القضاء يقول كلمته: الحكم في قضية "مجموعة الخير"، أكبر عملية نصب في تاريخ طنجة    إمزورن..لقاء تشاركي مع جمعيات المجتمع المدني نحو إعداد برنامج عمل جماعة    "ما قدهم الفيل زيدهوم الفيلة".. هارون الرشيد والسلطان الحسن الأول    ‬برادة يدافع عن نتائج "مدارس الريادة"    مجلس النواب يصادق على مشروع قانون الإضراب    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة ...المغرب يشارك في فعاليات حدث رفيع المستوى حول الأسر المنتجة وريادة الأعمال    المخرج شعيب مسعودي يؤطر ورشة إعداد الممثل بالناظور    الجيش الملكي يعتمد ملعب مكناس لاستضافة مباريات دوري الأبطال    تبون يهدد الجزائريين بالقمع.. سياسة التصعيد في مواجهة الغضب الشعبي    بركة: أغلب مدن المملكة ستستفيد من المونديال... والطريق السيار القاري الرباط-البيضاء سيفتتح في 2029    حصيلة الأمن الوطني لسنة 2024.. تفكيك 947 عصابة إجرامية واعتقال 1561 شخصاً في جرائم مختلفة    أكرم الروماني مدرب مؤقت ل"الماص"    وزير العدل يقدم الخطوط العريضة لما تحقق في موضوع مراجعة قانون الأسرة    الحصيلة السنوية للمديرية العامة للأمن الوطني: أرقام حول المباريات الوظيفية للالتحاق بسلك الشرطة        الاعلان عن الدورة الثانية لمهرجان AZEMM'ART للفنون التشكيلية والموسيقى    أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية .. رأي المجلس العلمي جاء مطابقا لأغلب المسائل 17 المحالة على النظر الشرعي        البيضاء: توقيف أربعيني متورط في ترويج المخدرات    آخرها احتياطيات تقدر بمليار طن في عرض البحر قبالة سواحل أكادير .. كثافة التنقيب عن الغاز والنفط بالمغرب مازالت «ضعيفة» والاكتشافات «محدودة نسبيا» لكنها مشجعة    هولندا: إدانة خمسة أشخاص في قضية ضرب مشجعين إسرائيليين في امستردام    المغرب يستورد 900 ألف طن من القمح الروسي في ظل تراجع صادرات فرنسا    جمهور الرجاء ممنوع من التنقل لبركان    وزارة الدفاع تدمج الفصائل السورية    مراجعة مدونة الأسرة.. المجلس العلمي الأعلى يتحفظ على 3 مقترحات لهذا السبب    الصناعة التقليدية تجسد بمختلف تعبيراتها تعددية المملكة (أزولاي)    الدورة العاشرة لمهرجان "بويا" النسائي الدولي للموسيقى في الحسيمة    العلوم الاجتماعية والفن المعاصر في ندوة بمعهد الفنون الجميلة بتطوان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية : البحاثة محمد الفاسي : مؤرخ الأدب والفنون ومحقق التراث    تفاصيل الاجتماع الأول لفدرالية الصحافة الرياضية بالمغرب    الشبكة الدفاع عن الحق في الصحة تدعو إلى التصدي للإعلانات المضللة        يوسف النصيري يرفض عرض النصر السعودي    إلغاء التعصيب ونسب الولد خارج الزواج.. التوفيق يكشف عن بدائل العلماء في مسائل تخالف الشرع ضمن تعديلات مدونة الأسرة    الملك يشيد بالعلاقات الأخوية مع ليبيا    "أفريقيا" تطلق منصة لحملة المشاريع    مجلس الحكومة يتدارس أربعة مشاريع مراسيم    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    الإصابة بالسرطان في أنسجة الكلى .. الأسباب والأعراض    نظرية جديدة تفسر آلية تخزين الذكريات في أدمغة البشر    العصبة تكشف عن مواعيد مباريات الجولة ال17 من البطولة الاحترافية    "فيفبرو" يعارض تعديلات "فيفا" المؤقتة في لوائح الانتقالات    الإعلان عن تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة        عودة نحو 25 ألف سوري إلى بلدهم منذ سقوط نظام الأسد    مستشار الأمن القومي بجمهورية العراق يجدد موقف بلاده الداعم للوحدة الترابية للمغرب        "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    المغرب يشارك في أشغال الدورة الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب بالرياض    اختطاف المخيم وشعارات المقاومة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حفريات
نشر في العلم يوم 10 - 03 - 2011


1 " قائماً كما السّاكن على عمود "
اختلق سمعان ، في القرن الخامس للميلاد ، شكلاً جديداً من التزهّد ، شكلاً فريداً من الانقطاع عن العالم . عوض أن يستغرق في عزلة مقفرة ، كما كان يفعل المتنسّكون في زمانه ، فضّل أن يرتقي عموداً ، رافضاً النزول عنه . مكث على ذاك العمود سبعا و ثلاثين سنة ، مُقاوماً قسوة الشّمس و المطر و الرّيح ، و رغماً أيضا عن مجازفات القلب و الرّوح .
