لقد كان من العوامل الفاعلة المؤثرة في نجاح المسيرة الخضراء، إضافة إلى القيادة الحكيمة الحصيفة، تجاوب الشعب مع الحدث التاريخي المنقطع النظير، وحماسته المتدفقة وإيمانه العميق بعدالة القضية التي يدافع عنها. هذا التجاوبُ المطلق، والتلقائي، بين جلالة الملك قائد المسيرة، وبين جميع أفراد الشعب والهيئات السياسية والنقابية والمؤسسات الاقتصادية والمالية، هو الذي أعطى للحدث الكبير الذي غير الخريطة في المنطقة ولفت أنظار العالم إلى المغرب وإلى عاهل المغرب، قوة الدفع في الاتجاه الصحيح، بحيث كانت المسيرة نقلة نوعية في العمل الرسمي للدولة، وفي العمل الشعبي الداعم لها المتجاوب معها. وتلك هي قمة التلاحم والانسجام والارتباط الوثيق بين العرش والشعب. لو لم يكن الشعب مؤمناً بالوحدة الترابية للمملكة، ولو لم يكن واثقاً من القيادة العبقرية التي أبدعت القرار التاريخي بتنظيم المسيرة، لما حصل ما حصل من اقتحام للعقبة الكأداء، وتحطيم للحدود الوهمية، والزحف إلى الصحراء الغربية للمملكة. لقد تكامل عنصر القيادة الواعية الحازمة القادرة على صناعة الحدث، مع عنصر المواطنة التي جعلت الشعبَ المغربيَّ كتلة متراصة متلاحمة، تنتظم في مسيرة كانت آية من آيات العصر بكل المقاييس، أربكت حسابات الدولة التي كانت تحتل الصحراء المغربية، وحسابات الأطراف التي لا تسلم للمغرب وإلى اليوم، بحقوقه المشروعة في صحرائه الغربية، وأبطلت المؤامرة التي كانت تدبر في رابعة النهار، لفصل الإقليمين المغربيين الساقية الحمراء ووادي الذهب، عن الوطن الأم، وإقامة كيان مصطنع هجين فوقهما يتحدَّى إرادة الشعب المغربي. حرارة الإيمان بعدالة القضية الوطنية التي تصدى لها المغرب للدفاع عنها من خلال خطة سلمية لا صلة لها بالعمل العسكري، كانت هي الوقود الذي أشعل نار الحماسة ونفخ الروح في المواطنة التي تقضي بالقيام بأي عمل تخطط له القيادة، للدفاع عن الوحدة الترابية، ولصدّ العدوان عنها. لقد كان قرار تنظيم المسيرة الخضراء أحدَ التجليات المبدعة لجلالة الملك الحسن الثاني، بقدر ما كانت الاستجابة الشعبية للنداء الملكي وتنافس جميع الفئات في الإقبال على مكاتب التسجيل للانضمام إلى المسيرة، مظهراً من مظاهر عبقرية هذا الشعب التي يستمدها من عبقرية المكان ومن عبقرية القيادة. ولذلك فإن أخطر ما يمكن أن يواجهه المغرب من تحديات في المرحلة الحالية وفي المراحل القادمة، هو ضعف إيمان فئات من الشعب المغربي بالوحدة الترابية للمملكة، وضعف الحماسة الوطنية في الدفاع عنها، وضعف الإحساس بالتجاوب مع السياسة الوطنية التي تنهجها الدولة المغربية، بقيادة جلالة الملك محمد السادس، في هذا المجال الحيويّ. إنه لأمرٌ مرعبٌ حقاً، أن يجادل مواطنون مغاربة في عدالة القضية الوطنية الأولى، وأن يتخذ بعضهم موقفاً متخاذلاً يخرج به عن الصف الوطني، بدعوى حرية التعبير وادعاء الحق في اتخاذ الموقف الذي يرضي ضميره، كما عبر أحدهم في أحد التصريحات التي أقلقت الضمير الوطني واستفزت جموع المواطنين المتشبثين بحقوقهم الوطنية المشروعة في استكمال الوحدة الترابية، وفي وضع حدّ للمزايدات والمؤامرات، ولتسوية المشكل المفتعل في إطار حل سياسي متفق عليه، يقوم على العمل بالمقترح الذي تقدم به المغرب إلى المنتظم الدولي، بإقامة حكم ذاتي في الإقليمين في إطار السيادة المغربية وتحت راية العرش المغربي. اهتزاز إيمان فئة محدودة من المواطنين، بعدالة قضية الوحدة الترابية، تحت أي ظرف من الظروف، ونتيجة للتأثير الذي يمارسه خصوم الحق المغربي بوسائل عديدة، من انفصاليين أو من غيرهم من الداعمين لهم، حالة مرضية ينبغي أن تعالج بما يلزم من حكمة وتبصر