»يندرج تمظهر الملل في المدرسة في التحولات العميقة لهذه الأخيرة وللمجتمع داخل المؤسسة المدرسية يسائل الملل علاقة التلميذ بالوقت (الزمن) وبالعالم. زمن مجالي تقريباً. من بين جميع الأدوات التي يستعملها المدرسون، التلاميذ، بل حتى الآباء، تتبوأ المراجع المدرسية مكانة مركزية. من ثم ليس مفاجئاً أن نجد فيها نفس مصادر الملل على غرار المدرسة«. الموضوع التالي يقارب ظاهرة الملل في المدرسة وبعض تمظهراته (1). المثلث البيداغوجي، المربع البيداغوجي في المدرسة ثمة ملل لا مفر منه مرتبط بالعمل والمجهود. غير أنه إذا أصبحت جرعة الملل أقوى، فإنها تُنفِّر من المدرسة، وهذا بالطبع ما هو عكس الغاية من هذه الأخيرة وعكس منفعة التلاميذ ومصلحتهم. ثمة سبب بديهي جداً، بحيث أننا على العموم لا نتوقف عنه لنتأمله ونرصده، مع أن جميع التلاميذ والراشدين الذين يتذكرون حياتهم كتلاميذ يتحدثون عنه. إنه سبب يرجع لسوء تفاهم بين عالم المدرسة وعالم الأطفال. نحن نعرف المثلث البيداغوجي الشهير الذي يرمز إلى العلاقات بين المدرس، التلاميذ والمعرفة. ليست للأطفال بالطبع نظرية يناقضون بها ذلك المثلث. لكن، لو كانت لديهم نظرية فسيعطونها اسم »المربع البيداغوجي«. فالمصطلح الرابع الذي سوف يتمم العناصر الثلاث الموجودة من قبل في المثلث سوف يكون هو »الواقع«، العالم الذي يحيط بالأطفال، والذي سيكونون مدعويين للعيش فيه. إن الاختلاف الأساسي بين المثلث والمربع هو التالي: ان المثلث يتوخى أن المعرفة غاية في حد ذاتها، إن الملل أي ذلك الذي لا يتمكن من الإحساس بالكينونة بأن يمارس الدور الذي تنتظره المدرسة منه هذا التلميذ يُخشى جيداً أن يتجه نحو طرق استعلائية للتعبير عن الكينونة، مثلا أن يتحدى السلطة المدرسية لكي تكون له قيمة في أعين رفاقه. أن يكون التلميذ في القسم، أن يعمل، أن يخضع لقواعد اللعب ولنظام من التعايش، هذا معناه أن متعة الذات خاضعة لمقومات. من البديهي أنه من الصعب جداً بالنسبة للأطفال (والكائنات البشرية بصفة عامة) التخلي عن شكل من تفتح غير مشروط للذات للخضوع إلى طريقة مشروطة للكينونة. من ثم، فإن مساعدة الأطفال على القيام بهذا الانتفاع يشكل رهاناً أساسياً للتربية. لكن ليس بإمكاننا على الإطلاق مساعدتهم على ذلك، إذا ما فهمنا رهانات المدرسة فقط بصيغ التعليم والمعرفة. من جهتهم، هل يقيم الأساتذة علاقة خاصة مع المعرفة؟ الملل جزء من التجربة المدرسية إن محاربة الملل معناه محاربة النزوع المرجعي الذاتي للمجموعة التي تنتمي إليها. فكون المدرسة تتحدد بواسطة »المثلث البيداغوجي« (المعرفة من أجل المعرفة)، فذلك ليس إلا تمظهراً من بين تمظهرات أخرى لنزوع كل المجموعات البشرية إلى تشكيل واقع مرجعي ذاتي. فكل خطاب مشترك بين أعضاء مجموعة أو فئة يتضمن بالفعل جانبين. جانب مرجعي: إن هذا الخطاب يتحدث بالضرورة عن شيء معين، وهو يحيل نفسه إلى وقائع موجودة خارجه. جانب مرجعي ذاتي: إن هذا الخطاب هو كذلك واقع في حد ذاته، عالم مشترك تتقاسمه مجموعة »عُملة« تمكنهم من التبادل فيما بينهم والإحساس بكينونة بعضهم البعض. يجب أن ينظر لهذا الخطاب إذن من طرف المجموعة كخطاب له قيمة وواقع في حد ذاته، وإلا فسوف لن يكون له التأثير لدعم قيمة وواقع أعضاء المجموعة الذين يتبادلون الأطفال يبحثون أو يجب أن يبحثوا عن اكتساب المعرفة