كانت جموع النّاس تأتي لرؤيته ، و حتّى من مكان بعيد ، لتتعرّف على أخباره و تتحقّق من صلابة قراره . استقرّ بعضها عند قدم العمود و بسط الباعة شتّى الأصناف من المؤن مختلطة بمختلف أغراض التعبّد . كانت تلك الجموع تشفق عليه ، تضايقه ، ترميه بثمار التّين و البرتقال و بالبيض المسلوق . البعض و قد ارتأى أنّ موقفه أخرق ، كان يبحث على أن يُخمد عزمه ؛ في الواقع ، كان يغار و يأمل لو تخلّى عن صنيعه و يخسر رهانه . البعض الآخر اللّطيف معه ، حسب الظّاهر ، كان يطلب منه الاحتراس ، و خاصّة أثناء النّوم ، لكنّه في أعماق نفسه ، ما كان ليستاء لو أنّه عاين سقوطه المُروّع .
تمّ تقديسه بإسم القدّيس سمعان العمودي و كان له مقلّدون كثر ، بدءًا من ابنه سمعان الأصغر ، كانت له كذلك سلالة أدبية : بهلوان كافكا الذي لم يشأ النّزول عن أرجوحة التريّض ، و البارون المُعلّق لإيطالو كالفينو الذي أمضى حياته بين الشّجرات ( النّساء اللّواتي أحبّهنّ ، انضممن إليه بين الأوراق ) . و في السّينما ، يمكن أن نذكر آماركورد ، و لكن أيضا ألكسندر السّعيد (1).
على أنّ للقديس سمعان مريدين عديدين لم يسمعوا به بتاتا ، منهم هذا الشخص الذي ( و قد ذكره النيسابوري في مؤلفه " عقلاء المجانين " ) عاش حتّى مماته فوق سطح بيته ، قائما على قدم واحدة . المثير للاهتمام أكثر هو نحويّ من القرن الخامس الهجري ، أبو الحسن البصري الذي ، حين أبصر يوماً قطّاً يحمل طعاما لقطّ مثله أعمى ( لا يُعرف الكثير عن هذه الحكاية ) هجر النّحو ، و مزدرياً الدّنيا ، استقرّ بحجيرة أعلى مسجد . هوى منها و مات ، مُحطّم العظام (2) . أقلّ تهوّرا ، كان سمعان العمودي الذي أمدّ عموده بسياج .
2 المشهد الآخر
كان لأهل مدينة إيدومي ( أ هي تلك التي ذكرها مالارمي في إحدى قصائده ؟ ) عادةَ أن يطردوا كلّ مساء ، خارج الأسوار ، المتشرّدين و المتسوّلين و النصّابين و الغرباء . عند طلوع النّهار ، يرضون بهم بينهم . الإخباريون يحارون حتّى اليوم في تخميناتهم بصدد هذا التصرّف الغريب . ما يُدهشهم أكثر هو التّفصيل التالي : في اللّيل ، كان سكّان مدينة إيدومي المعروفة أيضا بإسم المدينة غير المضيافة ( في تناقض عميق مع قصد نصّ مالارمي الذي يحمل تحديداً عنوان " هِبة القصيدة " ) (3) يلتئمون فوق الأسوار و يُعاينون مشاهد القتل و الإغتصاب و الفظاعة التي تجري أسفلهم ، في الظّلام .
