حينما سيطلع متتبعوا هذا العمود على هذه الصور التي تشكل خلاصات من زيارة هامة ومفيدة للمكسيك التي تفصلها عنا ما يقارب عشرة آلاف كلم، ويصل الفارق الزمني بيننا وبينها إلى ست ساعات، وتتطلب الرحلة نحو ما يعادل 14 ساعة من الطيران في الجو، قلت حينما سيطلع القراء الأعزاء على هذا العمود سأكون رفقة الوفد البرلماني المغربي الذي كان لي شرف مرافقته للدورة الثامنة للمنظمة الدولية للبرلمانيين ضد الرشوة في إطار ندوة فكرية عالمية ذات قيمة حول آليات محاربة الفساد من خلال محاربة ظاهرة الرشوة، غسل الأموال، تفعيل توصيات وقرارات الأممالمتحدة، والمنظمة الدولية للبرلمانيين ضد الرشوة، سنكون لازلنا معلقين في الجو في رحلة شاقة لا يخفف من وطأتها إلا حب هذا الوطن الذي كان حاضرا بكل ثقله خاصة بعد الخطاب الملكي السامي الأخير الذي كان محط اهتمام ومتابعة كبيرين في هذه الندوة الدولية، والخلاصات التي حملها تقرير حول واقع النزاهة والفساد في العالم العربي من خلال دراسات حول ثمان بلدان عربية من ضمنها المغرب، والذي حمل توصيات مهمة سنعود إليها لاحقا. وإذا كانت المكسيك ترتبط بذهن المغاربة من خلال تأهل المنتخب الوطني للنهائيات بهذا البلد في السبعينات، ويرتبط اليوم بسلسلة من الأفلام المكسيكية المدبلجة لعل أشهرها فيلم»كوادلوبي»، التي عرفناها كمغاربة كممثلة ضعيفة مقهورة، إلا أنها في الواقع المكسيكي تشكل معتقدا روحيا مهما، وبديلا لمريم العذراء في تاريخ جميع الحضارات المتعددة في هذا البلد الأمريكي لاتيني الذي تأثر كثيرا بالحضارة الإسبانية التي تبدو بصماتها واضحة في الكثير من مظاهر الحياة هنا في المكسيك،»كوادلوبي» الاسم الذي تقرأه في كل مكان، وتجده معلقا على صدور المكسيكيين، في المتاحف، في الأقمصة إنها حاضرة في كل مكان، ويمكن القول أن العقيدة في المكسيك «كوادلوبية» أكثر مما هي كاثوليكية بالمفاهيم المتعارف عليها في الغرب عموما، وإذا أردنا أن نتعرف ولو من خلال صور منقولة عن الحياة المجتمعية المكسيكية يمكن أن نرصدها من خلال الصور التالية: الصورة الأولى : مكسيكو أو ميخيكو كما ينطقها المكسيكيون تبهرك في أول وهلة شوارعها الفسيحة، وعماراتها الشاهقة جدا التي قد تصل إلى ما يفوق 40 طابقا، وفنادقها التي يعادل علوها ما بين 20 و30 طابقا، ومناطقها الخضراء المنتشرة في كل أرجاء المدينة،وطول شارعها الرئيسي المعروف ب:»الريفورما» إذ يبلغ طوله حوالي 40 كلم، وتحتضن العاصمة وحدها ما يعادل 30 مليون من إجمالي الساكنة البالغ عددها 112 مليون، ويشدك كثيرا نظام السير في المدينة المطبوع بالسرعة المفرطة لكن باحترام كبير لقوانين السير كما تشدك تلك الدراجات المنتشرة هنا وهناك للإسهام في الحفاظ على البيئة، والموضوعة رهن إشارة العموم لاستعمالها لقضاء حاجياتهم المستعجلة خاصة في ظل اكتظاظ متواصل في حركة السير. الصورة الثانية: بعد عامل الانبهار الأولي تبدأ في كشف الوجه الآخر للفئات المجتمعية المكسيكية المطبوعة بكل أنواع التناقضات، فالطائرات العمودية الكثيرة التي تجوب سماء المدينة لنقل كبار رجال الأعمال وشخصيات سامية لتلافي حركة الاكتظاظ المتواصل ، يقابلها مظاهر تسول بشكل ملفت في كل أرجاء المدينة من إشاراتها