لذاتها، أما المربع فيرفض هذه الفرضية ويسلم أن المعرفة منشودة، بقدر ما تقيم علاقة معبرة مع العالم الذي نعيش فيه. ليست العلاقة بالمعرفة، لدى التلاميذ، على العموم من نفس النوع الذي لدى الأساتذة، وهذا الاختلاف هو أحد الأسباب المهمة للملل المحبط الذي يعاني منه عدد من التلاميذ. إن مساءلة فكرة أن المعرفة يمكن ويجب أن تكون منشودة لذاتها، هي أولا الإشارة إلى مسلمة مغلوطة مفادها أن أنشطة المعرفة تتطور داخل الدماغ البشري بمعزل عن الأشكال الأخرى للنشاط الذهني، مما يسمح بالتالي للذهن بالتحكم في الوجدانيات وبتدبير السلوك. وكما نلاحظ ذلك، عند قراءة أنطونيو أماسيو أوجان ديدييه فانسون، فإن الأبحاث الحديثة في علم الأعصاب تبين أن النشاط الذهني العقلاني بحاجة للاشتغال بشكل سليم إلى الدعم والتأطير بواسطة أنشطة أخرى للدماغ، تحافظ على توازن حيوي بين الجسم والمحيط من جهة، بين الشعور والوسط الداخلي للجسم من جهة أخرى. فالأنشطة الإدراكية تتطور على أساس ضبط الإدماج المعيش للفرد في وسطه المادي والبشري، كما أنها هي نفسها تقوم بدور في هذا الإدماج. كذلك، إن فكرة علاقة خالصة مع المعرفة فكرة مرفوضة على مستوى الأنطروبولوجيا العامة. لكي يتمكن النشاط المعرفي من تجاوز علاقات الكينونة، وبالتالي أن يمارَس لذاته، سوف يتوجب أن نكون عقلانيين. هل الملل يعرض المراهقين إلى لاشيء، أي إلى كيف تتم الكينونة؟ إنه سؤال يظل بلا جواب. لا يتعلق الفضول لدى تلميذ جيد برغبة خالصة في المعرفة، إنه كذلك يفترض دائماً علاقة بين هذه المعرفة وأشكال أخرى من رغبة حيث يتعلق الأمر ضمن تلك الأشكال بذلك التلميذ الجيد، بعلاقاته بالآخرين (خاصة بالأستاذ) وبما يهمه خارج المدرسة. لا ينجو التلميذ الجيد من الملل بالضرورة، لكنه يتحمله. فالتلميذ الذي لا يتحمل فيما بينهم ضمن العُملة التي تشكل هذا الخطاب. للأسف، بقدر ما اشتغل الخطاب على النمط المرجعي، بقدر ما أصبح مملا: إذ تنتهي المعرفة من أجل المعرفة إلى أن يغيب عن نظرها الفضول الحقيقي، الذي يفترض فضولا تجاه الوقائع في حد ذاتها. تطلب المدرسة من التلاميذ التبادل بواسطة عُملة المعرفة، ومن البديهي أن يكون من المرغوب فيه لمصلحتهم الخاصة أن يتمكنوا من ذلك. لكن ليس بجعلهم يواجهون معرفة منغلقة على نفسها نساعدهم على الوصول إلى هذا المبتغى. على عكس المدرسين، لا يتوفر التلاميذ على أي استثمار مهني في المعرفة. بالنسبة لهم، يكون للمعرفة معنى بسبب التقرير الذي تقدمه لهذا الجانب أو الآخر من العالم الذي يعيشون فيه وبسبب الدور الذي تلعبه في علاقة حية مع الأستاذ. عندما يبدي الأستاذ عرضاً اهتمامه بواقع خارج عن المدرسة، عندما يعترف، بالمناسبة، للتلاميذ بالحق في الاهتمام بشيء آخر غير عالم المدرسة، يكون لهؤلاء الانطباع أن نافذة انفتحت وأن الحق في العيش تقريبا هو الذي تم الاعتراف لهم به. فهذه المؤشرات والسمات ذات الوجه الإنساني التي يقدمها المدرس (شريطة أن لا يكون هو نفسه سجينا للمرجعية الذاتية التي يدفعه نحوها تكوينه المهني السابق)، تكون مفيدة للتلاميذ بشكل مزدوج. فبمد الأساتذة لجسر بين المعرفة والعالم، فإنهم يساهمون في إعطاء معنى لهذا العالم. وبتمكين التلاميذ بإمضاء بعض اللحظات الجميلة مع شخص راشد، فإنهم ينقلون شيئاً ما عن الآصرة الاجتماعية، وهو ما يشل جزءا من المهمة