3 رسم
لقد أتى على آدم أنْ ذاق الثّمرة المُحرّمة ؛ عضّ على التفّاحة و تمّ إلزامه أن يُمرّغها في فمه إلى الأبد . فمه المفتوح على سعته مُرٌّ . ضخامة التفّاحة هي بقدر فداحة الإثم .
الزّهرة من نفس لون التفّاحة . حين يُنظر إليها عن قرب ، هذه الزّهرة وجه . أيّ وجه ؟
سيزيف الذي يُختزل عادة و بغير صواب إلى صخرة عنيدة ، كان رجلاً محتالاً ، بل أكثر احتيالاً حتّى أنّ المؤرّخين ادّعوا أنّه أب أوديسيوس . بما أنّ الحيلة مُتلويّة ، مُتعرّجة ، متاهية ، فهي تذكّر بالشبكة ، بالأنشوطة وبالعقدة . و بالفعل ، نجح سيزيف في تكبيل ثاناتوس بالسّلاسل و هو الذي أتى ليقوده إلى مملكة الأموات . إنّه الفاني الوحيد الذي أفلح في تحقيق هذا الصّنيع الخارق : أن يخدع الموت ، يستدرجه إلى الفخّ ، يجعله عاجزاً إلى أن جاءت الآلهة الغيورة على امتيازها لنجدته و تخليصه .
على طرف من التفّاحة ، سنجاب ... لا ، شيطان صغير ... أو على الأصحّ عصفور ، هو غير مكترث بعذابات آدم سيزيف و بالحمولة الرّمزية لهذا الرّسم ، غير مبال كذلك بالمُشاهد .
4 المعطف الأسود
بعد أن تمكّن من قتل المينوتور ، نجح ثيسيوس من الخروج من المتاهة بفضل خيط أريادنى . أريادني التي سيتركها ( ناكر الجميل !) على جزيرة مقفرة (4) .
الآن ، المتاهة خاوية و صامتة . شبحُ المينوتور ، مع ذلك ، عائم فيها بلا عزاء و بلا جدوى من الوعيد . إنّه يصبو للخلاص ، لكنّه لا يدري كيف يغادر هذا المكان المُخيف و يلتحق بمملكة الأموات . و من ثمّ يظلّ هائماً بلا توقف ، في الذي لا مهرب منه . من وقت لآخر يتصادم مع أشباح أخرى ، أشباح ضحاياه .
الآلهة المجتمعة فوق الأولمب بمناسبة مأدبة كبيرة تتوجّه إلى ثاناتوس و تسأله لماذا لم يقد المينوتور إلى الجحيم . متدثراً في معطفه الأسود ، أغضى ثاناتوس خجلاً ، و لم يُجب . حينئذ صدرت عن الآلهة قهقهة هائلة . لقد فهمتْ : إله الموت لم يذهب للبحث عن شبح المينوتور لأنّه كان يخشى من أن لا يستطيع مغادرة المتاهة و أن يظلّ فيها إلى الأبد .
5 مجنون ليلى
يُشفق على قيس ، مجنون ليلى ، يُتأسّف للمصير الذي آل إليه ، لكن يُنسى أنّ هذا القدر اختاره بملء هواه . كان عاشقاً لليلى ، ابنة عمّه و الحكاية كان يُمكن لها أن تنتهي بزواج عادي لو أنّه كفّ، كما كان يُوجب العُرف في ذاك الزّمن ، عن التغنّي بعشقه و إعلان إسم معشوقته . عاجزاً عن السّكوت ، لن يُقاوم إغراء أن يُنشد أشعاره . كان لا يجهل ، مع ذلك ، أنّها ستنتشر ، أنّه ينتهك محظوراً و يفقد ليلى نهائياً . أيّ قول يُقال سوى أنّ عشق القصيدة كان عنده أكثر قوّة من هوى ليلى ؟ في سياق آخر ، يُقرّ الجاحظ و هو كلام مستفظع بأنّ الكتاب ، في سويداء الكاتب ، أعزّ بكثير من الولد .
