لعب الدكتور المرحوم عبد الصبور شاهين دورا مهما في نقل بعض شوامخ الفكر والثقافة من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، وبذلك أتاح للقارئ العربي الاطلاع على أمور مهمة وقضايا فكرية وسياسية تمس الحياة الفكرية والسياسية والعقدية للعرب في الصميم، ومن بين هذه الشوامخ كتاب (روجي كارودي) »فلسطين ارض الرسالات الإلهية«، وقد حصل خلاف بينهما حول المقدمة التي وضعها المترجم للكتاب. وحديث الجمعة لهذا الأسبوع يضع القارئ أمام بعض ما شاء في المقدمة، والذي يطرح تساؤلات بل يستدعي حوارا معمقا مع المقارنة بالوضع الحالي في العالمين العربي والإسلامي. في مقال كتبته لنعي المرحوم عبد الصبور شاهين أشرت إلى ما حصل بينه وبين المفكر والباحث (روجي جارودي) في شأن مقدمة كتبها عبد الصبور شاهين لترجمة كتابه »فلسطين ارض الرسالات الإلهية« وتبرأ منها المؤلف (روجي كارودي). وقلت انني كتبت شيئا في هذا الموضوع وقد عدت بالفعل إلى الكتاب والى المذكرة موضوع النقاش والخلاف، وهي مقدمة طويلة وضعها المترجم وتبرأ منها المؤلف للأسباب التي ذكرها والتي سنعرض لها كاملة بإدراج نص هذه المذكرة في صلب المقال. تساؤل مشروع ولاشك أن القارئ للمذكرة وللمقدمة يتساءل ان لم يستغرب لماذا هذا التوافق العجيب بين الرجلين وهذا الاختلاف البين في نفس الوقت بينهما؟ ان هذا لا يرجع في الواقع إلى سطو المترجم على الكتاب لترجمته من غير إذن صاحبه ولا بدون رغبة منه، بل ان الترجمة مأذون بها من المؤلف ومرغوب فيها من طرف المترجم «عبد الصبور شاهين» ولكن ما الذي حصل؟ وما هو مضمون الترجمة؟ وما هو مضمون المقدمة؟. ان الترجمة في شكلها وفي عباراتها وألفاظها شيء رائع فهي قطعة فنية رائعة في بابها فالقارئ للكتاب يحس من البداية إلى النهاية انه يقرأ نصا من الأدب الرفيع، ولا أظن أن الكتاب لو أسندت ترجمته إلى غير عبد الصبور شاهين ستأتي الترجمة في الروعة والبيان اللذين جاءت بهما، وهذا يدركه من يقرأ هذا الأثر النفيس الذي هو مجلد في حوالي سبعمائة صفحة من القطع الكبير. ولكن مع ذلك فهناك شيء ما جعل المؤلف يقف هذا الموقف وهو لا يمكن إرجاعه إلى خوف أو جبن المؤلف فهو قد اعتاد المعارك الفكرية والأدبية والسياسية فهو في مراحل معينة أو مواقف فكرية وسياسية يجده الإنسان واقفا وحده في مواجهة موقف أو فكرة، ولو كان الأمر يكلفه ما كلف فهو قد وقف في وجه حزبه (الحزب الشيوعي الفرنسي) لأنه يرى أن الكرامة الإنسانية لا تكون بالخبز المبني على الاستبداد والطغيان، وما ضره ان يتخذ حزبه قرارا في شأنه وهو الطرد وهو يشق لنفسه طريقا خاصا به في الاشتراكية ويدعو إلى هذا الطريق الذي كان في حينه مروقا من الشيوعية والاشتراكية.. شيوعي مومن إنه الشيوعي الذي لم يتخل من إيمانه ومسيحيته بل هو عندما أعلن إسلامه رأى فيه رسالة لا تناقض قناعاته السابقة في التحليل الاقتصادي والاجتماعي، ولذلك فإن موقفه لا يمكن أن يعزى إلى الجبن أو الخوف ولكنه باعتبار قناعاته الفلسفية والفكرية فهو يريد أن يبقى على مسافة معينة من الروح التي عالج