التربوية للمدرسة. لماذا يتحمل التلاميذ الملل بصعوبة ؟. اليوم مثل الأمس، يظل الملل موزعاً بطريقة احتمالية تبعاً للدروس، لساعات اليوم وللمدرسين الذين من جهتهم يصابون بالملل مثل تلامذتهم. الملل جزء من التجربة المدرسية العادية، مثلما يشكل المطر جزء من المناخ. مع ذلك، اليوم، من المحتمل أن التلاميذ والمدرسين يتحملون الملل بشكل قليل. إذ أن هؤلاء وأولئك يتحدثون عن ذلك. من ثم يوازي الملل عند الأطفال تشكي المدرسين بخصوص صعوبات المهنة وإنهاكاتها. يجب أن لا نقابل الملل بالترفيه وباللعب، فقد يكون هذا الأمر طريقة لإفراغ المشكل مسبقاً تحت ذريعة أن المدرسة لن يكون بوسعها أن تكون مكاناً للتسلية والترفيه. يجب أن نقابل الملل بالعمل المدرسي، ذلك أن هذا العمل لا يصمد أمام جرعة من الملل. فالتطرق لموضوع الملل ليس طريقة جديدة ل »انتقاد الأساتذة« ولا مديحاً للترفيه و »لروح الشباب«، إنه طريقة للتساؤل حول معنى الدراسة، كما يشكله التلاميذ في أذهانهم. وإذن لنناقش بعض أسباب هذا الملل. بعض مسببات الملل المدرسي 1 لماذا يبدو أن التلاميذ ما عادوا يتحملون الملل بنفس الحتمية كما هو الأمر من قبل؟ أولا إن الأمر لا يتعلق بنفس التلاميذ. فالإعداديات والثانويات تستقبل فتيانا أقل استعداداً لتصور اليوم مثل الأمس، أي عندما لم تكن المدرسة تعرف هؤلاء الأطفال الذين ليسوا على وفاق مع العالم المدرسي. 2 مع ذلك، إن التحمل الضعيف للملل ناجم من دون شك عن سبب أكثر جسامة. يتعلق الأمر بضياع الاحتكار الثقافي للمدرسة بسبب منافسة الوسائط. لأمد طويل بالنسبة لأغلبية التلاميذ في الأقسام المتوسطة والشعبية كانت المدرسة هي النمط الوحيد للولوج الى ثقافة مفتوحة على العالم، الوسيلة الوحيدة للخروج من العزلة الذاتية والنمو، بمعنى الدخول إلى عالم »أكبر«. لقد غير تطور الوسائط والتدفق الوسائطي الذي يعيش داخله المدرسون وتلامذتهم، غير التوزيعة بشكل كلي. ومهما كانت نظرتنا للوسائط، فإنها دفعت إلى إعادة النظر في احتكار المدرسة للثقافة. ذلك أن بإمكان جميع التلاميذ الانفتاح على العالم دون المرور بواسطة المدرسة أو بالأحرى دون أن يكون إحساس أنه من الضروري المرور بواسطتها. إذ أن التلاميذ يتوفرون على أدوات أكثر تحفيزاً، أكثر سرعة، وأكثر تفاعلية في الغالب من الأدوات المتوفرة في المدرسة. وعلى الرغم من المسار التطوري للتعليم باتجاه مناهج أكثر دينامية وأكثر انفتاحاً، فإن عالم المدرسة لايزال يبدو في أعين التلاميذ أكثر »مدرسية«. ذلك أن التلاميذ يحسون بالملل، لأن بإمكانهم مقارنة المدرسة مع أشكال أخرى للتعلم. على أن التلاميذ ما عادوا محبوسين وأنهم لا يحسون أكثر استعداداً محبوسين مثلما كان عليه الوضع في زمن لم يكن اختيار إلا بين الملل في المدرسة وبين محن العمل المبكر. فهذا الأمر يجعل مهنة التعليم أكثر صعوبة بالطبع. لكن هل يجب الاقتصار على رثاء ذلك؟ 