6 استعارة
القصيدة الغنائية ، كما يقول الشعراء القدامى ، ناقة شاردة : لا يُعلم لمن ستؤول ، ضائعة في المساحة الصّحراوية الشاسعة ، تهيم على وجهها باحثة عن مثيلاتها ، عن حيوانات و أنامٍ ، لكنّها ليست على يقين من العثور عليهم . في يوم يأوي غرباءٌ اليتيمة و يتبنّونها و بقربهم تُمضي بقيّة أيّامها إلاّ أن تضلّ من جديد . إنّ قدر القصيدة الغنائية أن تشرد ، أن تكون غريبة .
هذا الأمر ، كان الشاعر العربي يعلمه ، لكنّه كان يعتقد أنّ هذه القصائد الغنائية لن تُقرأ بوجه آخر إلاّ في اللّغة العربية . كان أبعد من أن يتوهّم بأنّ هذه النّوق ، قرونا بعد ذلك ، ستصل إلى مدن لم تكن لديها أيّة فكرة عنها : برلين ، باريس ، لندن ، نيويورك . فقد تُرجمت ، شُرحت ، أُوّلت ، أصبحت تتكلّم ، بعد الآن ، لغات أجنبية . مع الزّمن ، ستنسى ربّما ، لسان قومها .
7 أوزيريس
كُلّف الوزير الكندري من قبل السّلطان السّلجوقي طغرل ( المناصر للمعتقد السنّي في القرن الخامس الهجري ) أن يطلب له ، و بإسمه ، يد أميرة من خوارزم. منتهزاً المناسبة غدراً ، تزوّج الوزير نفسُه الأميرة . لنُذكّر بأنّ تريستان أضحى مذنبا بخيانة شبيهة بهذه تجاه الملك مارك (5) . لم يكن للكندري ، صحيح ، ذريعة شراب المحبّة ، غير أنّ بهاء الأميرة الذي لا نظير له ، كان أقوى تأثيراً من السّحر. وُصفت له مفاتنها ، أو ربّما رمقها خلسة و هي من وراء حجاب . في طوق الحمامة ، المكتوب في الحقبة عينها ، يُسجّل ابن حزم القرطبي أنّه في شؤون الحُبّ ، يجب الارتياب كثيرا في المبعوث .
السّلطان لم يقتل الكندري ؛ ارتضى في عفوه عنه بأن أخصاه و أبقاه كوزير .
وفق رواية أخرى ، لم يتزوّج الكندري الأميرة بتاتاً ، و لأنّه علم أنّ أعداءه يشيعون عنه أنّه يشتهيها ، ارتاع من ذلك ، و حتّى يُنقذ حياته ، أخصى نفسه . و لكي يُدمغ انقياده و يستعيد حظوة السّلطان ، حلق أيضا لحيته ، الرّمز الآخر للرّجولة ( الذين كان يُفرض عليهم هذا العقاب ، كانوا يقبعون في منازلهم حتى ينبت الزّغب من جديد ) .