وشعور بالمسؤولية، وفي حدود مقتضيات القانون، نظراً إلى حساسية الوضع، ولتربص خصوم وحدتنا الترابية بنا من كل جانب. كذلك فإن الضعف الذي ينتاب الحماسة الوطنية والإحساس بالانتماء إلى هذه الأرض وبالارتباط بالصحراء المغربية، حالة مرضية قائمة، وإن كانت في حدود ضيقة للغاية. ولكنها ظاهرة يجب ألا نغض الطرف عنها، أو تجاهلها، أو إنكارها، بدافع من العواطف الوطنية الجياشة، فلا أحد يمكن أن ينكر أن الإحساس بالانتماء إلى الوطن قد تضاءل، أو تراجع، أو ضعف، أو ضمر، في نفوس فئة من المواطنين، بسبب من تأثيرات متعددة وظروف طرأت، سواء أكان على المستوى الوطني، أم على الصعيد العالمي. لقد وقع تراخ في التماسك الوطني كما يسجل ذلك المراقبون، بحيث طغت روح اللامبالاة والشعور بالضآلة والانهزامية والإحساس بالنفور من الوطن والعزوف عن الاهتمام بقضاياه مهما تكن. ولعل ظاهرة التراجع في نسبة المشاركين في الحياة السياسية الوطنية والانخراط في أداء الواجبات التي تقتضيها المواطنة، دليل على صحة هذا الرأي، وهو الأمر الذي يؤكد على ضرورة إحياء روح المسيرة الخضراء، بتجديد قسم المسيرة الذي أداه جلالة الملك الحسن الثاني وردده من ورائه الشعب المغربي. والأمر في اعتقادي، يتعدى الشكل إلى المضمون، وهو العمل بكل الوسائل لتعميق الإحساس بالانتماء إلى الوطن، والحرص على مصالحه العليا، والاستعداد الدائم، وفي كل الأحوال، للدفاع عن هذه المصالح والتضحية في سبيلها. إن جلالة الملك محمد السادس هو قائد المسيرة الجديدة الزاحفة، بثقة وشجاعة وإقدام، نحو استكمال الوحدة الترابية للمملكة، في الجنوب وفي الشمال، وإقناع المنتظم الدولي بنجاعة المقترح المغربي الذي يلتزم قواعد القانون الدولي، ويستجيب لتطلعات المواطنين المغاربة في الساقية الحمراء ووادي الذهب، وحيث وجدت أعداد غفيرة منهم في مخيمات القهر وكسر الإرادة الوطنية وامتهان الكرامة الإنسانية. وليس من شك إطلاقاً في أن الشعب المغربي متجاوب مع جلالة الملك مطلق التجاوب، وملتزم بالخط الوطني الذي يسير فيه جلالته في اتجاه إنهاء المشكل المصطنع الذي طال أمده، وحان الوقت لتسويته في إطار خطة سلمية سياسية متفق عليها، يصدر في شأنها قرار من مجلس الأمن باعتمادها رسمياً. إن جلالة الملك هو الأمل، والقدوة، والضامن للوحدة الترابية، والقائد للمسيرة الجديدة التي تتلاءم مع الظروف الإقليمية والدولية، وترتفع إلى مستوى التحديات الكبرى التي تواجه بلادنا. لقد دأبت فئة من المواطنين المغاربة، ومنذ سنوات، على التشكيك في القضايا الوطنية، والمسّ بالمقدسات، وانتهاك القوانين، وإثارة البلبلة، ونشر الأكاذيب والإشاعات، والترويج للشبهات الباطلة، التي تنال من الوحدة الترابية، كما تنال من الخصوصيات الروحية والثقافية والحضارية لشعبنا ولوطننا. وهناك دائماً رابط بين هذه التصرفات التي تسيء إلى الوطن وتمس بمقدساته، فحينما تأسست (الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب) التي عرفت بالحروف الأولى من الترجمة الإسبانية لهذا الإسم، قامت على أساس من الإيديولوجية الماركسية اللينينية، حيث كان القادة المؤسسون لها، فئة من الشباب المغربي الصحراوي، تأثرت بأفكار اليسار المتطرف والأيديولوجية الشيوعية. وكان وراء تأسيس البوليساريو، عدد من الضباط الإسبان من ذوي الميول اليسارية، الذين كانوا ضد قيادتهم المتمثلة في الرئيس الأعلى للجيش الإسباني الخنراليسمو فرانكو رئيس الدولة الإسبانية، لذلك كانوا في الصف المعادي للملكية المغربية، وعملوا من أجل زعزعة الاستقرار في المغرب بالتحريض على تأسيس الجبهة، التي سرعان ما وجدت الدعم والمساندة والتأييد من أطراف