ذات صباح رائق من سنة 1974 ، تخلى أحد الأقسام بثانوية الشريف الإدريسي بتطوان عن رتابته وطقوسه المعتادة، و أتيحت لنا - نحن تلاميذ قسم الخامسة الأدبية- فرصة أن نعيش تجربة استثنائية، تجربة ملؤها الفضول وبعض الحيرة والرهبة كذلك: لقد دعا مدرس اللغة العربية شاعرا من لحم ودم، وليس من حبر و ورق، ليحدثنا عن الشعر وليقرأ بعض قصائده وليحثنا على أن نسأله ونحاوره. هذا الشاعر الذي كان يبتسم ويربت على أكتافنا وأحسسناه قريبا منا هو الشاعر محمد الميموني. وأستطيع أن أجزم أن ذلك اللقاء كان حاسما في مساري الشخصي إذ أنني استخلصت منذ تلك اللحظة، وإن بشكل هلامي، أن بإمكان المرء أن يكون شاعرا وكاتبا وأديبا دون أن يكون مجبرا على أن يظل رهين المقررات المدرسية والكتب، بل يمكن أن يكون لطيف المعشر وأن يكون منفتحا على الحياة وانشغالاتها واحتمالاتها الغنية. وتتالت السنوات والتجارب، واستمر حرصي على القراءة ثم في ما بعد على تدوين بعض الملاحظات التي تعن لي عند قراءة رواية ما أو ديوان شعري، ملاحظات أرسلتها لبعض المنابر قصد النشر، وبالفعل، يا للمعجزة، تم نشرها ونشر معها اسمي لأشعر بنشوة خرافية. وكانت تلك ذريعتي لأقترب، في نهاية الثمانينيات، من الأستاذ محمد الميموني و لأتعرف عليه هذه المرة عن قرب ولتستوقفني التفاصيل بعد أن بهرني، وأصدقائي، حضوره ذاك المضيء. الشاعر محمد الميموني كائن نبيل ، مرهف، متواضع، صارم لحظة اتخاذ المواقف وحين تحتاج المبادئ لمن يصونها. وهو لم يتردد قط في أن يقدم الكثير من الجهد والوقت والتضحيات في تدبير بعض مناحي الشأن العام سواء تعلق الأمر بالنضال السياسي والحزبي أو المساهمة في الحراك الثقافي الذي كانت تعرفه بلادنا رغم أنه أحد الذين منحوا القصيدة المغربية الحديثة ملامح خاصة بها وشخصية قائمة الذات، وكان بإمكانه ، بصفته تلك، أن يهب كل وقته للشعر وعوالمه الجذابة. كما أنه لم يكن يتردد في أن يضع ثقته في بعض الأسماء الجديدة التي يتوسم فيها جدية ما وحبا للاستطلاع. و أريد أن أعلن بوضوح أنني أحد خريجي «مدرسة سي محمد الميموني»، فقد منحني هذا المبدع ثقته، و كلفني ببعض المهام التي كانت تبدو لي حينذاك، أنها تحتاج مني إلى جهد جهيد، وفتح لي باب منزله، وجعلني ، عبر الإشتغال مبكرا في فرع اتحاد كتاب المغرب، أتعرف على مثقفين مرموقين كنت أقرأ نصوصهم وأعمالهم فأصبحت أصافحهم وأجالسهم وأستمع إليهم وهم يناقشون ويعلقون بمرح على بعض الأحداث والوقائع، وبين الفينة والأخرى ينادونني باسمي فلا أكاد أصدق ! وبتحريض من المبدع محمد الميموني وبمعيته، وباستثمار لعلاقاته وللاحترام الذي يكنه له المسؤولون السياسيون بالمدينة، قررت، مجموعة من الكتاب والمبدعين سنة 1998 ، منح الحياة مجددا لتظاهرة «عيد الكتاب» وكذلك كان . من الصعب التمييز بين محمد الميموني المبدع ومحمد الميموني الإنسان، الأب، أو الجد. وإذا كان كارل ماركس يقول - ولا بأس أن نستشهد بهذا الملتحي الكوني فسي محمد على كل حال هو اشتراكي أصيل - أن درجة تقدم المجتمعات و الأفراد تقاس بطبيعة تعاملها مع المرأة، فيكفي أن ترى تعامل الأستاذ الميموني مع زوجته الفاضلة الرقيقة فوزية، ومدى احترامه لها وتقديره لسخائها، لتعرف من أي معدن نادر قد هذا المبدع. كما يمكن أن تعرف قيمة الرجل من صداقاته العديدة والعميقة مع ميدعين كبار داخل المغرب وخارجه، وتعرف لماذا يعتبر إحدى العلامات المضيئة في سجل ثقافتنا المغربية الحديثة.