طوال تاريخها العريق، والتنمية بشكل عام تعرف أنماطا متعددة، منطلقات.. حوامل.. وغايات، كما أنها لم تكن تحقق أهداف شعوبها الكمية والكيفية في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية..، وإن كان بعض من ذلك فببروز مشاكل وتحديات جديدة وبأعراض جانبية لا تكون في الحسبان، بل وصعبة التجاوز وحتى الفهم والاستيعاب أحيانا. لكن الأقوام، ومن صدق تعاطيها مع معركتها ضد التخلف والحرمان، فإنها لا تفقد الثقة في نسق التنمية هدفا ووسيلة، بقدر ما تبحث في تجديد منظومته وإصلاح أعطابه النظرية والتطبيقية لعلها ترسو على نموذجها التنموي المناسب لها علميا وعمليا. في الدرس الجامعي، نجد سوسيولوجيا التنمية في شعبة علم الاجتماع تعرف التنمية في المجمل بأنها: "تحول مقصود من حالة معينة معطاة إلى حالة أخرى بنائية يحكم عليها بأنها الأفضل، اقتصاديا روحيا واجتماعيا"، وهي حالة تتقاطع بشكل ما مع العديد من الديناميات النهضوية والاصلاحية كالتطور.. والتقدم.. والتغيير.. والتحديث..، وهكذا تعددت التجارب التنموية عبر العالم من النموذج التقليدي المرتكز على الزراعة والتنمية بالأحواض إلى ما قبل 1948(فرانسوا بيروكس)، فتجربة التحديث والثورة الصناعية إلى 1960، وهو نموذج اقتصادي يهدف إلى النمو و إلى إعادة ترميم ما دمرته الحروب العالمية في الدول الغربية وفق مخطط "مارشال" الذي يرى التنمية في دول الجنوب مجرد حتمية خطية تصاعدية وإدراكها من طرف الجميع مجرد عامل زمني لا غير(والت روستو/1955)؟. لكن هذه الدول الفقيرة والمستعمرة، لم تدرك في الحقيقة غير مزيد من استنزاف مواردها وتدهور أنظمتها البيئية وشيوع مظاهر التخلف فيها بشكل أعمق، ليتدخل النموذج الاشتراكي/الماركسي في صراعه المحموم مع المعسكر الليبرالي الرأسمالي، يعد دول العالم الثالث والتي تحررت للتو من الاستعمار الغربي أو تكاد، بأنه يملك لها مفاتيح التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.. تحقيق المساواة وانهاء الصراع الطبقي..(كارل ماركس)، لتجد الدول المستقطبة نفسها وإلى حدود عقود 1970 و1980 في مجرد استبدال مجاني/أيديولوجي للتبعية من المعسكر الرأسمالي الغربي إلى التبعية للمعسكر الشيوعي الشرقي، دون تنمية تذكر غير مزيد من التبعية والتي تعدت التبعية الاقتصادية إلى التبعية السياسية والاجتماعية والثقافية..، والتي لم يكن للدول الضحايا من منفذ للخروج من ورطتها الأيديولوجية إلا سقوط جدار برلين 1989 وفشل بروستريكا "غورباتشوف" في الاتحاد السوفياتي. وخلال عقود 1980 إلى 1990 كان حظ التنمية في العالم أن تقع في أحضان "النيو ليبرالية" ومخالب العولمة والنظام الدولي الجديد، كانت تستثمر في صلافة مؤسساتها الدولية العملاقة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وما فرضاه على الدول السائرة في طريق النمو من سياسة التجارة الحرة (Gatt) وإعادة الهيكلة وفرض الخوصصة التي باعت العديد من مؤسسات الدولة، مع ضرورة نقص الانفاق العمومي على القطاعات الاجتماعية للدول..