فيما بعد ، أمر السّلطان بضرب عنق الوزير . لمّا حضر السيّاف إلى بيته ، قام الكندري بتوديع عائلته ( المُقتصرة على بنت وحيدة ) . بعد ذلك ، عهد إلى السيّاف بكفنٍ و أعطاه مائة دينار حتّى يُكفنّه بعد مماته . في الإمكان تصوّر أنّ السيّاف سيشرّف تعاقده ، لم يكن له أيّ باعث مشروع للتملّص منه . فقط ، أيّة قطعة من الجثة ستدثر في كفن ؟ لأنّ الكندري بُترت أعضاؤه و قُبرت في مواضع شتّى : صُبّ دمه في مرو الرّوذ ، الجسد دُفن في كندور ( التي جذور الوزير منها ) ، الرأس في نيسابور ، آلات التّناسل في كرمان ( بعد أن حُشيت و هذا تفصيل ملغز بالتبن ) . (6)
منذ مماته ، يبذل ، دون شكّ ، جهوداً عبثية ، بقدر ما هي مضحكة ، حتى يسترجع تمام جسده ، حتى يلتئم مع ذاته .
مؤرّخان ، ابن خلكان و ابن كثير سردا ، بروايات مختلفة ، هذه الحكاية . الأوّل رأى فيها مناسبة للتفكّر في لا استقرار شؤون هذا العالم و الطابع العابر للسّلطة . الثاني سيُوجّه تأمّله نحو بعث الجسد المبعثرعند نهاية الدّنيا " و أنا أشهد أنّ الله جامع الخلائق إلى ميقات يوم معلوم ، أين كانوا ، و حيث كانوا ، و على أيّ صفة كانوا ".
و أميرة خوارزم ، ماذا حلّ بها ؟ الإخباريون لزموا ، بغرابة ، صمتاً مطبقاً بخصوص هذا الموضوع . لم يكن مصيرها ، في الظاهر ، يستميلهم .
8 أزواج
امرأة تُدعى أسماء فقدت زوجها ، عروس الذي كانت تهواه ( عروس يعني الخاطب ، المُتزوّج ) . ظلت لا عزاء لها فيه . إلاّ أنّها ، بعد فترة ، وافقت على أن تتزوّج مرّة أخرى . في اليوم الذي جاء فيه الزّوج الجديد يطلبها ، لمح عندها قارورة عطر و توسّل إليها أن تنقلها معها ، لكنّها أجابته : " لا عطر بعد عروس ! " هذا الجواب ذهب مثلاً .
امرأة أخرى كانت تمقت زوجها المُسنّ للغاية حتى أنْ طلبت منه أن يطلّقها . عاجزاً ، امتثل لها . ( حدث هذا صيفاً ) . بعد بعض الوقت ، جاءت تلحّ في طلب اللّبن . أجابها : " في الصّيف ضيّعت اللّبن ! "هذا الردّ السّريع صار هو أيضا مثلاً .
بقدر ما أحبُّ الحكاية الأولى ، بقدر ما أبغضُ الثانية .غير أنّ هذه الأخيرة ، بحسب رواية منسيّة ، لها تتمّة مسليّة . بعد أن ضربت على منكب زوجها الجديد ( خلال ذلك ، كانت تزوّجت فتى شابّاً ) ، قالت : "هذا و مُذقه ( قليله ) خير ! " . هذا القول صار هو أيضا مثلاً .
9 كرامات
كتب سير الأولياء و القدّيسين تحكي بكثرة من التفاصيل الخوارق و الأعاجيب التي يأتيها هؤلاء . يبقى أنّ نوعا رفيعا يُنتج بالضرورة صورته الهزلية ( المآسي الإغريقية أعقبتها محاكاتها السّاخرة ) .
على فراش الموت ، تنكّر دون كيخوطي لروايات الفروسية و تحسّر أنْ لم يعد له من الوقت ما يكفي لقراءة " كتب تكون بمثابة سراج للرّوح " . ليس من غير الوارد أن يكون فكّر في كتب سير القدّيسين . ماذا كانت ستكون رواية سيرفانتس لو أنّ بطلها التمس أن يُحاكي ، ليس الفرسان ، بل القدّيسين ؟ يمكننا أن نكوّن فكرة من خلال حكاية ، هي هذه :
أبو علي الشرمقاني ( القرن الخامس الهجري ) ، الذي أنقذه الإخباريون من النّسيان لأنّه كان مُقرئا مجوّدا للقرآن ، كان يتغذى من أوراق الخسّ النّابتة على أطراف دجلة . الأولياء و القدّيسون ، كما نعلم ، لهم نظام غذائي استثنائي : كانوا ، تقشفاً و إذلالاً للجسد و تيسيراً لاتّصال الرّوح بالله ، يصومون لمدد طويلة أو يأكلون النّباتات البريّة . غير أنّ أبا علي لم يكن له هذا الادّعاء ؛ إذا كان يتناول أوراق الخسّ ، فلعدم توافر الأفضل و لأنّه كان في إملاق شديد . لمّا أخذ شيخه علما بذلك ، حدّث الوزير الذي ، و قد أخذته الشفقة ، أمر أحد خدمه أن يُطعم مقرىء القرآن طعاماً صحيّاً .
