إلى جانب «مقهى باريس»، في قلب مدينة طنجة، يوجد بائع كتب مستعملة يقف عنده المارة ورواد المقهى من المثقفين بجميع اللغات. أمام هذا البائع بدأت قصتي مع ابن فضلان. لفت انتباهي كتاب جيب على غلاف، صورة بالألوان لرجل عربي وسيم، في يده ورقة ملفوفة ومعقودة بشريط، يبدو عليها أنها خريطة أو وثيقة وإلى جانبه رجل أوروبي أشقر، ضخم الجثة، يلبس ملابس الفروالاسكندنافية ويحمل في يده ساطورا بشفرتين. عنوان الكتاب: «أكلة الأموات» «EATERS OF THE DEAD» الكاتب : «مايكل كريتش» «MICHEAL CRITCHON» وتحت الاسم بخط أصغر: مؤلف كتاب «سرقة القطار الكبرى». وخلف الكتاب قرأت الجملة التالية التي كانت حافزي لشراء الكتاب: «منذ ألف سنة اختطف الفايكنج (الاسكندافيون) عالما عربيا اسمه ابن فضلان، وأخذوه معهم إلى بلادهم غير المتحضرة بالشمال. وكان هو رقيقا، حاضر البديهة، ومن سكان المدن المسالمين. أما مختطفوه فكانوا همجا، متوحشين وعشاق حرب. «وقصة رحلة ابن فضلان مع الفايكنج وتبادل المعلومات التدريجي بينه وبينهم، والشك الذي تحول إلى احترام قصة مثيرة حقا، قصة شجاعة وإنسانية تصل إلى ذروة الروعة حينما ينضم ابن فضلان إلى مختطفيه في قتالهم ضد المخلوقات المرعية المكسوة بالشعر التي تزحف خارجة من كهوفها لتقتل وتأكل ضحاياها. ووصفت جريدة «الديلي تلغراف» اللندنية الكتاب بأنه: «من أروع روايات السنة». وما كدت أنتهي من قراءة المقدمة الرصينة التي كتبها (كريتشن) حتى أدركت أنني أمام عمل عظيم، وقصة إنسانية بالدرجة الأولى، وحضارية واقعية، وليس مجرد رواية خيالية، كما وصفها الكتاب على غلافه ب «أكلة الأموات» «EATERS OF THE DEAD». افتتح «مايكل كريتشتن» مقدمة الرواية بقوله: «يعتبر مخطوط ابن فضلان أقدم تسجيل معروف، كتبه شاهد عيان، عن حياة ومجتمع «الفايكنج» السكاندينافيين. فهو وثيقة فريدة من نوعها، تصف بدقة متناهية أحداثا وقعت منذ أكثر من ألف سنة. ولم يصلنا المخطوط كاملا عبر تلك الفترة الزمنية الهائلة فله هو الآخر، قصة لا تقل غرابة عن النص نفسه. مصدر المخطوط «في يونيو 921 م أرسل الخليفة العباسي المقتدر عضوا من بلاطه هو أحمد بن فضلان، كسفير لملك البلغار، وغاب ابن فضلان مدة ثلاث سنوات دون أن ينجز مهمته (1)، فقد اعترض طريقه جماعة من الاسكندينافيين أخذوه معهم قسرا، وكانت له معهم مغامرات. «وحين عاد ابن فضلان أخيرا إلى بغداد سجل تجاربه في شكل تقرير رسمي للبلاط. وقد اختفى ذلك المخطوط الأصلي منذ زمن طويل. ولأجل إعادة كتابته كان لابد من الاعتماد على قطع بقيت محفوظة في مصادر متأخرة. «وأهم هذه المصادر هو معجم (ياقوت: ابن عبد الله) الجغرافي الذي كتب في القرن الثالث عشر الميلادي، والذي تضمن دستة من المقتطفات الحرفية من مخطوط ابن فضلان الذي كان قد مرّ عليه ثلاثمائة سنة حينئذ. ولابد من الاعتقاد بأن (ياقوت) نقل عن النسخة الأصلية، ورغم ذلك، فقد ترجمت تلك الفذلكات وأعيدت ترجمتها عشرات المرات من طرف العديد من الباحثين المتأخرين. «وقد اكتشفت قطعة من المخطوط في (روسيا) سنة 1817، ونشرت بالألمانية في أكاديمية (سان بيترسبورغ) سنة 1823. وتتضمن هذه القطعة بعض المقاطع التي سبق أن نشرها (ج.ل.