كانت هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكةالمكرمة إلى المدينةالمنورة من أجل نصرة دين الله تعالى، ودفاعا عن قيمه النبيلة الإنسانية، وعن حقوق الإنسان كما حفظها له الشّرع الكريم، وفي مقدمة هذه القيم والحقوق الحرية الإنسانية. لم يكن مفهوم الحرية - الذي هو جوهر العبودية لله سبحانه، وشعار التعاليم الإسلامية، وروح مقاصد الشريعة - منفصلا عن الدفاع عن الحقيقة والتمسك بها عن اقتناع واستدلال كما رأينا. ولذلك كانت الهجرة إلى الحبشة، مرتين، ثم إلى المدينةالمنورة أخيرا، تستهدف التمكين للدّين وللدّعوة، وبناء الدولة الجديدة، التي تحرر بعدلِها، وإنصافها، وتكريمها للإنسان، وإحسانها لمختلف مكونات المجتمع، الناس من قهر الأسياد المستبدين، وطغيان التقاليد الخانقة، وضيق التفكير المنحرف، وأسْر المخالفات والموبقات التي كان يتردى فيها الإنسان عصر ذاك، لا في المجتمع العربي فقط، بل في مختلف مدنيات الجاهلية حيث بلغ الظلم والاستعباد والاستبداد والقهر والاستغلال والامتهان والتخريف والضلال والانحلال منتهاه. كان لابد من الهجرة من أجل فضاء حر يمكن القيام فيه بحقوق الدعوة الإسلامية ونشر قيم هذا الدّين، ونفخ روح الحرية - بمعناها العميق الشامل الذي أوضحناه سابقا - في الوجود الإنساني من حيث هو وجود مُكرَّمٌ مُسْتَخْلَفٌ مُؤَهَلٌ لبناء المجتمع الصالح، ومُزَوَّدٌ بالعقل والإرادة والنفحة الروحية التي تصلُه بالسماء وتربطه بالحق، فيكون عمله وإنتاجه وعمرانه وكسبه على طريق الحق التي أرادها الله سبحانه لعباده والتي لا طريق سواها نحو السعادة الإنسانية لأنها الطريق الأقوم والمنهج الأسلم الذي اشتمل على خيْري الدّنيا والآخرة. فلا غرو، إذن، أن يُضحّي الرعيل الأول من المؤمنين والمؤمنات في سبيل الالتزام بهذا الطريق وهذا المنهج، ومن أجل التمكين لقيمه وتعاليمه ومقاصده في الحياة، بمعناها الشامل الكامل. فكانت الهجرة إلى المدينةالمنورة عربون الوفاء والتضحية والاعتزاز بالحق والحرية والكرامة والحياة الطيبة والعلم الواسع النافع الذي حمل لواءه الدّين الجديد. وتوالت مواكب الأحرار باذلة كل ما تملك في سبيل هذه الغاية السامية، إذ هاجر كل مسلم حرّ أبيّ من مكة حيث عانوا التضييق والتعنيف والتقتيل والتشريد، إلى المدينةالمنورة حيث استقبلهم أحرار إخوة لهم بذلوا لهم أروع ما يمكن أن يبذله المضيف لضيوفه ، بل الأخ لإخوته: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله. أولئك هم الصادقون. والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (الحشر: 8 - 9). هل ثمة أروع من هذا المشهد في التآخي الإنساني؟! والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه. وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً. وذلك الفوز العظيم ) (التوبة: 101). إن الدعوة الإسلامية التي أخرجت المهاجرين من ضيق الدنيا إلى سعتها، أخرجت الأنصار، كذلك، من ضيق الشح إلى إطلاق الجود وحرية البذل والعطاء والإيثار، حيث يترادف مفهوم الحرية هنا مع مفهوم الجود الذي يثمر الفلاح. فلا يكون حُراً - بالمعنى العميق - إلا من كان جواداً. قال ابن إسحاق: «فلما أذِنَ الله تعالى له صلى الله عليه وسلم في الحرب، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه، وأوى إليهم من المسلمين، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه، ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: «إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا وداراً تأمنون بها » فخرجوا أرسالاً، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربّه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة » (السيرة النبوية لابن هشام - ص 424). إن مفهوم الهجرة يفيد كثيراً من معاني الحرية، إذ بالهجرة الحسية التي تعني الانتقال من مكانٍ يضطهد فيه المسلمون إلى مكانٍ يتاح لهم فيه ممارسة تعاليم دينهم بحرية، والدفاع عن قيمه بدون قيد، وبالهجرة المعنوية التي أول خطاها هجر ما نهى الله تعالى عنه، يتحقق المقصد الأسنى من وجود الإنسان، أي العبودية لله سبحانه المرادفة - كما أوضحنا - لمفهوم الحرية إذ هي منبعها وصمام أمانها ومفجرُ خيراتها في الحياة الفردية والجماعية. فالهجرة والحرية نهج واحد، ومسار ما جد لكل ذي نفسٍ أبية، وقلب تواقٍ إلى حضرة الإطلاق، حيث لا يمكن أن يتحرر الإنسان إلا بهجر ما نهى الله عنه. هذه بداية الطريق، التي لا مندوحة عنها، وبعدها تأتي البقية.