و بما أنّ الصّدقة تكون إلى الله مُستحبّة أكثر إذا تمّت في الكتمان ، فإنّ الخادم سيتحصّل خلسة على نسخة من مفتاح الخزانة المحجوزة لأبي علي في المسجد و كلّ يوم سيودع فيها فرخ دجاجة و وفرة من أرغفة السّميد و حلويّات . ظنّ أبو علي عندئذ أنّه نال منّة إلهيّة ، أنّ الطّعام الذي يجده في خزانته كرامة و يأتيه من الجنّة .
لا بدّ أنّه قرأ كتب سير الأولياء حيث الكرامة عُملة شائعة و تصوّر أنّه وصل إلى الولاية . أحسّ بغبطة عظيمة ، جاهد ، مع ذلك ، في إخفائها : في الواقع ، لم يكن يجهل أنّ الأولياء كانوا يتحاشون إفشاء كراماتهم حتى لا يستسلموا للإغراء و حتى لا يُعرّضوا العناية الإلهيّة للنّضوب.
لكن ، كيف لزوم الصّمت و الصّمود أمام إغراءات الزّهو ؟ أبو علي ، و قد وجد نفسه بين تيارين متناقضين ، مُمزّقاً بين واجب السّكوت و إغواء الكلام ، آثر تسوية : التلميح و التورية . بدأ يتصرّف بطريقة غريبة و لمن يودّ الاستماع إليه ، يُنشد أبياتاً من الشعر ذات نبرة صوفية تشدّد بالضّبط على الاحتراس و الحذر اللذين يجب مراعاتهما تجاه المحبوب (7) . باختصار ، كان يحرص أن يُعرف بأنّه يصون سرّا و بعناية قصوى . لم يكن الأمر خطيراً لأنّ حضور السرّ كان شأناً عاماً في الأدب الصّوفي . لكن ، ما كان يفضحه أكثر هو جسده الذي ، بفضل نظام التغذية الجديد ، امتلأ بسرعة .
كلّ هذا انتهى بإغاظة شيخه الذي ، رغم معرفته بباطن القصّة ، لم يتفوّه بكلمة مراعاة للوزير و أيضا كي لا يفتخر بدوره في تحسين أحوال مُريده . في يوم ، لم يُمسك عليه نفسه ، تصنّع الذهول من سمانة هذا الأخير و هو ما كان وسيلة لوضعه تحت المحكّ . انتهى أبو علي عندئذ بالكشف عن " سرّه " . سقط في الشّرك : الشيخ ، و قد ضاق بصبره ، أباح له بالحقيقة . أدرك أبا علي ، من ذلك ، غمٌّ عظيمٌ .
مثل هذه الحادثة المزعجة كان يمكن أن تقع لدون كيخوطي ، مع فارق دقيق مع ذلك : كان سيضطلع منذ البداية و صراحةً بدور القدّيس و كان سيأبى أن يمارس معها لعبة الإختباء : ليس " للحقيقة " عليه أيّ تأثير و لا تُقلقه على الإطلاق . أمّا رفقاؤه ، و قد خمدت عزائمهم أمام عناده عدم الإقرار بحكم الواقع ، كانوا لأجل التّسلية ، ضاعفوا من الذرائع و الحيل بقصد إطراء أوهامه و تشجيع جنونه . على فراش الموت ، كان سيكفر بكتب القدّيسين و سيندم لأنّه لم يكرّس حياته لرواية الفروسية .