رازموسين) سنة 1814. وقد اشتغل (رازموسين) على مخطوط وجده في (كوبنهاغن)، ضاع منذئذ، وكان مجهول الأصل. «وكانت هناك ترجمات انجليزية، وفرنسية، وسويدية، ولكنها جميعا كانت فظيعة الأخطاء، ولا تتضمن أي جديد. «وفي سنة 1878 تم العثور على مخطوطين جديدين بين مجموعة الكتب القديمة الخاصة ب (السير/جان ايمرسون) (sir john Emerson) ، السفير البريطاني بالقسطنطينية، ويظهر أن (السيرجان) كان أحد الجمَّاعين الذين يتجاوز حماسهم للجمع اهتمامهم بمحتوى ما يجمعونه. وقد وُجد المخطوطان بعد وفاته، ولا أحد يعرف من أين حصل عليهما، ولا متى. وأحدهما كتاب جغرافي بالعربية «لأحمد الطوسي»، مؤرخ ب 1047 ميلادية. وهذا يجعل مخطوط «الطوسي» أقرب زمنيا من أي مخطوط آخر، إلى أصل ابن فضلان الذي يعتقد أنه كتب حوالي سنة 926-924م. ورغم ذلك فالباحثون يعتقدون أن كتاب الطوسي أقل المصادر جدارة بالثقة، فهو مليء بالأخطاء، والتناقضات الواضحة. ورغم أنه يأخذ الكثير عمَّن يسميه بابن الفقيه الذي زار بلاد الشمال، فإن الكثير من المؤرخين يترددون في قبول مادته. أما المخطوط الثاني فهو (لأمين الرازي). ويرجع تاريخه التقريبي إلى1585 - 1595م. وهو مكتوب باللاتينية، ومترجم، حسب كاتبه، رأسا من الأصل العربي لابن فضلان. ويحتوي مخطوط الرازي على بعض المعلومات عن (الأتراك الأغُوز)، وعلى فقرات تتعلق بالمعارك مع غيلان الضباب، لاتوجد في مصادر أخرى. وفي سنة 1934 عثر على نص مترجم إلى لاتينية العصر الوسيط في دير (كسيموس) قرب (تسالونيكا) شمال شرق اليونان. ويتضمن مخطوط كسيموس تعاليق اضافية عن علاقة ابن فضلان بالخليفة، وتجاربه مع غيلان الضباب ببلاد الشمال. ولا يعرف شيء عن كاتب مخطوط (كسيموس) ولا عن تاريخه. ابن فضلان: يحدثنا ابن فضلان بصوت واضح رغم مرور أزيد من ألف سنة على رسالته، ورغم عدد الناقلين والتراجمة الذين تناولوا الرسالة بأكثر من اثنتي عشرة لغة، مع ما تتضمنه تلك اللغات من تقاليد ثقافية. (1) السفير الحقيقي كان «نذير الحُرَمي» وقد ندب ابن فضلان لقراءة الكتاب عليه، وتسليم ما أهدى إليه كما يقول ابن فضلان بنفسه. ونحن لا نكاد نعرف شيئا عنه شخصيا. فالظاهر أنه كان متعلما. ومن خلال مغامراته نستنتج أنه لم يكن كبير السن. وهو يذكر أنه كان من أقرباء الخليفة المقتدر، وأنه لم يكن يضمر للخليفة أي تقدير. (ولم يكن وحده في هذا. فقد تم عزل المقتدر مرتين، وقتل في النهاية على يد أحد رجاله). بغداد في عصر ابن فضلان: ونحن نعرف الكثير عن مجتمع ابن فضلان. فقد كانت بغداد، مدينة السلام، في القرن العاشر، أزهى المدن حضارة على الأرض. وكان يعيش داخل أسوارها أكثر من مليون نسمة. وكانت مركز النشاط التجاري، والإشعاع الثقافي، ومسرحا رائعا للجمال، والأناقة، والإشراق. كانت أسوارها تحوي البساتين العطرة، المآوي الظليلة الناعمة، والثروات الطائلة التي تأتيها من أطراف الامبراطورية الشاسعة. وكان عرب بغداد مسلمين شديدي التمسك بدينهم. ولكنهم كانوا متفتحين على شعوب تختلف عنهم في المظهر، والعادات، والمعتقدات. وفي الحقيقة كان العرب أقل الشعوب إقليمية في العالم، في ذلك العصر. وهذا جعل منهم ملاحظين ممتازين للثقافات الأجنبية. ومن الواضح أن ابن فضلان كان ملاحظا ذكيا. فقد كان يهتم بجزئيات الحياة اليومية، وبعقائد من يلتقي بهم من الناس وقد صدمه الكثير مما شاهد فوصفه بأنه سوقي أوفاحش، أو همجي. ولكنه لايضيع وقتا كثيرا في التعبير عن