3 تكون للتلاميذ فرص للملل أقل في المدرسة، إذا كان لديهم اليقين أنه من المفيد متابعة الدراسة والاجتهاد فيها بغية الاستفادة لاحقاً من بعض المنافع الشخصية، مهنة، وظيفة، منصب شغل. هناك مسألة تمديد الحياة الدراسية، الذي يحمل معه تبعتين متناقضتين. من جهة، إن الدراسة أصبحت ضرورة أكثر، ذلك كلما وزعت المدرسة شهادات، كلما أصبحت هذه الأخيرة مؤشرات واسمة عند الدخول الى الحياة المهنية، إذ أن عدم الحصول على شهادة يعتبر أمراً معيقاً. من جهة أخرى، إن فائدة الشهادات وجدت نفسها في خضم حركة انتقالية تؤجلها بلا توقف، بمعنى أن الفائدة المحصل عليها في سن 15 أو 16 منذ أربعين سنة، أصبحت اليوم تتحقق في سن 21 أو 23 سنة بل أكثر فالتلاميذ يعتقدون أن الدراسة مفيدة، لكنهم يعرفون أن هذه الفائدة ستظهر في وقت متأخر جداً من حياتهم. إننا مجبرون على الإنصات لخطاب التلاميذ بخصوص »فائدة« بعض المواد الدراسية، على الرغم من أنهم مقتنعون بمنفعتها الثقافية. ها هنا لا نصدر حكماً ولا ندين الأساتذة والتلاميذ. 4 عندما نتحدث الى التلاميذ ذوي المستوى »الجيد« أو »السيئ«، فإنهم يشعرون أنهم مهملون ذهنياً من طرف المدرسة، وهو ما لا يمنعهم من القول كذلك، ان صعوبة التعلُّمات تحبطهم وتدفعهم إلى الملل. من هنا يسوق التلاميذ رأيين متناقضين: الدراسة صعبة ونصاب بالإحباط، الدراسة سهلة ونصاب بالملل. فالتلاميذ يشجبون شكلا خاصاً من الملل، الملل الناجم عن روتينية التمارين والفروض المدرسية التي تبدو إجابات ميكانيكية عن أسئلة لا تطرح أبداً، كما لو أن الأسئلة التي تحكم المقررات كانت غريبة عنهم تماماً وغريبة أيضاً عن أساتذتهم. 5 من الفطنة الاعتقاد أن التلاميذ لا يصابون بالملل اليوم أكثر من الأمس، على العكس من ذلك، لديهم القدرة و »الحق« في التعبير عن أنهم يملون ويظهرون ذلك. يجب إذن التخفيف من تهويل الملل، ذلك أن ثمة من دون شك نصيباً حتمياً وربما ضرورياً من الملل في المدرسة، ملل مرتبط بالإكراه، بإيقاع التعلمات والتمارين، بالتفاوت الحتمي بين المصالح الفردية والانتظارات المدرسية. ثم من منا لم يصب بالملل في حفل موسيقي، في قاعة للسينما، في مناظرة أو خلال مأدبة عشاء؟ وإذن يتوجب أن نقبل أن يشعر التلاميذ بالملل، وأن نجعلهم يتقبلونه. بإمكاننا أحياناً اكتشاف نوع من السحر في الملل وفي حلم اليقظة الذي يخفف منه. إن موضوع الملل من أكثر الموضوعات جدية ومن أكثرها إرهاقاً، ذلك أن العمل المدرسي لا يمكن أن يُختزل في تمرين على الضغط المعنوي، إنه يفترض شيئاً ما خاصاً: الانخراط الذاتي والذهني للتلاميذ، الذين، من دون ذلك، لا يستوعبون أو لا يتعلمون إلا ظاهر الأشياء. إذا كان الملل يعيق التعلم، فإنه صحيح كذلك أن العجز عن الدخول الى صلب التعلمات يتسبب في ملل قاتل. بعلله قد يتوجب أن يتعلم المدرسون في تكوينهم كيف يتذكرون آلاف الأساليب التي تعلموا بواسطتها. كم من الحيل، من الحذق ومن التحايلات ساعدت معظمنا على الخروج من حالات حرجة؟ للتلاميذ المتفوقين نوعاً من النسيان المتعلق بتعلمهم الشخصي، بحيث يصبح ملل الآخرين بالنسبة لهم غير مفهوم. بإمكاننا الاعتقاد أن الملل يكون أقل عندما يكون التلاميذ منخرطين في نشاط إنتاجي. من ثم سوف يتوجب تطوير الإنتاجات المدرسية التي يتوجب أن ينخرط فيها التلاميذ وأن يجدوا أنفسهم في الأمور المدرسية. يجب صنع أشياء في المدرسة وليس فقط استظهارها. يجب أن لا تكون البيداغوجية بالأهداف شعاراً. يجب أن يعرف التلاميذ وأن يتم تذكيرهم بأهداف المعارف والكفايات. هل يوجد هناك ملل أكثر من أن يتعلم التلميذ دون أن يعرف أنه يتطور، أن يتعلم دون أن يدرك الأهداف من العمل المتراكم، أن يعمل وهو يحمل إحساساً أنه دائماً بعيد عن معيار محدد بشكل رديء؟ هامش: 1 كتاب لمجموعة من الباحثين