، وسياسة إغراق الدول بالديون المشروطة والمقيدة ومزيد من الديون لإعادة ما تراكم منها، والذي لا يعاد منها شيئ بسبب الفساد، مما خلف احتقانا اجتماعيا لدى هذه الدول بزيادة معدلات البطالة والتفاوت الاجتماعي والاحتجاجات، ولم يخلق لها أي موطئ قدم تجاري في التجارة الدولية لأنها لم تستطع منافسة الدول الكبرى لا في إنتاجها ولا في جودتها وخدماتها أو تنافسية عروضها وعلاقاتها؟. ومنذ التسعينات إلى اليوم، ربما يمكن القول بأن النماذج التنموية العالمية قد عرفت ثورة غير مسبوقة، أولا، بإبعاد التنمية عن نموذجها الاقتصادي الصرف (القاصر والفاشل) إلى نماذج أخرى أجدى وأنفع وأشمل، نذكر منها: 1- نموذج التنمية البشرية: والتي كانت ترعاها الأممالمتحدة (أمارسيا سين/1999) والذي جمع في نموذجه التنموي بين البعد الاقتصادي والخدماتي (الصحة والتعليم) الدخل الفردي والعائد الحقوقي/الحريات ومدى ارتفاع معدل أمد الحياة.. وقد أصبح عندنا اليوم 74 سنة، وعند بعض الدول كاليابان 84 سنة. 2- نموذج التنمية المستدامة: (بيروت لوند/1987) والذي يرى التنمية هي تلبية حاجيات الأجيال الحالية دون المساس بحق الأجيال القادمة، وهي بذلك تتسم بالاستدامة للطاقات والموارد وتجمع بالضرورة بين ثلاثة أبعاد وهي البعد الاقتصادي (الدخل القومي والدخل الفردي) والبعد الاجتماعي والبعد البيئي المخفف من التغيرات المناخية. 3- نموذج التنمية المجالية: (برنار بيكوير/2000)، وما تتسم به من المقاربة التشاركية بين مختلف الفاعلين الرسميين والمدنيين ومن والحكامة الجيدة وما تفضي إليه من عدم احتكار القرار من طرف أي جهة كانت، خاصة الجهات الرسمية المركزية التي يصبح رأيها مجرد رأي بين غيره من آراء الآخرين؟، وهي تنمية تعتمد على النتائج على أرض الواقع وباستثمار التكنولوجيا الذكية لحماية الأنظمة الإيكولوجية، ولمحاربة الفقر والبطالة والهجرة.. والآن، وعودة إلى الحالة المغربية، والتي كانت لها الجرأة على إعلان فشل نموذجها التنموي القديم واستنفاذ أغراضه، وكذلك الجرأة في الإعلان عن إعداد وتبني لنموذج تنموي جديد واعد ورائد، إلا أن السؤال يبقى ملحا وحارقا، خاصة على ضوء تاريخ التجارب التنموية العالمية وما عرفته من نجاحات وإخفاقات، وتجزية أوقات في أوهام تنموية وانتظارات لا يتحقق منها شيء ذي بال مما يحتاجه الوطن والمواطن؟. فنموذجنا التنموي الجديد، إلى أي مدى تخلص من عوامل فشل النماذج السابقة؟، من التبعية.. والحوضية.. والمديونية.. والأحادية الفلاحية أو الصناعية..؟. من الطواقم البشرية الفاشلة والمكننة غير المعقلنة واضطراب في القيم الإنتاجية والاجتماعية..؟، ما جدوى الحوامل التنموية الجديدة كالسياحة والثقافة والرياضة والفن.. وما سياسات تثمين ما تزخر به البلاد ويمتلكه العباد من هذه الموارد التنموية المحلية والمستقبلية؟. أية برامج تنموية علمية وعملية يمكن أن تجعل من تنميتنا شمولية تكاملية تضامنية مادية ومعنوية منا وإلينا ولصالح جميع الفئات وفي جميع المجالات؟، ما نتبناه من نماذج تنموية هامة "بشرية".. "مستدامة".. "مجالية"..، ألا يعتري تدبيرها العديد من الاختلالات رؤية وممارسة؟، فهل هناك من بوادر التدارك، وما معالمها؟، أم مجرد المعهود من بوادر إخلاف الموعد وهدر الزمن التنموي (حالة الدستور الجديد وقد مر على وضعه عقد ونصف من الزمن، وربما ما لم يفعل فيه من المواد أكثر مما فعل على علل التأويل من طرف البعض من غير ذوي الاختصاص وممن هم غير مكلفون ولا مؤهلون لذلك، وكأن تأويل الأشياء سلبا أو عدمه سواء، وكأن تنمية الأوطان أو شبهها أيضا سواء، ألا ساء ما يحكمون يا نموذج يا تنموي يا جديد، التنمية تنمية ولها قيمها مؤشراتها ومعاييرها..، بوجودها توجد وفي غيابها تغيب مهما ادعى المدعون وأول المأولون)؟.