هوامش : ( من وضع المترجم )
1 شريط آماركورد من إخراج المخرج الإيطالي فدريكو فيلليني ( 1973 ) و شريط ألكسندر السّعيد من إخراج المخرج الفرنسي إيف روبير ( 1967 ) .
2 جاء في " عقلاء المجانين " للنيسابوري : " كان لا يأوي سقف بيت ... و إذا كان اللّيل ، فهو في وسط السّطح قائما على رجليه في البرد و المطر و الرّيح ... " . أمّا عن أبي الحسن البصري النّحوي ، فقد أورد ابن كثير في البداية و النهاية ( ج 12 ) الواقعة عينها مع هذا الموقف الملفت للشيخ : " فقال الشيخ ، يا سبحان الله ، هذا حيوان بهيم قد ساق الله إليه رزقه على يد غيره ، أ فلا يرزقني و أنا عبده و أعبده ... " .
3 إيدومي هي المنطقة التي يعرفها العرب قديما و حديثا ب " دومة الجندل " و قد ذكرها الشاعر الفرنسي ستيفان مالارمي ( 1842 1898 ) في " هبة القصيدة " و مطلعها :
! Je t'apporte l'enfant d'une nuit d'Idumée
4 أسطورة يونانية تروي تمكّن ثيسيوس من قتل المينوتور في متاهته و هو مخلوق نصفه ثور و نصفه إنسان و ذلك بفضل كبّة الخيط التي أعطت إيّاها أريادني التي أحبّته . لكن البطل ، بعد أن نجح في العملين الخطيرين : قتل الوحش الآدمي و الخروج من المتاهة ، تنكّر لمنقذته و تركها نائمة في جزيرة ( حسب بعض الروايات ) .
5 إيسولدا كانت ابنة ملك إيرلندا و تمّت خطبتها إلى ملك كورنوول مارك الذي أرسل ابن أخته تريستان لمرافقة إيسولدا إلى كورنوول ، لكنّهما وقعا في الحُبّ أثناء الرّحلة ...
6 ثمّة بعض التباين بين ما ذكره عبد الفتاح كيليطوو بين ما أورده ابن كثير و ما أورده ابن خلكان بخصوص الواقعة عينها : الأول قال : " فدُفن ذكره بخوارزم ... " ( البداية و النهاية ، ج12 ) ، و الثاني أضاف : " و من العجائب أنه دُفنت مذاكيره بخوارزم ... و حُشيت سوأته بالتبن " ( وفيات الأعيان ) . و الصّورة كما رسمها كتاب " الوافي في الوفيات " لصلاح الدين الصّفدي ، فقد جاءت وفق هذا المشهد : " و من العجائب أنّ آلات التناسل من الكندري مدفونة بخوارزم و دمه مصبوب بمرو الرّوذ و جسده مقبور بقرية كندر و جمجمته و دماغه مدفونان بنيسابور و سوأته محشوّة بالتبن منقولة إلى كرمان و دُفنت هناك " هذا التفصيل يجلي بعض اللغز ؛ ثمّة معنى ما في دفن عضو ذكورة الكندري بخوارزم !
7 هذه الأبيات هي : من أطلعوه على سرّ فباح به *** لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
و أبعدوه فلم يظفر بقربهم *** و أبدلوه فكان الأنس إيحاشا
( البداية و النهاية ج12 ) . تجدر الإشارة إلى أنّ أبا علي الشرمقاني لمّا انكسر قلبه بعد أن انهار وهمه بالكرامة و الولاية ، امتنع عن أكل ذاك الطعام و تُوفيّ بعذ ذلك بمدّة يسيرة ( ابن تغري بردي ، النجوم الزّاهرة في ملوك مصر و القاهرة ) .
** هذه الحفريات مأخوذة عن :
le Magazin Littéraire du Maroc , N? 6 , Hiver 2010, P : 44 _ 47


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.