بها المترجم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني حيث أضفى عليه أفكارا وتصورات قد يشاطره فيها أو لا يشاطره لا هو ولا غيره، ولكن تبقى الروح التي كتب بها مؤلفه هي روح لا داعي لأن يشوبها شيء آخر غير ما يريد هو أن يكون، ثم هو كان يعيش مطاردة فكرية وقضائية مع اليهود نتيجة لمواقف سابقة ثم ان المقدمة في نظره لا تخلق المتاعب مع اليهود فقط ولكن تخلق مثلها مع بعض الأنظمة العربية التي رأى في مقدمة المترجم ما يمس هذه الأنظمة وفي هذا يقول: جارودي ومقولة دوكول »لقد سعيت إلى وحدة البلاد العربية بينما يطرح الدكتور شاهين في مقدمته الأولى جدالا ويوجه اتهامات ضد البعض من هذه البلدان« وعلى أي حال فإن المؤكد هو أن المؤلف جارودي يعرف الواقع الذي تخضع له الأمور السياسية والدينية وبالأخص ما يتعلق باليهود وإسرائيل في بلاده، وان هناك رصدا قويا لكل ما يصدر من آراء وأفكار من لدن الصهيونية وأنصارها في أوروبا وفي فرنسا بالذات، وقد اتضح ذلك فيما بعد عندما نشر جارودي كتابه عن الأساطير المؤسسة لإسرائيل وكيف تعرض للمحاصرة وقدم للمحاكمة ولم يعد يجد ناشرا لكتبه بعدما كان الناشرون يفتحون له الأبواب ويعاملون كتبه معاملة خاصة وقد وصل في النهاية إلى ما وصل إليه (الجنرال ديكول) قبل ذلك فهو في استجواب مع جريدة الحياة الصادرة بلندن في 21 مايو 1996 يقول: »هذا يوضح للناس الآن من الذي يحكم في فرنسا يكفي ان يطلب (جان كان) موقفا محددا في هذه القضية من الكنيسة الفرنسية حتى يتم تلبية طلبه على الفور، لقد عرف ذلك قبلي دوكول عندما اتخذ بعض الإجراءات والعقوبات ضد إسرائيل فقامت القيامة ضده وانتقد بعنف الكنيسة الفرنسية ويومها قال: ديكول لم أكن اعرف أن فرنسا صارت يهودية). هذا الذي عبر عنه في سنة 1996 كان يسكن فكره الباطن عام 1986 ولم يكن فيما يظهر يريد أن يعطي مبررات ولا أن يتبنى بكيفية غير مباشرة أراء ومواقف عبد الصبور شاهين. فكان قرار اتخاذه موقفا من المذكرة التي تبلغ صفحاتها حوالي ثلاثين صفحة والمذكرة جاء فيها وهي موجهة للقارئ ما يلي: مذكرة للقارئ يتعين على القارئ الفاضل ان يلم بالاتي: أولا : لقد طلبت من السيد الدكتور عبد الصبور شاهين ترجمة الكتاب ولم أطلب منه قط كتابة تعليق أو مقدمة له. ثانيا: يحق للسيد الدكتور عبد الصبور ضاهين عرض آرائه الشخصية غير أنه من غير الطبيعي ان يفعل ذلك في كتابي. لقد صدرت حتى الآن اثنتان وثمانون ترجمة لمؤلفاتي، لم تتضمن أي منها تعليقا للمترجم أو تعبيرا عن آرائهم الذاتية التي وان أبديت بدافع الإطراء تغير جذريا الاتجاه العام للكتاب وكذلك روحه. ثالثا: لقد سعيت إلى وحدة البلاد العربية، بينما يطرح الدكتور شاهين في مقدمته الأولى جدالا ويوجه اتهامات ضد البعض من هذه البلدان. رابعا: لقد عملت على الفصل جذريا بين «العقيدة اليهودية» التي نحترم ونجل نحن المسلمون أنبيائها وبين الصهيونية الناجمة عن القومية والاستعمار الأوربيين للقرن التاسع عشر، بينما يتجه الدكتور شاهين في تحديده «لليهود الأبدي» في اتجاه العنصرية. خامسا: يتعين على القارئ ان يعرف أنني رجيه جارودي، مؤلف الكتاب متبرئ كلية من المقدمتين القديمة والجديدة للسيد شاهين لأن كليهما تشوهان فكرتي وتساعدان على اكتناف الغموض واللبس. وفيما لو أرفقت احدهما مع كتابي أو أدمجت الأخرى فيه فإنني أود أن أعلن أنهما لا علاقة لهما بما أردت الإفصاح عنه. جنيف في 24 يونيو 1986م. القارئ العربي يختلف عن غيره هذا ما جاء في مذكرة جارودي إلى القارئ لكتابه، والواقع ان الكتاب الموجه إلى القارئ العربي في الترجمة العربية يتطلب ان يكون مراعيا لنوع من السياق الذي يوجد فيه هذا الإنسان اجتماعيا وسياسيا تجاه القضية الفلسطينية وإذا كان الكتاب في الحقيقة من حيث الدقة والموضوعية يستوعب المشاعر والأحاسيس العربية ويزيد بما حمله من زاد علمي دقيق تاريخيا وعقديا وسياسيا مع توثيق المصادر والمراجع التي يصعب على كثير من الناس المهتمين الوصول إليها، إلا أنه فيما يظهر لم يكن مرتاحا إلى الاتهام المباشر الذي جاء في مقدمة المترجم عبد الصبور شاهين رحمه الله. الترجمة فن ولهذا عبر المترجم عن هذا لموقف في المقدمة الملاصقة للكتاب أو ما اسماه المؤلف المقدمة الثانية إذ جاء فيها أولا استعراض الظروف الداعية إلى الترجمة. لقد كانت رغبة كريمة من وراء البحار أن أقوم بترجمة هذا الكتاب، لم أملك الاعتذار عنها، رغم شواغلي العلمية، وأعبائي الكبيرة. أجل، فقد أبلغني الأستاذ جارودي باقتراح أخي الكبير الأستاذ الدكتور محمود أبو السعود، المفكر الإسلامي الاقتصادي العملاق، في أمريكا أن أقوم بنقل هذا الكتاب إلى العربية، وما كان اقتراحه عندي إلا أمرا واجب الالتزام، فإن للدكتور أبو السعود عليّ من الحق الأدبي الكثير، ونحن إخوة وعكفت على الكتاب أقرؤه في أصوله، وأجمع ملاحظاتي عليه، وأتابع نقله إلى العربية، على المنهج الذي التزمته في ترجمة كتب الأستاذ مالك بن نبي، وفي نقل (دستور الأخلاق في القرآن) للدكتور محمد عبد الله دراز...الخ.. الترجمة نقد وإبداع وليست مرابحة والمترجم يرى أن الترجمة ليست مجرد نقل لا وجود فيها لظل المترجم بل الترجمة نقد إبداع جديد للنص المترجم وفي هذا يقول المترجم: وأنا أرى أن الترجمة ليست مجرد نقل حرفي لنص مكتوب، بل هي عمل نقدي إيداعي من الطراز الرفيع، يتحمل فيه المترجم من المسؤولية أمام قارئه في لغته عِدْلَ ما يتحمله المؤلف أمام قارئ لغته. فليست الترجمة عملية مرابحة، أو خبطة مالية، كسبت أو خسرت، كما يفعل الشادون من ممارسيها، ولكنها رسالة علمية، لابد أن يكون القائم بها أمينا على حروفها، وأفكارها، ناقدا لها، ناصحا لمؤلفها، مشيرا عليه بما يقوّم بعض الأفكار التي لا تخدم البناء العام للعمل المترجم. وقد أتاحت التقاليد العلمية للمترجم عند الاختلاف أن يعلق في الهامش، وأن يكتب مقدمة تبين فيها عن وجهة نظره بما يعين على اكتمال العمل. وقد فعلت، والحمد لله بما وسعه جهدي. غير أن الأستاذ جارودي أبدى رغبة أن تكون مقدمتي التي اتفقت معه عليها شفويا، منفصلة عن الكتاب، ملحقة به في غلاف مستقل. وكان له ما أراد، فبدأ الكتاب كما يرى القارئ الكريم من صفحة 33 واستقلت مقدمتي في ملزمتين، مرفقتين، عالجت فيها ما لم يتعرض له المؤلف من حقائق الصراع التاريخي والمستقبلي بين الإسلام وبني إسرائيل. امتياز الترجمة العربية للكتاب لقد تميزت هذه الترجمة العربية بأمور لم تظفر بها الطبعة الفرنسية، ومن أهمها: المقدمة، والهارس الفنية، إلى جانب الهوامش والتعليقات المبثوثة في أنحائها، والتي لم نقم بها إلا وفاء بالمنهج العلمي، وخدمة للقارئ الكريم. وهكذا يتضح ان المؤلف رغم ما جاء في مذكرته فهو على وفاق مع المترجم على صيغة معينة ليصدر بها الكتاب وهي صيغة اقرب إلى المحافظة على مقتضيات قانونية إلى الخلاف الفكري بين الرجلين رغم ما جاء في المذكرة إلى القارئ. ولكن لو تساءلنا عن هذه الروح التي عبرت عنها مذكرة المترجم نجد أن ما جاء في مؤلفات كارودي لا يتعارض مع هذه الروح وهو إذ يفصل بين اليهودية والصهيونية فصاحب الترجمة على نفس المنهج وهو يلخص موقف القرآن حيث يقول: القومية الصهيونية والذي يعنينا في هذه الرؤية القرآنية أن تتعلم الأجيال أن هذه القومية الصهيونية تتصف بصفات وخصائص مسجلة هي: 1 الخيانة : (ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم) 2 ومن مظاهر الخيانة نقض العهد والميثاق مع الله ومع الناس. 3 ومن لوازمها قساوة القلوب، والجرأة على التحريف والتزوير. 4 وأنهم يبغضون من عداهم من الشعوب، نتيجة أنهم يعيشون على البغضاء فيما بينهم، والعداوة أبدا، وهي لازمة لهم إلى يوم القيامة (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) . [الحشر 14]. 5 وأنهم يسعون في الأرض فسادا، يقتلون الأبرياء، ويشعلون الحروب، إمعانا في الإفساد، واستمرارا لغريزة العدوان المتأصلة في طباعهم. 6 وان الله أوعدهم بمن يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة، وهو مالا يمكن ان يتخلف، (وعد الله لا يخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [الروم 5]. وكل هذه وغيرها عناصر تقوم عليها بنية المستقبل المقدور لأبناء صهيون، وهي تجد مصداقيتها فيما ساقه المؤلف من وقائع تدمغ القادة الصهاينة بالخيانة، وبالمبادرة إلى العدوان، ونقض الوعود، وتحريف المعاهدات بما يوائم أهدافهم التوسعية، فليس كل هذا السلوك ببعيد عن إعلام القرآن فيما سبق، وإن تغافلنا عن العلاقة الوثيقة بينهما. التاريخ والجرائم الصهيونية والتاريخ المعاصر يسجل على هؤلاء جرائمهم البشعة ضد شعب كان آمنا بريئا، هو الشعب الفلسطيني، فإذا بهم ينقضون عليه في وداعته ومسالمته، يدمرون وجوده تدميرا شاملا، ولقد طوردوا وذبحوا وأحرقوا في أوربا، على أيدي النصارى، والفاشيين، فلم يثأروا من ظالميهم، ولم ينتقموا من قاتليهم، بل أفرغوا شحنة حقدهم على الضعفاء الآمنين الذين وسعوهم فيما بينهم، كما وسعتهم الشعوب العربية كلها، فلم يضق بهم احد، ولا عوملوا في التاريخ الإسلامي إلا بروح الإسلام الحضارية«اه. العين على استرداد سينا ونختم هذا الحديث في النزاع بين كاتب ومترجم أو بين كتاب ومقدمته خلاف أو وفاق ببعض ما جاء في تقرير أعدته جهات صهيونية