودة والاستئناف الدوري بعد اكتمال الطور؛ فيكون بذلك معنى الكلمة المشتقة، Révolution، وهو معنى فلكي وهندسي في أصله، هو استكمال جرم من الأجرام، أو نقطة تقديرية، لدورة حول مركز فعلي أو تقديري، وعودة ذلك الجرم أو تلك النقطة إلى المنطلق، الذي يصبح بداية طور جديد من أطوار التطور، يحتوي في حركيته الجديدة على نطاق الطور الأول ويتضمنه بالتجاوز، وذلك في حركة شبه حلزونية يرسمُ سابقُها خطاطة لاحقِها ويتضمنها بالقوة، بينما يتضمن لاحقُها سابقَها بالفعل. إنه المفهوم الذي استُعير، بالنقل الدلالي، من الفضاء الهندسي أو الفلكي، إلى فضاء حركية مجتمع المدينة؛ فيقال عن المدينة من المدائن التي تكون أنظمةُ عمرانها المؤسساتي قد استوفت دورتَها التطورية واستنفدت إمكانيات المطابقة والتكامل في العلاقة بين الواقع الفعلي والفكر الأخلاقي المؤطر أو الأيديولوجيا. وبذلك يقال عن مثل تلك المدينة بأنها قد استوفت دورتها التاريخية فدخلت، بحكم منطق تلك الحركة التاريخية، لا بمقتضى خبطة مزاجية لإرادة من الإرادات الحماسية أو حتى الغاضبة، في مرحلة طور جديد يتضمن مزايا الأطوار القديمة، لكنه يتجاوزها في نفس الوقت من خلال إعادة صياغة الأخلاق المؤطرة للمدينة بما يجعلها في وفاق مع الواقع الجديد. ففي مثل هذه النقطة من نقط التطور والحركة، يقال عن المدينة المعينة بأنها قد أحدثت "الريبوليسيون" Ré-volution. معنى هذا أن هذا المفهوم الأخير إفضاء عقلاني لتطور الطور، وليس مجرد مفاجأة بركانبة أو زمجرة ثورية (نسبة إلى الثور)، أو خبطة مزاجية، أو غضبة كرامة في حلبة القاطع والمقطوع. هذا ما تقصده الأدبيات الثورية بالقول "لا ثورة بدون فكر ثوري". وسواء صادف الفكر من أوجه الواقع التاريخي الملموس ما يجعل منه فكرا ثوريا أم ما يجعل منه مجرد تطوير لنفسه في انسجام مع واقع متطور، فليس المقصود به كل ما يفيض في الجنان من هذيان فيتحرك به وله القلم واللسان. فما أنتجه أمثال مونتيسكيو، وفولتير، وجوته، ونيتشه وتولستوي غير ما ينتجه جيل ممن يجد بأن "بُخل" وزير الثقافة يغلق عنه أبواب الإبداع، فيرابط أمام وزارته ولسان حاله يردد لازمة الساعة: "الفكرْ، يريدْ، إسقاطَ الوزير". وبناء على هذا، فإذا حدثنا التاريخ عن ما لا يحصى عددا من الفتن والانتفاضات، بدءا بعشاق الموت والحشيش في فارس والشام، وقرامطة اليمن من بني هلال ومعقل وسليم ممن انتهى بهم المطاف في المغرب، وليس انتهاء بمختلف أوجه "السايبة" على النهج المغربي، لم يعرف التاريخ إلا أوجها محدودة للثورة باعتبارها حركية اجتماعية موجبة في تطوير المدينة يتخذ فيها مفعول الفكر على الواقع طابع العنف المادي. فهناك الثورتان الفرنسية والأمريكية اللتان اكتملتا ولاتزال لهما موارد التطور، وهناك الثورة الروسية والصينية اللتان لم تكتملا بعد. أما ما حصل في بلاد فارس مثلا فلا يختلف عما سبقه من "ثورات" باعتباره مجرد تفجير لغضب ضد "مخزن" السافاك بدون تراكم فكر موجب. أما الإنجليز فقد أنجزوا تحولهم الاجتماعي بناء على ما راكمه أمثال طوماس هوبز وجون لوك من فكر موجب، بمنهج سلس يتماشى مع تطور اقتصادهم المنتج الخلاق دون مرور لا ب"ميدان تحرير" ولا ب"ساحة تغيير". هذه خواطر عن الثورة، في علاقتها بالثور من حيث المعجم والصرف من جهة، ومن حيث علاقتها بالدولة وأوجه الدولة ك"المملكة" و"الجمهورية"، ولكن ليس من وجهة ما جاء في كتاب الرفيق لينين (الدولة والثورة)، الذي كان الرفيق قد بشر في نهايته بزوال الدولة بعد انفجار الثورة بسبب ما كان يُنتظر من اختفاء مبررات وجود تلك المؤسسة القهرية في جوهرها حسب تصور الرفيق لينين، بعد إقامة البروليتاريا لمجتمع من "طابق أرضي" واحد ووحيد، هو "المجتمع اللاطبقي"؛ وذلك آخر سيناريوهات المدائن المهدوية الفاضلة (Cités messianiques vertueuses). هكذا يتضح، من خلال هذا النوع الطريف من أنواع الرياضة اللغوية، بأن مفهوم Révolution متولد عن فلسفة للتاريخ مغايرة لتصور المجتمع والتاريخ سواء عند من لا يتصور السياسة إلا باعتبارها مشتقة من ساسَ يسوسُ الدوابَّ سياسة، أي روضها ترويضا، أم عند من لا يتصورها إلا كحركة "ثورية" بالضرورة، بما في هذا الوصف من تورية بلاغية قائمة على الالتباس ما بين حركية الثورة بمفهوم "ريبوليسيون" التي لا تتم كل سنتين، ولا تبرمج لا لسنة كبيسة، ولا لسنة سداسية الرقم، ولا للذكرى العاشرة لتخريب برجي بابل الجديدة، وبين حركة الثور الذي هو حيوان من الأنعام من ذوات الأظلاف، تلك الحركة الحيوانية التي تقترن في الأذهان بالطاقات الخام التي تفجرها جموع الجمهور والجماهير الثورية لإقامة الجمهوريات أو الجماهريات الشعبية العظمى على أساس موازنة توزيع الريع بين العشائر والقبائل إلى أن يختل التوازن أو تنضب موارد الريع.