الضوئية إلى ملتقيات طرقها، وأهم شوارعها. أطفال صغار في حالة من الفقر المدقع يحولهم آباؤهم إلى دمى تؤدي حركات معينة لاستدراك عطف السائقين والمارة. أسواق»الهاي كلاص» ترابط أمامها أسواق الباعة المتجولين، وفرق موسيقية تحول فضاءات المدينة مسرحا مفتوحا للتسول بطريقة مغايرة لملتقيات الطرق، وشباب يحولون أنفسهم لآلات يحركها رنين «البيسو» في تلك الآنية المتواجدة أمام كل دمية بشرية تظل منتصبة لساعات تجسد لوحات متنوعة، وأخيرا وليس بأخير تشدك باهتمام «شوافات» المكسيك وقد تحلق حولهن رجال ونساء وأطفال وشباب،قال لنا أحدهم أن المكسيكيين في معظمهم لازالوا يؤمنون بهذا الصنف المبني على الخرافة والشعوذة. الصورة الثالثة : في المكسيك يرفضون التعامل بالدولار في الفنادق،ويحبذون بدله» الأورو» أو»البيسوس» وفي كل المحلات لا يمكن أن نتعامل إلا بالعملة الوطنية للمكسيك، الأمن هناك منتشر في كل مكان لكنه في حالة تأهب قصوى دائمة ،وتتحرك مجموعة الأمن الفيدرالي في مجموعات تتكون من أربعة إلى ثمانية أفراد وأحيانا أكثر في كل المحلات التي تعرف رواجا كبيرا تلاحظ رجالا شدادا غلاظا مسلحين بزي يبدو نظاميا لكنهم ليسوا رجال أمن، ولكنهم رجال تابعون لشركات خاصة للحراسة أو ما يتعارف عليه في وطننا ب:»سيكوريتي» مع فرق فاضح في البنيات والمعدات، ولاشك للظاهرة أسبابها بفعل معدل الجريمة المنظمة المرتفعة. الصورة الرابعة : المكسيكيون مهووسون بالمنطق الأمريكي في الأكل والسيارات الفخمة الكبيرة، لذلك نرى نتائج نظام التغذية الأمريكي واضح في أجسادهم البدينة، وطريقة الأكل المتواصلة، إضافة إلى الحرص على امتلاك سيارات فاخرة للاستدلال على الانتماء للطبقة الارستقراطية، ولذلك يفهم الزائر لعاصمة المكسيك ذلك الازدحام الغريب أمام مقر « اليانصيب الوطني» الذي تحتضنه عمارة شاهقة في وسط العاصمة ، طمعا في فوز قد يحقق أحلاما كثيرة لشعب يعيش كل التناقضات المستعصية على الفهم. الصورة الخامسة: رغم كل ذلك تمتلك المكسيك رصيدا حضاريا تجسده متاحفها الكبرى ومآثرها المتعددة، ومن ضمنها الأهرامات المكسيك العجيبة والتي تنافس شقيقاتها في مصر الشقيقة، إضافة إلى قصور في بعض قمم جبالها التي تعود لملوك تعاقبوا عليها في فترات تاريخية تمتد على 140 سنة تقريبا، ولا بد من تسجيل ظاهرة مهمة وهي تخصيص مختلف الشوارع الكبرى يوم الأحد للدراجات الهوائية فقط لأنه يوم بدون سيارات حفاظا على البيئة . الخلاصة العامة : أن المكسيك عالم من ألوان المتناقضات التي تجمع الحضارة بالتخلف، والثراء لدى فئة قليلة مقابل فقر واضح لدى أغلبية ، تعاينها بالمباشر في كل أرجاء المدينة، والعمران المعاصر المبهر بالبنيات العتيقة الآيلة للسقوط كإحدى العمارات المجاورة لمقر»السينا المكسيكي» والاستقرار الحذر المطبوع بنزعة الخوف من انتشار أنواع مختلفة من الجرائم أخطرها الجريمة المنظمة التي زحفت بشكل كبير في اتجاه العاصمة من شمال المكسيك وأصبحت حقيقة مفزعة لساكنة تحاول أن تصل بيوتها قبل حلول الساعة العشرة أو العاشرة والنصف ليلا وهي الساعة نفسها التي تعادلها في بلادنا الساعة الرابعة صباحا، نعم حينما ننام هم يستيقظون وحينما نستيقظ ينامون وسبحان الذي جعل في خلقه شؤون.