عالمية ونشر وهو شيء نرى أثره ونلمسه في الواقع العربي الذي نعيشه. إذ جاء فيه: ثم تأتي الفقرات عميقة المغزى في هذا المقال، الذي أصدره التنظيم الصهيوني، وهو يكشف عن الرؤى المستقبلية التي تهيمن على امتداد الحلم الدهرى لإسرائيل الكبرى في تصور الصهيونية السياسية، وقد جاء فيه: »إن استعادة سيناء بمواردها الراهنة هدف ذو أولوية، تحول دون الوصول إليه حتى الآن اتفاقات كامب ديفيد، واتفاقات السلام... وبذلك حرمنا من البترول، ومن الموارد التي تصدر عنه، وتحملنا نفقات باهظة في هذا المجال، ويجب علينا أن نعمل حتى نستعيد الوضع الذي كان في سيناء قبل زيارة السادات، والاتفاق التعيس الموقع معه عام 1979م«. موت أسطورة الزعامة »إن الحالة الاقتصادية في مصر، وطبيعة نظامها، وسياستها القومية العربية سوف تنفتح على موقف يفرض على إسرائيل أن تتدخل... ومصر بفعل صراعاتها الداخلية لم تعد تمثل بالنسبة إلينا أية مشكلة إستراتيجية، ولسوف يكون من اليسير أن نردها إلى الوضع الذي عاشته عقب حرب يونيو عام 1967م، في أقل من أربع وعشرين ساعة«. لقد ماتت الأسطورة القائلة بأن مصر هي زعيمة العالم العربي ... وقد فقدت في مواجهتها لإسرائيل وبقية العالم العربي 50% من قوتها، وربما استطاعت أن تفيد على المدى القصير من استعادة سيناء، ولكن ذلك لن يغير تغييرا عميقا علاقة القوة، فمصر، من حيث هي جسد مركزي، قد صارت جثة ولاسيما إذا ما أخذنا في اعتبارنا المواجهة التي تتزايد عنفا بين المسلمين والنصارى فيها. خلق كيانات انفصالية إن انقسامها إلى أقاليم جغرافية منفصلة يجب أن يكون هدفنا السياسي خلال التسعينات على الجبهة الغربية، فإذا ما تصدعت مصر على هذا النحو، وحرمت من أية سلطة مركزية فإن بلادا أخرى، مثل ليبيا والسودان، وما هو أبعد منهما، سوف تواجه نفس الانقسام، فإنشاء دولة قبطية في صعيد مصر، وإنشاء دويلات أخرى إقليمية ذات أهمية ضعيفة هو مفتاح التطور التاريخي الذي أرجأه حاليا اتفاق السلام، ولكنه محتوم على المدى الطويل. وعلى الرغم من الظواهر فإن الجبهة الغربية أقل مشكلات من الجبهة الشرقية، وإن تقسيم لبنان إلى خمسة أقاليم يعطينا مقدما صورة عما ينبغي أن يحدث في مجموع العالم العربي، فتفجير سورية والعراق إلى أقاليم محددة على أساس مقياس عرقي أو ديني يجب أن يكون على المدى الطويل هدفا ذا ألوية بالنسبة إلى إسرائيل، والمرحلة الأولى هي تدمير القوة العسكرية لدى هذه الدول ثم إن البنية العرقية لسورية تعرضها لتفكيك قد ينتهي إلى إنشاء دولة شيعية على طول الشاطئ، ودولة سنية في منطقة حلب، ودولة أخرى في دمشق، ثم وحدة درزية يمكن أن تطمح إلى إنشاء دولتها الخاصة، ربما على أرضنا الجولان، وهي تتكامل في كل حال مع حوران وشمالي الأردن. إن دولة كهذه سوف تكون على المدى الطويل ضمانا للسلام وللأمن في المنطقة، وهو هدف مقدر في موضع اهتمامنا«. مستقبل وحاضر العراق والجزيرة من خلال التقرير أما العراق، الغنى بالبترول، وبالصراعات الداخلية، فهو على خط التسديد الإسرائيلي، فتفكيكه بالنسبة إلينا أعظم أهمية من تفكيك