سخطه، بل يعود إلى ملاحظاته الدقيقة بمجرد ابداء عدم رضاه. ويحكي ما يرى بصراحة، ودون تعفف. وطريقة ابن فضلان في الرواية قد تبدو غريبة بالنسبة للحساسية الغريبة، فهو لا يحكي القصة بالطريقة التي اعتاد الغربيون عليها. فالغربيون يميلون إلى نسيان أن إحساسهم القصصي صادر عن تقاليد الحكاية الشفوية أي في فرقة تمثيل أمام جمهور غالبا ما كان قلقا أو متضايقا، أو يغلب عليه النعاس بعد وجبة ثقيلة، فأقدم قصص الغرب «كالإلياذة»، و«بيوولف» و«أنشودة رولاند»، كان الهدف منها أن يغنيها مطربون مهمتهم الأساسية هي التسلية. ولكن ابن فضلان كان كاتبا، ولم يكن قصده الأساسي التسلية. ولم يكن يهدف إلى تمجيد زعيم في محضره، ولا تركيز اسطورة في المجتمع الذي يعيش فيه. بالعكس فقد كان سفيرا يكتب تقريرا، ونبرته كانت نبرة ممثل أوراوي أساطير. وفي الواقع كان غالبا ما يهمل العناصر الأشد إثارة في حكايته حتى لا تؤثر على أسلوبه الواضح المتزن. وفي بعض الأحيان يكون هذا التجرد مصدر حنق للقارئ الذي لايدرك عظمة ابن فضلان كمشاهد. فقد جرت العادة بين الرحالة، بعد ابن فضلان بمئات السنين، أن يكتبوا حكايات غاية في الغرابة، ضاربة في الخيال عن عجائب ما رأوا في أسفارهم من حيوانات ناطق، ورجال ذوي ريش، وكائنات اسطورية كالبهيموت ووحيد القرن، ومنذ مائتي سنة فقط ملأ كتاب أوربيون، معروفون باتزانهم، مذكراتهم بكثير من الهراء عن قردة البابون الذين شنوا حربا على المزارعين في افريقيا. أما ابن فضلان فلم يرجم بالغيب أبدا. وكل كلمة كتبها تنطق بالصدق. وكلما كتب شيئا سمعه من غيره، حرص على أن يقول ذلك. وهو حريص كذلك على إثبات ما شاهده بنفسه. وذلك سبب استعماله العبارة: «رأيت بعيني» مرات متعددة. وهذا الصدق المطلق الذي يتصف به ابن فضلان، هو الذي يجعل، في النهاية روايته مرعبة بهذا الشكل. فقد قص حكايته مع «أغوال الضباب»، أكلة لحوم البشر، بنفس العناية بالتفاصيل، وبنفس الحذر والشك الذي يميز الأجزاء الأخرى من المخطوط. وعلى أي حال، فللقارئ أن يحكم بنفسه». انتهى كريتشن ماذا فعل العرب: واستغربت من أن يكون ابن فضلان أقام الدنيا وأقعدها هكذا في أوربا دون أن ينتبه العرب إليه. وبدأت أبحث.. ولحسن حظي عثرت على تحقيق وتعليق قام به الكاتب السوري الراحل، الدكتور سامي الدهان، لرسالة ابن فضلان (1). وسعدت جدا لكون الرسالة نالت ما تستحقه من الاعتبار. وقرأت مقدمة المحقق التي ملأت نصف الكتاب (2) ، وكيف أن صاحب الفضل في تنبيهه اليها كان العلامة الرئيس (محمد كرد علي)، رحمه الله. وكان هذا بدوره قد تنبه الى الرسالة عن طريق مقال لمستشرق ألماني صدر بمجلة «مجرية» باللغة الألمانية. ويقول الدكتور الدهان في مقدمته للرسالة: «ولم أدرس توجيهي إلى المقال، فإذا بالرئيس يحدثني عن أهمية هذه الرسالة، وعن حاجة المثقفين العرب الى قرائتها، واستخراج العبر منها، واكبار الأجداد في همتهم، وسعيهم، وثقافتهم». ويضيف أن رسالة ابن فضلان ربما كانت المصدر الوحيد لتاريخ روسيا، وبلغاريا، وتركيا، في تلك الحقبة الغامضة من القرن العاشر الميلادي. (ولو كان اطلع على الأصل الأول لعرف أن رسالة ابن فضلان، كانت وماتزال المصدر الأول لتاريخ دول الشمال الأوربي، فمنذ ألف سنة كانت القراءة والكتابة شيئا مجهولا تماما بالنسبة للاسكندنافيين). ويفرح