أخرى. وعلى الرغم من أن عدداً من القادة المؤسسين للبوليساريو قد التحقوا بأرض الوطن، وأعلنوا تأييدهم للحق الوطني المغربي، فإن أحداً منهم حسب علمي لم يصرح بالوضوح الكامل، بارتداده عن الإيديولوجية الماركسية، ولم يعلن عدوله عنها ورفضه لها. وأحسب أن الآثار المترتبة على تشبع مؤسسي البوليساريو بأفكار اليسار المتطرف، تفعل فعلها اليوم في هذه الفئة المحدودة والمعزولة التي تجاهر برفضها لمغربية الصحراء الغربية، متحديةً بذلك الشعبَ المغربيَّ برمته. لقد أصبح ضعف الانتماء الوطني ظاهرة عالمية في عصر العولمة الكاسحة للخصوصيات والماحية للهويات. ولكن الدول النامية أكثر تأثّراً بالانعكاسات والآثار السلبية للعولمة من غيرها، وأقلها استفادة من الآثار الإيجابية للنظام العالمي الجديد. ولذلك نجد المواطن الأمريكي، أو المواطن البريطاني، أو المواطن الألماني، أشدّ ما يكون محافظة على انتمائه الوطني من مواطني الدول النامية، أو بعبارة أدق وأصح الدول المتعثرة في النمو. وهذه الحالة تؤكد لنا أن الإحساس بالانتماء الوطني يخضع للظروف الاقتصادية وللعوامل الاجتماعية في غالب الأحيان. ومن هنا ندرك أحد الأبعاد العميقة للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أطلقها جلالة الملك، ويرعاها، ويتابع تنفيذها ميدانياً، في حركةٍ دؤوبٍ ذات دلالات سياسية ووطنية، يتوجَّب على المواطنين جميعاً إدراكها واستيعابها. إن إحياء روح المسيرة الخضراء التي تحل الذكرى الخامسة والثلاثون لانطلاقها اليوم، عملية متعددة الأبعاد، لعل أحدها هو القضاء على الفقر والهشاشة والإقصاء والتهميش، وردّ الاعتبار للمواطن، وتقريب الإدارة منه، بالمعنى الواقعي المباشر، لا بالمعنى المجازي، وإصلاح القضاء، واعتماد الحكم الرشيد (الذي يصطلح عليه خطأ بالحكامة)، وتطبيق النهج الجديد للحكم الذي دعا إليه جلالة الملك من أجل خدمة المواطنين من النواحي كافة وأداء الإدارة لمهامها على الوجه المطلوب. فتلك هي الطريق التي يجب أن تسلك لتجديد ثقة المواطن في وطنه، وتقوية الإحساس بالانتماء الوطني لديه، والدفع به نحو الاهتمام بالقضايا الوطنية والاقتراب من المشاغل الكبرى التي تستقطب اهتمام المواطنين في غالبيتهم، وفي الطليعة منها قضية الصحراء المغربية التي تتعرض في هذه المرحلة، لمؤامرة خطيرة علينا أن نسلم بأنها في منتهى الخطورة، مما يستوجب أعلى درجات اليقظة والانتباه والوعي والاصطفاف وراء جلالة الملك قائد المسيرة الجديدة، وحامي السيادة الوطنية، والمدافع الأمين عن الوحدة الترابية للمملكة. إن إحياء هذه الروح الوطنية، هو تجديد لقوة الانتماء وإذكاء لحماسة الانتماء، وتفعيل للمواطنة وتزكية لها، حتى لا تبقى شعاراً يردد بدون وعي عميق. لأن هناك ترابطاً وثيقاً بين المواطنة وبين الوحدة الترابية؛ فكما أن الوطنية هي تعزيز الانتماء إلى الوطن، وتعميق الولاء له وللمقدسات التي يأتي في مقدمتها الدينُ الإسلاميُّ، ثم العرش، ثم الوحدة الترابية، فإن المواطنة، بالصيغة الحديثة، هي وعي المواطن بالواجبات التي يلقيها الوطن عليه، فكما يطالب المواطن بحقوقه التي يكفله له الدستور، فإن عليه أن يؤدي الواجبات الوطنية التي يحدّدها الدستور أيضاً. فإذا بلغ التوازن بين الحالتين هذا المستوى، استقرت الأحوال، واستتب الأمن الاجتماعي الذي هو القاعدة المتينة للأمن بجميع مفاهيمه وعلى مختلف مستوياته. أن تكون مواطناً تنتمي إلى وطن له في نفسك الحرمة والقداسة والمكانة السامية، فهذا يعني أن تمارس مواطنتك عملياً، وأن تتبنّى قضايا الوطن، وأن تكون مستعداً للدفاع عنها في جميع الأحوال، وفي المقدمة من هذه القضايا، الوحدة الترابية لوطنك.