سورية، إذ هو يمثل على المدى القصير أخطر تهديد لإسرائيل، ولذلك، إن حربا سورية عراقية سوف تفيد في تذويبه من الداخل، قبل أن يكون بحيث يندفع في صراع واسع ضدنا. إن كل شكل من أشكال المواجهة بين العرب، بعضهم وبعض هو مفيد لنا، وهو تعجيل بساعة هذا التفجير، ولقد تؤدي الحرب الحالية ضد إيران إلى التعجيل بهذه الظاهرة المعبرة عن الاستقطاب«. »أما شبه الجزيرة العربية فهي مهيأة بأكملها لتحلل من هذا النوع، بفعل الضغوط الخارجية، وتلك هي بخاصة حال المملكة العربية السعودية، فإن تعاظم الصراعات الداخلية، وسقوط النظام هما جزء من منطق البنيات السياسية الراهنة«. »والأردن هدف استراتيجي عاجل، وهو على المدى الطويل لن يكون بوسعه أن يشكل تهديدا لنا بعد تحليله، فنهاية مُلْكِ حسين، ونقل السلطة إلى أيدي الأغلبية الفلسطينية، هما ما ينبغي أن تتوجه إليه السياسة الإسرائيلية، وهذا التغيير يعني حل مشكلة الضفة الغربية، ذات الكثافة السكانية العربية، وإن تهجير هؤلاء العرب إلى الشرق في ظرف سلام، أو على إثر حرب، وتجميد نموهم الاقتصادي والسكاني هما ضمانتا التغيرات المقبلة، ويجب أن نعمل كل ما في وسعنا لتعجيل هذه العملية. ويجب أن نرفض خطة الاستقلال الذاتي، وأية خطة قد تستتبع تسوية أو اشتراكا في الأراضي، أو تضع عقبة في طريق انفصال الأمتين، وهي شروط لازمة لتعايش سلمى حقيقي. الدولة اليهودية إن على العرب الإسرائيلي (الذين هم أصلا فلسطينيون) أن يفهموا أنهم لن يكون لهم وطن إلا في الأردن... وأنهم لن يعرفوا الأمن إلا إذا اعترفوا بالسيادة اليهودية بين البحر والأردن... فلم يعد ممكنا، ونحن ندخل إلى العصر النووي، أن نقبل تكديس ثلاثة أرباع الشعب اليهودي على شريط ساحلي مكتظ، ومعرض للخطر طبعا. إن توزيع هؤلاء السكان أصبح أمرا لازما في سياستنا الداخلية، فيهوذا، والسامرة، والجليل هي الضمانات الوحيدة لبقائنا القوى، فإذا لم نصبح أغلبية في المناطق الجبلية، فإننا نوشك أن نلقى مصير الصليبيين الذين فقدوا هذه البلاد«. »إن إعادة توزيع المنطقة على المستوى السكاني والاستراتيجي والاقتصادي يجب أن يكون مطمحنا الأساسي، وهذا يقتضي التحكم في موارد المياه في الإقليم، الذي يبدأ من بئر سبع إلى الجليل الأعلى، والذي هو اليوم خال من اليهود«أ ه . هذه خلاصة التقرير الذي جاء في مقدمة الكتاب والذي نقله المترجم عن الصحافة الإسرائيلية، وهو في الواقع برنامج يتم تنفيذه حاليا بتوءدة وروية وبخطة دقيقة تراعي المرحلية والنفس الطويل، وسواء كان هذا التقرير من وضع الأجهزة المخابراتية أو من وضع أجهزة إستراتيجية أو مجرد خيال كتبه حالم أو متخيل، فإن واقع الأوضاع في البلاد العربية شرقا وغربا وحتى البلاد الإسلامية يؤكد أن هذا الذي ورد في التقرير له ظلال وبصمات على ما يجري، والذي يجري لا يدعو إلى الاطمئنان، ومع ذلك فإن المسؤولين في دنيا العروبة والإسلام وذوي الرأي فيه يتجاهلون هذا الذي يحصل سواء كان مخططا مدروسا أو مجرد سياسية وما يترتب عنه من نتائج مدمرة حالا واستقبالا. فهل يتفطن الجميع قبل فوات الأوان؟