الدكتور الدهان بالثقة التي وضعها فيه الرئيس الجليل (محمد كرد علي)، ولكنه ما كاد يواجه المهمة حتى وجدها مهمة مستحيلة. ورغم ذلك صمد الدكتور الدهان للتحدي، وأخرج ما عثر عليه من صفحاتها بمساعدة صديق روسي اسمه «نيكيتا اليسف»، وبعد أن كاد يثنيه اليأس عن مهمته. إلا أنني حين انتهيت من قراءة ما كتبه الدكتور الدهان أصبت بخيبة أمل فيما عثر عليه الدكتور الدهان وحققه لم يتعد جزءا بسيطا من الرسالة الأصلية. وأحسست مرة أخرى، وبعد أن كنت استرحت، بعبء نقل العمل الكامل إلى العربية ينزل على كاهلي.. فما جمعه وحققه «بيرفراوس فولوس» بجامعة (أوسلو) ورتبه الكاتب الانجليزي «مايكل كريتشن»، في شكل رواية يفوق بمراحل ما حققه الدكتور الدهان. والغريب في الأمر أن الدكتور الدهان، والبروفيسور (فراوس دولوس) بدا العمل في الرسالة في نفس السنة 1951 م، ودون أن يعلم أحدهما بعمل الآخر. ويبقى الآن التوفيق بين العملين، واخراجهما في مجلد واحد باللغة العربية. وهذا هو موضوع هذا السفر الجديد. ورعيا للأمانة العلمية، رأيت أن أثبت هنا مجموع ما استطاع الدكتور الدهان استخلاصه من مراجع الرسالة التي كانت بين يديه بما فيها الحواشي والشروح التي تدل على الجهد المضني الذي بذله رحمه الله في هذا العمل: وأقول ما استطاع استخلاصه لأن المخطوطات التي نقل عنها كانت، في غالب الأحيان، مبتورة، ومتآكلة أو غير واضحة في بعض الأماكن، فكان يكتفي بما يستطيع الحصول عليه. ولنفس السبب رأيت الاحتفاظ بترتيب الدكتور الدهان الى نهايته، رغم أن مغامرة ابن فضلان الاسكندينافية حدثت قبل لقائه بملك الصقالية. وهو يشير الى ذلك في مقدمة الفصل المعنون ب: «السفر الى البلد البعيد). وأهم ما يمتاز به ما نقله الدكتور الدهان احتفاظه بأسلوب ابن فضلان المشرق الواضح، وتعليقاته هو الدهان وشروحه لكثير من المفردات وأسماء الأماكن، وكذلك اثباته لصور بعض صفحات الرسالة التي نقل عنها، الشيء الذي اغفله ما يكل كريتشن في كتابه، وكان أجدر به أن يشتبه، وخصوصا خريطة رحلة ابن فضلان في اسكاندينافيا القديمة، ومقارنتها بخريطة لتلك البلاد اليوم. وكم تمنيت لوعثرت على الأصل العربي الذي ترجم منه فريق الأستاذ (بير فاوس دولوس) إذن لنقلته للقارئ العربي بأسلوبه الأصلي، ولما اضطررت إلى ترجمته عن الانجليزية بأسلوب مخالف لأسلوب ابن فضلان. وسيجد القارئ هذا التفاوت واضحا بعد خروجه مما نقلته عن الدكتور الدهان، إلى ما ترجمته عن مايكل كرينش، ابتداء من فصل «بعد جنازة الاسكندينافيين». وفي نظري ، أن ما لم يصل إليه الدكتور الدهان من رسالة ابن فضلان هو أهم كثريا، وأعظم تشويقا وإثارة من وجهة النظر الروائية، والتاريخية، والعلمية على السواء، ففيه تبدأ المغامرة الاسكندينافية الحقيقية. ولحسن الحظ أن ما نقله كريتشن عن فراوس دولوس يبدأ حي ينتهي ما عثر عليه الدكتور الدهان. فالكاتبان، إذن يكمل بعضهما البعض. أما ما ينقص الرسالة، فهو جزؤها الأخير الذي لم يعثر عليه الدهان ولا دولوس ويبدأ بإبحار ابن فضلان في رحلة عودته الى وطنه بعد تسويق ومماطلة طويلة من الملك (روثمان). وتنتهي الرسالة بالضبط عند مشاهدة ابن فضلان لشيء في البحر لاندري ماهو. ولن يتم هذا العمل إلا إذا تم العثور على أصل الرسالة بكامله بأسلوب ابن فضلان، بما فيه وصوله الى مدينة السلام.